صفحة الكاتب : عبدالاله الشبيبي

الابتلاء سنةٌ جارية...
عبدالاله الشبيبي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

قال تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ سألني احدهم هل ان هذه الآية تشمل الجميع ام انها كانت خاصة بأصحاب طالوت في زمن النبي داوود عليه السلام عندما اراد الله عزوجل ان يختبر تحملها وصمودهم ويقيس صبرهم ويمتحنهم بالنهر. هل ينجحوا بهذا الاختبار ام لا؟.
اذ قلت له ان هذه الآية وغيرها من الآيات بل ان القران الكريم يصلح لكل زمان ويخاطب كل الاجيال، فلا يخاطب جيل دون جيل، وان هذا الآية سارية المفعول ولا يمكن لها ان تكون خاصة بجماعة دون اخرى، فلم تخصص لتلك الجماعة فحسب، لو كانت لهم خاصة لنتفت الحاجة اليها ولو انفنت هذه الجماعة لماتت هذه الآية بموت الجماعة، كما ورد عن الامام الصّادق عليه السلام قال: إذا نزلت آية على رجل، ثمّ مات ذلك الرجل ماتت الآية، مات الكتاب؛ لكنّه حيّ يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضى.
وعن أبي جعفر (عليه السلام) انه قال: أنّ القرآن حيّ لا يموت والآية حيّة لا تموت، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام ماتوا ماتت الآية، لمات القرآن، ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين. فان سنة الابتلاء لا يفلت منها احد وقد تتنوع ولكلاً نوعه الخاص به، منهم من يُبتلى بالمرض، ومن يُبتلى بالذرية الطالحة، ومن يُبتلى بالزوجة السيئة، ومن يُبتلى بالحكومة الفاسدة وهلم جرا... وبعد الرجوع الى اصحاب الاقلام واهل التفسير والفكر النير والاطلاع على ما دونوه في مؤلفاتهم بخصوص الموضوع سجلنا لكم التالي.
منذ أن يفتح الإنسان عينيه على هذه الدنيا، وإذا به ممتحن بكل شيء يتصل به؛ سواء كان خيراً أم شراً. فتراه مرة يبتلى بالغنى وأخرى بالفقر، ومرة بالصحة وأخرى بالسقم، ومرة بالأمن والاستقرار وأخرى بالهجرة والاضطراب.. وعلى هذا من الضروري للانسان وهو يمارس الحياة ونعمة الوجود أن يعرف أن الابتلاء جزء من وجوده دون أن ينفك عنه، ومن دونه تصبح حياته بلا روح وبلا هدف. المصدر: الإبتلاء مدرسة الاستقامة، ص2.
وقد قال الجوهري في الصحاح: والبلاء الاختبار يكون بالخير والشر، يقال أبلاه الله بلاءاً حسناً وابتلاه معروفاً، ويقول الحق المَتعال ﴿بَلاَءً حَسَنًا﴾، وعلى أي حال إن كل ما يمتحن به الحق جل جلاله عباده يدعى بلاءً أو ابتلاءً سواءً كان بالأمراض والأسقام والفقر والذل وإدبار الدنيا أو بما يقابل هذه الأمور، كأن يُختبر بكثرة الجاه والاقتدار والمال والمنال وبالزعامة والعزّة والعظمة.
اذ يقول العلامة مرتضى المطهري: كثيراً ما يَرِدُ في القرآن الكريم وفي الأحاديث: أنَّ الله قد ابتلى فلاناً من الأنبياء، أو من عباده الصالحين بالشّدائد، أو نقرأ أنَّ الله يرسل البلايا والمصائب على من هم موضع لطفه ورحمته الخاصة أو أنَّ الشَّدائد والمصائب هدايا إلهية، ومن ذلك مثلاً الحديث الذي يقول: إنَّ الله يتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرَّجل أهله بالهديَّة من الغيبة، أو الحديث الآخر القائل: إن الله إذا أحبَّ عبداً غتَّهُ بالبلاء غتَّاً، أو الرِّواية التي مضمونها أنَّ الرَّسول الأكرم لم يكن يَطعم من طعام من لم يرَ شدةٌ ولا مصيبةٌ، إذ كان يرى في ذلك علامةً على بعد ذلك الشخص من الله تعالى.
أنَّ الكثير من الكمالات لا يتحقَّق، إلّا إذا اصطدم الإنسان وفق القوانين الكونية بالشدائد والصعاب، وحدث بينه وبينها احتكاك عنيف، وبرز في ميدان المبارزة والصراع مع الحوادث.
ويضيف ولا يعني هذا انَّ أثرَ الشّدائد والمصائب هو مجرَّد ظهور جوهر الإنسان الأصيل، أي أنَّ لكلِّ إنسانٍ جوهره الأصيل المختفي كالمعدن تحت التراب، وأنَّ الشدائد لا تفعل شيئاً سوى الكشف عن ذلك الجوهر فحسب، كلا، ليس الأمر كذلك، إنه أرفع من ذلك، فالشّدائد والمصائب والبلايا تعمل أيضاً على تكامل الإنسان وتبديله وتغييره، إنها كالكيمياء التي تبدل المعدن من حال إلى حال، إنَّها بنّاءة، تخلق من الإنسان إنساناً آخر، وتحيلُ الضَّعيف قوياً، والوضيع رفيعاً، والفجَّ ناضجاً، إنها تنفي وتزيل الشّوائب والصّدأ، إنّها تثير وتحرك وتشحذ الذكاء وترهف المشاعر، وتزيل الوهن والتراخي. المصدر: محاضرات في الدين والاجتماع، ص263.
وعليه فان الابتلاء والبلاء هو الإمتحان والاختبار، ويكون الابتلاء في الخير والشر، قال تعالى: ﴿ونبلوكُم بالشَّرّ والخير فتنةً﴾. وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾. وقال تعالى: ﴿وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾. وقال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾.
وكما ترى فإن كلمة الإبتلاء والبلاء في الآيات الشريفة مرتبطة بكلمة الفتنة والامتحان، وهما تحملان نفس المعنى وهو الإختبار والإمتحان، ولكن الفرق بين الإبتلاء والفتنة، هو أن كلمة الإبتلاء تعني واقع الإبتلاء وحاله، أما الفتنة فهي النتيجة المنبثقة عن الإبتلاء، وعليه فإن معنى الإبتلاء هو حال وواقع الإبتلاء والفتنة هي النتيجة له. والآيات مرة تطرح الفتنة مقترنة بالإبتلاء في نفس الآية، ومرة نجد كلمة الفتنة لوحدها، ومرة كلمة الإبتلاء لوحدها.
فإن الفتنة هي نتيجة الإمتحان والإختبار التي ربما تكون استدراجا وبعدا عن الله تعالى، وربما تكون نجاحا وترقية ومزيد قرب من الله، وأما الإبتلاء فهو حال وواقع الإبتلاء من جميع نواحيه. المصدر: الإبتلاء ُسنَة إلهية على بساط العبودية، ص6.
والإبتلاء: هو تعرف من الله تعالى إلى عبده، حتى يقيم الحجة عليه، وحتى يشهد العبد ويظهر حقيقة ظاهره وباطنه أمام الله تعالى، وهذا التعرف يطلق عليه العلماء العارفون بالله التعرف الجلالي وقد يصل البعض كالأنبياء وأهل البيت والصديقين من الأولياء إلى درجات عالية من التمكن الإيماني ويعتبرونه عطاء جماليا.
﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ أي مختبركم وممتحنكم ومعنى الابتلاء هاهنا تمييز الصادق عن الكاذب، وكان سبب ابتلائهم بالنهر شكايتهم قلة الماء وخوف التلف من العطش، وقيل إنما ابتلوا بذلك ليصبروا عليه فيكثر ثوابهم ويستحقوا به النصر على عدوهم وليتعودوا الصبر على الشدائد فيصبروا عند المحاربة ولا ينهزموا. المصدر: تفسير مجمع البيان الطبرسي.
وقال صاحب الميزان: الابتلاء والبلاء بمعنى واحد تقول: ابتليته وبلوته بكذا، أي امتحنته واختبرته، إذا قدمت إليه أمرا أو أوقعته في حدث فاختبرته بذلك واستظهرت ما عنده من الصفات النفسانية الكامنة عنده كالإطاعة والشجاعة والسخاء والعفة والعلم والوفاء أو مقابلاتها، ولذلك لا يكون الابتلاء إلا بعمل فإن الفعل هو الذي يظهر به الصفات الكامنة من الإنسان دون القول الذي يحتمل الصدق والكذب قال تعالى: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾.
ثمَّ إنَّ الابتلاءات‏ الإلهية على نحوين: قهرية اعتيادية، كالمرض والحوادث والسقوط من شاهقٍ، واختياريّة. والاختياريّة على نحوين: ما كان باختيار الإنسان، كما لو ألقى بنفسه في المصاعب، وما كان باختيار الآخرين، وهو بمنزلة القهري بالنسبة للمبتلى، وإن كان ليس قهريّاً بالنسبة إلى الفاعل، كما لو تسلّط الآخرين عليه، فيبتلى ببلاءٍ من الله تعالى على يد الظالم، وهو القائل في الحديث القدسي: الظالم سيفي أنتقم به وأنتقم منه؛ لأنَّه ــ أعني: الظالم ــ مسؤولٌ عن أعماله، ولأنَّه أوجدها باختياره، لا بالجبر من الله تعالى. المصدر: منة المنان، ج‏3، ص292.
إن الله إذا أحبَّ عبداً غتَّهُ بالبلاء غتّاً، والغتّ بمعنى الغمس في الماء؛ أي: إنّ الله إذا أحبَّ العبد غمّسه في الشّدائد وألقاه فيها، فلماذا؟ لكي يتبيّن طريق الخروج منها، لكي يتعلّم السباحة في محيط البلاء، فما من وسيلة أخرى غير ذلك. إن لطف الله ومحبّته هي التي تضع الإنسان في مواجهة المشكلات، وهي التي تتيح للإنسان أن يتعلّم السباحة في محيط الحوادث ليخرج منها سالماً. إنَّ ذلك، ولا شكَّ دليلَ المحبّة واللّطف.
واذا عدنا الى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ أي مختبركم وممتحنكم بنهر، وكان طالوت قد سار بهم في أرض قفرة فأصابهم عطش شديد. وفي هذا الابتلاء اختبار لعزيمتهم، وامتحان لصبرهم على المتاعب حتى يتميز من يصير على الحرب ممن لا يصبر، ومن شأن القواد الأقوياء العقلاء أنهم يختبرون جنودهم قبل اقتحام المعارك حتى يكونوا على بينة من أمرهم. ثم بين لهم موضع الاختبار فقال﴿فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾. المصدر: تفسير الوسيط، الطنطاوي.
إنّ من أعظم الإبتلاءات التي تبتلى بها المجتمعات الإنسانية هو تزعزع الثقة بين صفوفها وعدم الإطمئنان فيما بينها، وأمارة ذلك هي الأقوال البعيدة عن الإلتزام والإدّعاءات الفارغة من المحتوى العملي، وأداة ذلك هم الأشخاص الذين يقولون ما لا يفعلون، وبذلك فهم يشكّلون بؤرة عميقة مخيّبة في قبال حالات الإنسجام والوحدة والتماسك أمام المشاكل التي تواجههم، بل يشكّلون عاملا للضعف والتباغض وعدم الإحترام وتضييع الإمكانات وسقوط هيبتهم أمام الأعداء. المصدر: تفسير الامثل.
وقد قيل: لأعمال الإنسان دور في وقوع المصائب والبلايا، وهي جميعاً موافقة للحكمة وغاية الخلقة، فإن الغرض من خلقة الإنسان وصوله إلى الكمالات المعنوية الخالدة، وتلك المصائب جرس الإنذار للغافلين وكفارة لذنوب المذنبين وأسباب الارتقاء والتعالي للصالحين.
البلاء والفتنة سنّة الله في الأرض، فلابدّ من بلاء واختبار، وهذا هو شأن الحياة الدنيا التي خُلق الإنسان فيها ليُبتلى، فهي دار ابتلاء وامتحان، وقد تعرضت جميع المجتمعات البشرية للامتحان عبر مراحل التاريخ.
والبلاء بمعنى الاختبار والامتحان يرافق المؤمنين في كل مراحل حياتهم، وأشدّ الناس بلاءً هم الأنبياء، قال رسول الله (ص): أشد الناس بلاءً في الدنيا النبيّون ثم الأماثل فالأماثل، ويبتلى المؤمن على قدر إيمانه وحسن عمله، فمن صح إيمانه وحسن عمله اشتد بلاؤه، ومَنْ سخف إيمانه وضعف عمله قل بلاؤه. والبلاء أسرع إلى المؤمن التقي من المطر إلى قرار الارض.
وفي نهج البلاغة: إن الله يبتلي عباده عند الاعمال السيئة بنقص الثمرات، وحبس البركات، وإغلاق خزائن الخيرات، ليتوب تائب ويقلع مقلع، ويتذكر متذكر، ويزدجر مزدجر.
والامتحان او البلاء اما ان يكون لزيادة الدرجات وبلوغ المنازل الرفيعة وهذا خاص بالانبياء عليهم السلام والاوصياء ثم الامثل فالامثل، واما ان يكون لتطهير النفوس مما علق بها من ادران واوساخ "ذنوب واثام" فهو تكفير لما اجترحت الايدي من ظلم وبغي ولما قامت به النفوس من حسد وغيبة ونميمة وكل مانهى عن الدين.
ان العبد ليمتحن في كل يوم من حياته امتحانات عدة حسب قابليته واستعداده، فطوبى لمن وفق في امتحانات الله تعالى بعزم ثابت وارادة قوية مستمداً التوفيق منه تعالى، فهذه هي الارادة الحقيقية التي يجب ان تبحث عنها التربية الحديثة وان تعمل في تنميتها. المصدر: التكامل في الاسلام، ج1، ص72.
وفي كل مرحلة من مراحل البلاء يكون الهدف هو اليقظة؛ أي أن يستيقظوا، وينتقدوا أنفسهم، ويعودوا الى رشدهم، ويعترفون بخطأهم وانحرافهم، ليعودوا الى الله جل وعلا، والى القيم الحقة، والصراط المستقيم، وينعموا في الحياة الدنيا والآخرة.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عبدالاله الشبيبي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2018/07/23



كتابة تعليق لموضوع : الابتلاء سنةٌ جارية...
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net