صفحة الكاتب : عبدالاله الشبيبي

علي وسقراط
عبدالاله الشبيبي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 عنوان لكتاب من تأليف جورج جرداق ضمن موسوعته العريقة "الإمام علي صوت العدالة الإنسانية" والتي تناول فيها جوانب عديدة من حياة الإمام علي (ع) مُقارنها مع بعض العباقرة والشخصيات الكبيرة والإحداث التاريخية والوقائع الإنسانية تجد إن علياً رائدها وقائدها.
 ففي هذا الجزء يأخذك المؤلف الى الجذور التاريخية القديمة إلا وهي حياة الفيلسوف والحكيم سقراط الذي أغنى الفكر بالفلسفة والمنطق كما هو الإمام علي ابن أبي طالب الذي أغنى الفكر بالبلاغة والإبداع والحديث والحكم. 
 اذ يقارن المؤلف بين الإمام علي وسقراط في مجموعة من النقاط ومنها وثيقة إعلان حقوق الإنسان، والعدالة الكونية وعظيم أثينا وعظيم الكوفة، ومن روائع سقراط ومن روائع علي. 
 حيث يقول لقد مزق ابن أبي طالبٍ صور الاستبداد والاستئثار حيث حطّت له قدم، وحيث سمع له قول، وحيث أشرق سيفهُ مع نـور الشمس، وسوّى بها الأرض ومشّى عليها الأقـدام. ثم قضى شهيدَ الدفــاع عن حقوق الأفـراد والجماعات بعـد أن استشهد، في حياته، ألف مـرّة.
 ويقارن بين وثيقة حقوق الإنسان التي وضعها ألوف من المفكرين ووضع الدستور العلوي عبقري واحد، ان واضعوا هذه الوثيقة قد ملأوا الدنيا عجيجاً فيما تواضع علي ولم يستعل ولم يتكبر، ان الدول التي أسهمت في وضع هذه الوثيقة هي التي سلبت الانسان حقوقه فيما مزق علي الاستبداد والاستئثار. 
 وأدرك ابنُ أبي طالب في أعماقه أنّ المقايسة تصحّ أصلاً وفرعاً بين السماء والأرض اللتين قامَتا بالحقّ واستَوَتا بوجوهه المتلازمة الثلاثة: الصدق والثبوت والعدل، وبين الدولة التي لابدّ لها أن تكون صورة مصغّرة عن هذا الكون القائم على أركان سليمة ثابتة، فإذا به يحيا في عقله وضميره هذه المقايسةَ على صورة عفوية لا مجال فيها لواغلٍ من الشعور أو لغريبٍ من التفكير. 
 ثم يقول: كلاهما كان في عهده مظهراً لمجتمع جديد وحاجات جديدة فراح يهدم ويبني، فعادوه وتألبوا عليه، فثبت لهم كالطود الراسخ وازداد بالحق أيماناً. وكلاهما جابه الطغاة والوجهاء وكانزي الذهب وأهل السلطان وأصحاب الجيوش بسلامة الفطرة الإنسانية وقدرة العقل وحرارة القلب ووهج الضمير والإيمان بخير الحياة، وكلا الرجلين تراث للإنسانية عظيم. 
 ان كلاً من سقراط وعلي برزت فصول حياته العامة في بلد كثر فيه الوجهاء والمستغفلون وطلاب الحكم وأنصارهم والمستنفعون بهم، في عهد عمت فيه الفوضى، وانحرفت مقاييس التصرفات والأخلاق العامة. 
 وكلاهما نشأ قبل ذلك نشأة حسنة عن طريق الاتصال المباشر بعظيم او عظماء، حيث نشأ كل منهما في عصر حروب فكان سقراط محارباً عنيداً يهابه الخصم كذلك كان علي، وكان سقراط شجاعاً قلما تحدث الرواة عمن يساويه في مرتبه الشجاعة كذلك كان علياً عليه السلام. 
وان علياً وسقراط وان باعدت بينهما ظروف ومناسبات وأزمات، لتجمع بينهما آفاق الكاملين من أبناء ادم وحواء، أوليك الذين ما عملوا عملاً الا رأينا فيه صورة الإنسان المتفوق العظيم في كل ارض، وما قالوا قولاً إلا أصغينا في ضمير الإنسان المتحد بعدالة الوجود وقيم الحياة. 
وان أول ما يطالعك من أخلاق سقراط الشخصية ومن صفاته انه كان صبوراً عظيم الصبر يبتسم للمتاعب مهما تكاثرت ولا يعبأ بالآلام مهما طغت وتراكمت، كما هو الإمام علي عليه السلام كان صابراً على ما يؤذيه منهم كما تصبر الدوحة على جنون الرياح، إذا كانت حياته كلها سلسلة من صمود اثر صمود في وجه الأعاصير، والآلام تغزوه من كل جانب وأهواء الوجهاء والمستنفعين تدبر عنه مع الدنيا فتحاول إن تسلبه محاسن نفسه، وهو راسخ في إيمانه.
وإما الفضائل الأساسية في أخلاقيات سقراط فهي الحكمة أو الفضيلة الأساسية الكبرى التي تربط الإنسان بكل ما في الوجود، ثم الفضائل الشخصية المنبثقة عنها وفي طليعتها الصبر والاعتدال والشجاعة والعدالة.
والمعرفة عند علي محبة وحياة وصداقة للوجود، فإذا شئت إن تحب ويحتا وتصادق الكون في نهجه، فاعرف! إما إذا شئت إن تعاديه فامسك نفسك على الجهل به. وإذا كان الأمر كذلك أفليس الأولى بالمرء إن يعرف نفسه أولاً لئلا ينفصل عنها بظلمة الجهل.
 ومن تتبع سير العظماء الحقيقيين في التاريخ لا فرق بين شرقي أو غربي، ولا قديم ولا محدث، أدرك ظاهرةً لا تخفى وهي أنهم، على اختلاف ميادينهم الفكرية وعلى تباين مذاهبهم في موضوعات النشاط الذهني، أدباء موهوبون على تفاوت في القوة والضعف. فهم بين منتج خلاّق، ومتذوق قريب التذوق من الإنتاج والخلق. حتى لكأنّ الحس الأدبي، بواسع دنيواته ومعانيه وأشكاله، يلزم كل موهبة خارقة في كل لون من ألوان النشاط العظيم.
أن الدولة في رأي سقراط إن لم ترع الناس على السواء وتجعلهم واحداً في الحقوق والواجبات ومتساوين إمام النظم والقوانين، هي دولة مصيرها الضعف والانحلال فالموت، وان العدالة السليمة الصريحة هي وحدها قانون البقاء للدولة، وبغير هذا فان الظلم يسود وتفسد الأخلاق وتعم الرشوة وتضطرب العلاقات والمقاييس، فإذا الناس في غاب له مظهر المدينة وشريعة الغاب.
في حين يقرّر عليّ أنّ المجتمع الصالح هو المجتمع الذي تسوده العدالة الاجتماعية بأوسع معانيها وأشرف أشكالها، إنّما يسن قانوناً أو ما هو من باب القانون. ولكنّ هذا القانون لا ينجلي في ذهنه ولا يصبح ضرورة، إلاّ لأنّه انبثاقٌ طبيعيّ عما أسميناه روح العدالة الكونية الشامة، التي تفرض وجودَ هذا القانون. لذلك نرى ابنَ أبي طالب ملحّاً شديد الإلحاح على النظر في ما وراء القوانين وعلى رعايتها بما هو أسمى منها: بالحنان الإنساني. 
أضفْ إلى ذلك أنّ عليّاً الذي يعطف على الناس عموماً وعلى الضعفاء خصوصاً، يفرض على الخُلق الكريم أن يكون اشد حناناً على المرأة لأنّها مستضعفة إن لم تكن ضعيفة، فيقول: وانصروا المظلوم وخذوا فوق يد الظالم المريب وأحسنوا إلى نسائكم. ويقول في مكان آخر: أمركم بالنهي عن المنكر والإحسان إلى نسائكم.
في نظر الإمام علي الخير بين الناس يكمن في أن يتعاونوا ويتساندوا، وأن يعمل واحدهم من أجل نفسه والآخرين سواء بسواء، وألا يكون في هذا العمل رياء من جانب هذا ولا إكراه من جانب ذاك لكي "يعمل في الرغبة لا في الرهبة" على حد ما قوله عليه السلام، ثم أن يضحي بالقليل والكثير توفيرا لراحة الآخرين واطمئنان الخلق بعضهم إلى بعض، وأن تأتي هذه التضحية مبادرة لا بعد سؤال ولا بعد قسر وإجبار. وكل ما من شأنه أن ينفع ويفيد، سواء أكان ذلك على صعيد مادي أو روحي، كان خيرا.
كما ويرى أن الخير لا يأتي إلا عملاً أولاً، ثم قولاً، لأن الإنسان يجب أن يكون واحداً كالوجود الواحد، وأن يساند بعضه بعضاً وفاءً لهذه القاعدة: فإن قال فعل، وإن فعل قال. ويؤمن الإمام بان قوى الخير في الإنسان تتداعى ويشد بعضها بعضا شدا مكينا. فإذا وجد في إنسان جانب من الخير فلابد من ارتباطه بجوانب أخرى منه، ولابد من ظهور هذه الجوانب عند المناسبات، وفي هذه النظرة إشارة صريحة الى ان الوجود واحد متكافئ عادل خير سواء اكان وجوداً عاماً كبيراً او وجوداً خاصاً مصغراً يتمثل بالإنسان: إذا كان في رجل خله رائقة فانتظروا أخواتها.
وفي دعوته أن يلتفّ الناس جميعاً، ثم الناس وسائر الكائنات، بدفء الحنان، فيقول في العلم: رأس العلم الرفق. وهو لا يرى في كثرة الذنوب ما يهول أكثرَ من أنها مدعاةٌ إلى القسوة بحُكم تَعَوُّدها، ومن ثمّ فهي سببٌ في نفورٍ باردٍ يحلّ في القلوب محلّ حنانٍ دافئ، فيقول: ما جفّت الدموع إلاّ لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلاّ لكثرة الذنوب! وإذا لم تكن من أهل الذنوب فأنت من أهل الحنان ومن حقك أنْ تبذل بهذا الحنان كلّ ما تملك لنصرة أخيك الإنسان: فإن كنتَ من أخيك على ثقةً فابذلْ له مالك ويدك، وأعنْه، وأظهِرْ له الحسن.
وفي لحظاتٍ فذّة من تألّق العقل المكتشف والفكر النافذ، تبدو لعينَيْ ابن أبي طالب ألوانٌ ساطعة من هذا الوجه من وجوه العدالة الكونية، لا يسعك إزاءها إلاّ أن تُعجَب بهذا العقول وهذا الفكر. أفَلا ينطق بلسان علماء العصر الحديث كما ينطق بلسان هذه العدالة نفسها ساعةَ يقرّر هذه الحقيقة: مَن أساء خلقَه عذّب نفسه! ثمّ، لا ينطق بهذين اللسانين معاً إذ يقول: يكاد المريب يقول: خذوني وإذ يقول أيضاً: فأكرِمْ نفسَك عن كلّ دنيّةٍ وإن ساقَك رغَبٌ فإنّك تعتاض بما ابتذلتَ من نفسك!.
يقول: ويحاسبك على الصغيرة قبل الكبيرة. وإنّما قال ذلك لأن الأكثرية من الناس لا يأبهون لـ(الصغيرة)، فإذا به يلفت أنظارهم إلى هذه الصغيرة بتقديمها على الكبيرة في ما تستلزم من عقاب أو ثواب، لكي يطمئنّ إلى حدوث عمليّة التسوية بينهما في الأذهان والقلوب.
ويقول: كم من أكلةٍ منعت أكلات ومن ضيّعَه الأقرب أُتيح له الأبعد وربّ بعيد هو أقرب من قريب والمودة قرابة مستفادة. ومَن حمْل نفسه ما لا يُطيق عجز ولن يضيع أجر مَن أحسن عملاً وما كسبتَ فوق قوتك فأنت فيه خازن لغيرك.
ويقول: موت الإنسان بالذنوب أكثر من موته بالأجَل، ولا مروءَة لكَذوب ولا راحة مع حسد، ولا سؤدد مع انتقام، ولا صواب مع ترك المشورة. وإذا كانت في رجلٍ خلّةٌ رائقة فانتظروا أخواتها!.
وهكذا أدرك عليّ بن أبي طالب أنّ الكون واحد، عادلٌ، ثابتٌ في وحدته وعدله، جاعلٌ في طبيعة الكائنات ذاتها قوّةَ الحساب والقدرةَ على العقاب والثواب، وهكذا عبّر عمّا أدركه أروع تعبير. 
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عبدالاله الشبيبي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2018/06/05



كتابة تعليق لموضوع : علي وسقراط
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net