من عالم الأمر قد تنزلت كلماته النورانية، فمضامينه العالية لم يخامرها هوى ولا عصبية، ولم تتقيد بقومية ولا حزبية، بل هي أعلى وأسمى من أن تكون كذلك، فرسالته تستثير كوامن العقول وخطابه لكافة البشرية.
فما الذي حظيت به هذه الأمة المعنيّة بهذا الكتاب العزيز من وراء رسالته؟
يتعاملون معه باحترام وتقديس، بيد أنهم في غفلة عما يحتويه ذلك الكتاب من مضامين سامية، تخرجهم من الظلمات إلى النور، وتجعلهم في رغد من العيش والوفور، وتزيد عليهم من البركات والحبور، وتجعلهم أمة عزيزة لا تقهر.
فلا يزال هذا الكتاب يصدع بما فيه من حجج وبراهين ومعارف وحقائق، حتى أنه لوضوح بيانه، وقوة إيقاع كلماته، وما يفتحه من آفاق للعقول، يدوّي بكل مسلم ومسلمة فينادي: اعلموا أني القرآن الكريم. الذي لا يأتيني الباطل من بين يدي ولا من خلفي. لعل وعسى تنتبه لذلك حواسهم، وينقشع ركام الغفلة عن قلوبهم، وتنحسر سحاب العمه عن بصيرتهم.
وإذا قرأت في سور القرآن الكريم، وتدبّرت في آياته ومفرداته، بل إذا دقّقت النظر في كل حرف من حروفه فلن تجد إلا الحق والصواب، وإن من وراء كل حرف معاني تروم إليه العقول، وسترى أن مفردة قرآنية واحدة لها أن تفتح لك آفاق من النور والمعرفة، عندها يأخذك الانبهار أيما مأخذ، فيقشعر جلدك لِمَا مسّ وجدانك من عظمة لهذا الكتاب، الذي أنزل من لدن حكيم عليم.
ودقائق القرآن كثيرة عجيبة منها هذا النموذج الذي يدلل على دقّة هذا الكتاب الكريم:
حرف السين مثلاً الذي يدل على الاستقبال في قوله تعالى: (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَىٰ)
[سورة اﻷعلى 10]
بينما لا نجد ذلك الحرف في الآية التي تليها؛ إذ يقول تعالى:(وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى)
[سورة اﻷعلى 11] ولم يقل سيتجنبها.
فوجود السين في الآية الأولى وعدم وجودها في الآية الثانية هو لأن الذكرى مرحلة لا تأتي إلا بعد الخشية التي تعني مراقبة الأعمال وتقوى النفس مع الخوف والملاحظة على حد تعبير صاحب كتاب التحقيق في كلمات القرآن، فبعد الالتزام بالخشية تحصل الذكرى، وهي - أي الذكرى- مرحلة أعلى مستوى وتعني فيما تعني بأن الواقع والحقيقة واضحة وضوح الشمس بالنسبة للمتذكّر، وبكلمة يصل الانسان إذا ما تذكّر في اعتقاده بالشيء أنه حقاً يقيناً لا يشوبه شك ولا ريب؛ ولذلك يطلق القرآن الكريم هذه المفردة - الذكرى- لمن يعاين نار جهنم يوم القيامة فيتذكّر ولكن لا فائدة ترجى من ذلك التذكّر؛ يقول تعالى: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ۚ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ) [سورة الفجر 23]
فالسين التي تفيد الاستقبال في حق من يتذكّر لأنه لا يمكن أن تحصل الذكرى في نفس لحظة التذكير بل بعد حصول الخشية من الله.
أما تجنّب الذكرى تحصل بمجرد إرادة شيطانية من الانسان فيعرض بذلك عن الذكرى فلا يصح أن يقال (سيتجنبها)
فهذا نموذج واحد. والمتدبّر في كتاب الله العزيز وإن عجز عن وجود معنى وراء تلك الحروف أو تلك المفردات إلا أنه سيكون على يقين أن من وراءها مقاصد لما قد وجده ولمسه من دقّة لهذا الكتاب بعد أن تدبّر وتأمّل فوجد آياته على نسق واحد من الدقّة والحكمة، فلسان حاله (... آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ۗ ...)[سورة آل عمران 7]
فلنعلم إذن أي كتاب نقرأ، وعلى أي مائدة من العلم نجلس، حتى نثق بما بين أيدينا ونستفيد أيما فائدة.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat