صفحة الكاتب : د . حامد العطية

1400 عاماً من الفشل
د . حامد العطية

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

  كان للهجرة النبوية أبعاد، فعلي متعلق بتغيير المكان، ومعنوي ينبذ تراثاً متخلفاً ويستبدله بمنهج إنساني قويم، وبعد ثالث يتجاوز حدود المكان والزمان، كوني في انطباقه، وتطوري في مسيرته عبر الزمن.

    جوهر الاسلام هجرة، من الجهل إلى المعرفة، لذا كانت أول كلمة منزلة: اقرأ، وفدية الأسير تعليم القراءة والكتابة، لكننا خالفنا الأمر الرباني، وأهملنا الإرشاد النبوي، وظلت القراءة والكتابة حكراً على أصحاب السلطة والأثرياء والقلة الطامحين، وفي الحاضر الذي محيت الأمية فيه من بلاد غير المسلمين أو تكاد ما زال أكثر من نصف المسلمين أميون، وهو مؤشر على الفشل الذريع.

     لا يوجد دين يضاهي الإسلام في حثه على طلب المعرفة، ولو كانت في الصين، ومن المهد إلى اللحد، المأمون العباسي المعتزلي والحاكم بأمر الله الفاطمي الإسماعيلي استثناءان نادران على معظم الحكام، في رعايتهما للعلم والعلماء، ويؤكد غسان إبراهيم وعلي شاش بأن التقدم المعرفي أثناء حكم العباسيين " لم يكن نتيجة برنامج حكومي وضع عن سابق قصد وتصور من قبل دولة الخلافة هذه، وإنما تحقق بفعل آلية التطور العفوي للمجتمعات والشعوب" ( بنية الدولة الشرقية: محاولة في دراسة وتحليل الاستبدادية والمركزية: الدولة العباسية نموذجاً. دمشق: دار الجندي، 1993، ص 85)، دفع الخوف من جور السلطة بجابر بن حيان للفرار من بغداد إلى طوس، وابن سينا سجن أكثر من مرة، وابن الهيثم اتهم بالزندقة وطورد من البصرة إلى بغداد ثم القاهرة، واحرقت كتب ابن رشد وكاد أن يدان بالكفر، وجلدوا الكندي وصادروا مكتبته، واعدموا ابن الزيات وأبو الحسن الطوسي والطغرائي، ولعل أسوء الحكام في تعاملهم مع العلماء السلطان محمود الغزنوي السلفي، ويذكر سليمان فياض بأن هذا السلطان قبض على جمهرة من العلماء " وعقد لهم محكمة سريعة، اتهمهم فيها بالكفر والزندقة لأنهم يشتغلون بعلوم لا يفيد منها إلا القرامطة، أعداء مذهب أهل السنة، وأمر بإلقاء عدد كبير منهم، من برج في قلعة قصره، فلقوا حتفهم وكان من بينهم العالم الفلكي، عبد الصمد الحكيم، أستاذ البيروني، وكاد البيروني يلقى نفس المصير لولا تدخل رجال بلاط القصر، فأمر السلطان بتحديد إقامته." ( البيروني: عالم الجغرافيا الفلكية. القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1992، ص 24).

      ومن المفجع بأن المسلمين اليوم أقل الأمم انتاجاً للعلم والمعرفة، إذ يقل معدل انتاج الدول العربية والاسلامية للمعرفة - بإستثناء إيران الإسلامية - عن المعدل العالمي بدرجات، وهو الفشل بعينه في عصر المعرفة والمعلومات.

     في الاقتصاد أيضاً المسلمون يستهلكون أكثر مما ينتجون، في الماضي والحاضر، وكل مؤسساتهم الاقتصادية نسخ مطابقة أومحورة لمؤسسات اقتصادية غربية، بعضها متناقض مع تعاليم الإسلام، وكان الاقتصاد الاسلامي في عهود الامبراطوريات الأموية والعباسية والمملوكية والعثمانية ريعياً بإمتياز، يعتمد الخراج والجزية، وما زالت اقتصاديات كثير من الدول الاسلامية متخلفة، معظم مواردها من عوائد النفط والموارد الطبيعية وتحويلات العمالة المغتربة، عندهم أراض خصبة ومياه وفيرة وقوة عاملة لكنهم يستوردون معظم غذائهم، لديهم النفط والغاز ويشكوا الملايين منهم من الظلام والبرد، والبعض منا يتفاخرون بأن في أوروبا اليوم عشرات الملايين من المسلمين متناسين بأن غالبيتهم العظمى هربوا من جور الحكام وفقر مجتمعاتهم وقلة فرص العمل والرزق فيها، فالدول الاسلامية هي الأقل تطوراً والأبطأ نمواً والأشد فقراً والأعلى في معدلات البطالة، وهنا أيضاً دليل على الخيبة.

     إن كان معيار النجاح في السياسة ترامي أطراف امبراطوريتهم وأعداد رعيتهم فأجداد المسلمين من الأمم الناجحة، وكذلك الاغريق بقيادة الاسكندر المقدوني والمغول بأمرة جنكيز خان واوروبا تحت حكم الامبراطور نابليون وبريطانيا الاستعمارية، فبئس الرفقة، لكن المقياس الحق لنجاح النظام الاسلامي السياسي هوعدل الحكام، لذا نحن فاشلون في السياسة أيضاً، وفشلنا ذريع، فكل جيل من المسلمين إلا ما ندر كابد حكم طاغية أو طغاة، يدعون لهم بطول العمر علانية، وبالهلاك في الخفاء، وأكثر الحكومات طغياناً وظلماً وفساداً وكبتاً للحريات في بلاد المسلمين، وأغلبهم في الوقت الحاضر محتلون أو تابعون للأجنبي، وتستعر بينهم الصراعات العرقية والمذهبية والحزبية، ومنذ نصف قرن فقط طبق البعض منهم نسخاً مشوهة للنظم البرلمانية الغربية، فشل معظمها، وسقط بعضها بإنقلابات عسكرية، واقصى ما تطمح له اليوم بعض النظم السياسية قيد التكوين في عدد من الدول الإسلامية تكوين نظام برلماني غربي مقنع بشعارات إسلامية، فيما ما زال آخرون يحلمون بإحياء دولة الخلافة، في الوقت الذي  يقرون بأن عدد الراشدين من بين مئات الخلفاء والسلاطين الذين حكموا بلاد المسلمين أربعة فقط، أو بالأحرى ثلاثة ونصف لأن حكم عثمان، في تقييمهم، اتصف بالرشد لنصف مدته .

   عندما تكون النظم السياسية والاقتصادية والتعليمية بهذه المواصفات فلا بد أن تكون العلة في الفرد والمجتمع، فالجميع بالضرورة فاشلون.

   في الصورة بقع ملون ومضيئة، ولكنهم مجرد عشرات الملايين من أصل مليار، لذا تبقى الصورة قاتمة ومحبطة.

      من المسؤول عن فشل المسلمين؟ الغالبية العظمى منهم، التي احتكرت السلطة، وتحكمت بالمنافع، وفرضت فهمها للدين، واضطهدت مخالفيها في المذهب والرافضين لتسلط الحكام.

   العلاج في الاسلام أيضاً، الأصل لا الصورة المشوهة، الأصل الذي أهمله السلف لأنهم لا يطيقونه، كما قالوا لأبي ذر الغفاري رضي الله عنه، قبل أن ينفوه، لا الصورة المحرفة التي اختارها أكثرهم وما زلنا ننوء بأوزارها حتى اليوم، الأصل أراد للمسلم أن يكون مؤمناً عابداً عادلاً فاضلاً متعلماً عالماً منتجاً، وأن تكون مؤسساته أصيلة ومصادر قوته ذاتية ومنابع ثقافته داخلية، أن يدرك بأن النجاح الكامل هو أن يكون فرداً متألقاً ضمن أمة مقتدرة وفعالة، يرفد بإنجازاته الفردية أمته وهي بدورها تغذي عطاءه الخاص، وان تكون هو وهي الأوائل في كل مسارات الرقي والتقدم والازدهار، آنذاك تصبح الصورة كلها لا بعضها بهيجة، ونطوي مجلدات الفشل لنفتح صفحات النجاح.

   هل يقرٌ غالبية المسلمين بأنهم كانوا ومازالوا وعلى مدى 1400 عاماً فاشلون وعليهم العودة للجذور ليتعلموا من جديد جوهر الإسلام؟ قبل أن يتسرعوا بالجواب ليتذكروا شهادة المسجد الأقصى المحتل على تخاذلهم، وليعلموا بأن أكبر ظلم لحق بالإسلام هو فشل غالبية المسلمين عبر الزمان والمكان.

7 كانون الأول 2011م

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . حامد العطية
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/12/09



كتابة تعليق لموضوع : 1400 عاماً من الفشل
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 1)


• (1) - كتب : محمد حسن ، في 2011/12/10 .

السلام عليكم سيدي الدكتور قرأت مقالكم الغني عدة مرات فوددت ان اضيف اضافة يسيطة وهي ان جلد العلماء بدأ
عند المسلمين بعد وفاة الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم دعي الناس الى حرق الاحاديث الشريفة ومنعهم من
تداولها او نشرها بحجة حسبنا كتاب الله وبذالك تعددت التفاسير وتسلط رأي الحاكم وهذا العمل بنظري لايختلف
عن عمل الجلاد السلفي بل هو امتداد طبيعي للجلاد الاول
وسيعلم اللذين ظلموا اي منقلب ينقلبون وشكرا




حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net