صفحة الكاتب : كاظم الحسيني الذبحاوي

سلسلة: معاً إلى القرآن ـ...1
كاظم الحسيني الذبحاوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

(ولقد يسَّرنا القرآن للذكر فهل من مُدَّكر)؟
 (1)
مدخل
هذه محاولة لفهم القرآن من داخل القرآن نفسه ،دون الارتطام بآيات الأحكام عملاً بقوله تعالى في الآية التاسعة من سورة الإسراء :(إنَّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) ،وبمنأى عن أدوات صنعها البشر ..  تعال معي أخي المسلم لنتلمس تلك (التي هي أقوم) من نفس القرآن،عـَلـَّنا نخرج من طائلة شكوى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم التي بيـَّنتها الآية الثلاثون من سورة الفرقان :(وقال الرسول يا ربّ إنَّ قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً) .. أجل تعال معي لنفهم ما يمكننا فهمه من كلام الله ؛نستنطقه،فنسمع كلام الله الذي يسَّره لنا ، ونتدبره لنرى كيف أنَّ الظالمين جعلوه بضاعة مزجاة يتداولونها فيما بينهم ،فسحقوا الثمرة بأقدامهم ،ورموا قشورها علينا،وغدا المسلمون لا يعرفون من الدين إلاّ اسمه ،ومن القرآن إلاّ رسمه ،فضلوا وأضلوا حتى انحسرت بيننا ثقافة القرآن ،وسادتْ فينا ثقافة السلاطين ، بجعلهم كتاب الله دُولة ً بين صبيانهم ،يبذلون طائل أموال المساكين في تزيين حروفه ،وصولاً إلى إشغالنا عن إحياء معالمه ،و عن العمل بأحكامه ،وكلما حلَّ فينا شهر رمضان تراهم يقولون هذا شهر القرآن ،والقرآن ضائعٌ عند أهله ،إلاّ في مطالب رخيصة ،ومغانم خسيسة لا تعدو حفظ آياته عن ظهر قلب من غير تدبر فيها ،أو التغني به بأصوات جميلة ،وهذا القرآن يدعونا إلى نفسه لكي نتدبَّره ،ونتأمل ما فيه من خلاصٍ لنا من آثامنا ؛فهو واللهِ الطريق ،طريق النجاة من النار والفوز بالجنة .
تأملات في سورة الفاتحة/ محاولة لفهم النص القرآني من داخل القرآن .
بـِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ *الحـَمْدُ للهِ رَبِّ العـَالـَمينَ* الرَّحْمنِ الرَّحيمِ* مالكِ يَوْمِ الدينِ *إيـَّاكَ نـَعْبُدُ وإيـَّاكَ نـَسْتـَعينُ* اهْدِنـَا الصَِراطَ المـُسْتـَقِيمَ *صَِراطَ الَّذينَ أَنـْعَمْتَ عَلـَيْهِمْ غَيْرِ المغضوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّالـّينَ *
محطّاتٌ لم يقف عندها المفسّرون
لقد انقسم المفسرون ـ في ما انقسموا إليه ـ إلى طائفتين استجابةً منهم إلى ظروف البيئة السياسية التي أحاطت بهم: ـ
الطائفة الأولى:وهي الطائفة التي تعاملت مع القرآن استجابة لإملاءات السلطات الحاكمة على مرِّ تأريخ المسلمين، فكان أولئك من جملة عمّالهم، ولا يُنتظر من عمّال السلطة؛ أية سلطة أن يكتبوا بما يُغضب الحاكم ،أو يجعلوا من سلطته عرضةً للتهديد من لدن أقوامٌ كفروا بمشروعية أقيمت بالحديد والنار، على أنها مشروعية إسلامية ،على اعتبار أنَّ الحاكم هو وليُّ الأمر بحسب ما أشاعوه .وحيث أن كتاب الله هذا ضمَّ العديد من المطالب الدنيوية التي تهم حاضر ومستقبل المسلمين في العالم،فإنَّ مجرَّد الخوض بمثل هذه المطالب ، يزرع الخوف والترقب والوجل والحذر في نفس الفئة الحاكمة التي جعلت من هؤلاء الموظفين مستشارين لهم باتجاه توطيد سلطاتهم ،لا باتجاه نشر ثقافة القرآن في مجالات السياسة والحكم وقوانين الاقتصاد ،وكنتيجة طبيعية لذلك فإنَّ مسائل القرآن عند هؤلاء لم تتخطَّ الدراسات الأدبية والنحوية والبلاغية عند العرب ،والمسائل التأريخية بقوالب سردية ساذجة تتعلق بالأقوام السابقة ،وما يُحاك حولها من قَصص ضمَّتها روايات أسباب النزول ،وما فيها من تصوير خرافي لمشاهد القصّة الواحدة .فكان القرآنُ بحسب هذا المنهج (السلطوي) ، ناصراً عتيداً لجميع الطواغيت في الأرض !
وترعرعت أجيال من المسلمين على هذه الأطروحة، تتداول هذا القرآن في مسائل رخيصة، لم تتجاوز قراءته على أرواح الأموات في المقابر،وفي مجالس التأبين، والتمجيد بالسلطان الجائر ،وما إلى ذلك من ترَّهات، انحسرت بسببها ثقافة القرآن العظيم داخل المجتمعات الإسلامية .
الطائفة الثانية:المفسّرون الذين هم لا يعملون عند السلاطين ،الذين وظـَّفوا أجهزتهم لمراقبة هؤلاء الخارجين على الخليفة ،فما استطاع هؤلاء تبيان الحقائق كما هي؛فاستخدموا أساليب ملتوية تنأى بهم من الوقوع في قبضة الطواغيت الذين أحصوا عليهم أنفاسهم،فطاردوهم ،وسلبوا أموالهم،وهدموا بيوتهم ،وملئوا بهم السجون والمعتقلات وأطلقوا عليهم صفة الرَّفض، فكان الرّافضي لا يُزوَّج إذا خطب ،ولا يُعاد إذا مرِض، ولا يُذكر بخير إذا غاب ،ولا يُشاور إذا شهد !
أمّا الذين ساعدتهم الظروف السياسية في الحصول على قدر ما من الحرية ،فإنَّهم ساروا على منهج المفسرين الحكوميين، تغطية لأمرهم ،وصوناً لتراثهم وتراث أسلافهم الميامين ، لأنَّ مفسّري السلطة فرضوا منجهية ،صار الخروج عليها ، خروجاً على دين الإسلام، أضف إلى ذلك أن عناصر تدوين التاريخ ممسوكة على الدوام بأيدي الحكام، فكانت الدراسات القرآنية لا تخرج عن النطاق الذي تسمح به السلطات ،كالخوض في مسائل الفقه المعروفة .
فبين هذه الطائفة منَ المفسّرين وبين تلك ، ضاعت حقائق كثيرة ،وساد بين المسلمين فكرٌ أراده الحكـّام وإلى يومنا هذا !
وإنّ باعثي على الدخول إلى هذا العالم،لم يكن الادعاء بالمقدرة على إتيان الجديد، كونه كذلك، لكن الباعث هو شعوري بانحسار الثقافة القرآنية في ساحة المسلمين بشكل عام ،وهو ما يُنذر بعظم الرزية ،وفداحة الخطب .
بعد هذه المقدمة أقول: ـ
لقد تميَّزت سورة الفاتحة بخصيصة لم تتميز بها  باقي السور، كون الإتيان بها على النهج العربي شرطاً لقبول الصلاة المفروضة،و لزوم تكرارها في الركعة الثانية ، ممّا يعني اختزانها أسراراً توجب التأمل فيها ولا سيّما في أثناء إقامة الصلوات اليومية على غير منهج الحكوميين الذين جعلوها سورة للأموات !
ومن خلال الأسطر الآتية ،قد نوفَّق لتبيان بعض الحقائق خروجاً على منهج السلطة الراسخ في أذهان الملايين .هذا ولم أدَّعِ أنَّني سأبيّن كتاب الله ،الذي جعله المفسرون كتاباً غامضاً ،غريبة ألفاظه ،مغلقة مفرداته ؛بل استخدمتُ لفظ التبيان في المقام، لبيان بعض ما سار عليه الأوائل والأواخر، لا أنني أبيّن القرآن ،لأنه تبياناً لكل شيء كما ذكرت سورة النحل وأقدَّر أن يكون العرض على هيأة نقاط متسلسلة ،تبسيطاً له ،والله وليُّ التوفيق .
أولاً : ـ في معنى (الحمد):
 اعتاد المفسّرون على مقابلتهم لفظ الحمد بألفاظ سموها مرادفات ،كالشكر والمدح والثناء ، وبين إيرادهم مصطلحات مغلقة ،كمصطلح ( الجميل الاختياري) فقالوا أنّ معنى الحمد : هو الثناء على الجميل الاختياري. لكننا وحينما نتأمل في معنى اللام المتصلة بلفظ الجلالة( الحمدُ للهِ) نجد أنها لام الاختصاص ـ بحسب تقسيم أرباب اللغة ـ  على هذا يكون الحمد لفظٌ يعبّر عن فعلٍ مختصٍّ بالله تعالى وحده، فلا يصح أن نقول : الحمد لزيد ، بينما يصح أن نقول : الشكر لزيد ، أو الثناءُ عليه، أو مدحه . فإنْ كانت هذه الألفاظ ألفاظاً مشتركة بين الخالق وبين المخلوق، . قال تعالى في الآية 14 من سورة لقمان :( وَوَصَيْنا الإنسانَ بوالديهِ حمَلَتهُ أُمُّهُ وَهناً على وَهْنٍ وَفِصَالُهُ في عامِينِ أنِ اشكر لي ولوالديكَ إليَّ المصيرُ). فإنَّ (الحمد) مختصٌ بالله تعالى حسب .
أما علـّة اختصاص الحمد بالله تعالى، فقد يكون كذلك لتعلقه بالربوبية لربّ العالمين( الحمد للهِ ربّ العالمين) ، فالحمد شيءٌ لا يمكن للبشر من حَدَّهِ بحدٍّ إتكاءاً على أدوات اللغة التي وضعوها في معاجمهم فقط، ومقابلة لفظه بألفاظ أخر يصحُّ من باب تقريب المعنى إلى أذهاننا ليس إلاَّ ؛ إذ قد يكون هو ذا المطلوب فهمه.ويبدو من وجوب التأمل في الآيات الشريفات الأخذ بيد العباد إلى عالم أرفع من عالم الحس المادي المجرّد ، فالحمد ليس كالشكر أو الثناء أو نحوهما ؛وإنما هو شيءٌ آخر أرفع منهما لتعلقه بشيءٍ عظيم ألا وهو الربوبية للعالمين ،وإلاّ لساغ لنا أن نقول أن معنى جملة: الحمد للهِ لربّ العالمين هو الشكر لله ربّ العالمين ،وهو رديءٌ .
ثانياً : ـ في معنى اهدنا الصراط المستقيم: نلاحظ افتتاح السورة بالحمد بعد البسملة ،وذكر صفات الربّ تبارك وتعالى الجلالية والجمالية ،والصفاتية والأفعالية ، قبل الدخول بما يصحُّ أن أسميه مركز ثقل السورة ،وهو قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم، ممّا يعني أنَّ طلب الهداية هذا لابدَّ أن تسبقه هذه المقدمّة تبياناً لأدب الدعاء أولاً ،ولخطورة طلب الهداية هذا ،حتى وكأنَّ وجوب الإتيان بهذه السورة في الصلاة على النحو المعروف،هو من أجل التنبيه والتركيز على هذه الخطورة ،وإلاّ تُصبح قراءتها خالية عن أي معنى ، إلاّ أن تكون نصّاً مقدّساً حسب، حاله في هذا حال بقيّة السور ،وهو ممّا لا سبيل إلى الالتفات إليه .
وبعبارة أخرى أقول : إنّ خطورة طلب الهداية هذا ، يتبيّن من خطورة افتتاح السورة بآية البسملة التي هي أعظم آية في كتاب الله ،والحمدُ للهِ ربّ العالمين ، ثمَّ ذكر باقي الصفات .
قال المفسّرون أن مآل جملة (الصراط المستقيم) لا يعدو كونه ـ على أحسن الفروض ـ طلب الهداية إلى دين الإسلام، أو الاستمرار على البقاء عليه ،وهو كما ترى تعسّف في القول لخروجه عن مذاق السياق في أقل تقدير ،فضلاً عن تعارضه الواضح مع القرائن الداخلية والخارجية التي سنتعرض إليها خلال الكلام .
الصراط أو(السراط) أصله من الصرط وهو البلع، وجاء إيراده في هذه السورة ليفيد أنَّ هذا الطريق الموصوف بالاستقامة، كأنه يبتلع سالكيه بنحو يمنعهم من السقوط في مهاوي غيره من الصراطين اللذين لمَّحت إليهما هذه السورة ،وهما صراط المغضوب عليهم وصراط الضالين .
وجملة: إيّاك نعبد وإياك نستعين توحي باستكانة وضعف مُرددها من أبناء البشر ، بحيث أنه ، أي المسلم ، حَصَر    َ العبادة وحصر الاستعانة بربّ العالمين ،ولولا إقراره بهذه العبودية وبهذه الاستعانة، لم يكن لطلبه الهداية إلى هذا الصراط معنى . وهنا يحسن بنا أن نعرف ما هو المقصود بالعبادة ،وأينما ترد؟
لقد قدّم المنهج الحكومي أنَّ مفهوم العبادة لا يتخطى أداء الطقوس العبادية من صلاة وصيام وذكرٌ لسانيٌّ ونحو ذلك ،والحال أننا نجد أن معنى العبادة ينصرف إلى معنى أوسع بكثير ممّا أشاعوه . فبحسب اللغة ـ في أقل تقدير ـ يكون معنى العبادة هو الإذعان والانصياع والتذلل إلى المعبود. ويقال للطريق أنها معبَّدة إذا كانت مذللة للسائرين عليها، كما يقال للبعير ذلولٌ إذا كان موطـّؤٌ ظهره لراكبه، وهو معنى عام يستغرق المعبود الحق سبحانه وتعالى ،وغيره من المعبودات التي ينصبها المتسلطون في قبال المعبود الحق ؛إلاّ أنّ مفهوم العبادة انصرف إلى عبادة المعبود الحق سبحانه وتعالى فقول المسلم:إيّاك نعبد إنما يعني التذلل والخضوع والتسليم والانقياد في كل شيء للمعبود الحق. وبالطبع أنَّ التصوّر الذهني يقصر عن أن يدرك حقيقة المعبود الحق، فأرسل اللهُ الرُّسلَ والأنبياءَ (عيهم السلام) ليكونوا هداةً للبشرية إلى سبيل ربّهم الذي يعبدون . قال تعالى في الآية   73 من سورة الفرقان :( والذين إذا ذُكّروا بآيات ربّهم لم يخرُّوا عليها صُمّاً وعُمياناً) أي أنهم على دراية تكفيهم بمعبودهم أنه حق .هذه الدراية أتتهم من الأنبياء والرسل(عليهم السلام)مع أنها موجودة بالفطرة عندهم، إلاّ أنّ الفطرة تُدّنَّس. فوظيفة الرسل تحريرها ممّا يعلق بها من أدناس أهل الشرك .فيكون عند العابد تصورٌ بأنْ لا معبود غير الله ،وهنا تنحصر به العبادة بالمعنى المتقدم ،فقول المسلم( إيّاك نعبد) إنَّما هو تعبيرٌ لفظي عن هذه الحقيقة التي يجب أن تترسخ في أذهان المصلين شيئاً فشيئاً . لكن الذي يجب الالتفات إليه هو أنَّ غاية العبادة أنّ توصل الإنسانُ إلى الصراط المستقيم ،وإلاّ فهي ضلال ،وسيأتي تفصيله بعد قليل .
ولفظ العبد مشتركٌ بين العباد أنفسهم لتحقيق معنى الانقياد والطاعة ،وسمّي كذلك بنحو المجاز لا بنحو الحقيقة ؛ إذِ الحقيقة كما عرفت . قال تعالى في الآية 32 من سورة النور :( وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم). فنسب العبيد عباداً لهم بنحو المجاز. وقد أثير جدلٌ حول تسمية الناس أبناءهم بعبد الحسين ونحوه قائلين كيف يكون الإنسانُ عبداً لإنسان مثله ؟ غير ملتفتين إلى منطوق هذه الآية واستعمالات العرب أيضاً .
ونفس الشيء يقال عن حصر الاستعانة بالله تعالى ، إلاّ أن موضوع الاستعانة في هذه الآية مقيّدٌ بنصوص قرآنية أخرى ، تصبُّ في نفس هذا المورد . قال تعالى في الآية 45 من سورة البقرة (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلاّ على الخاشعين)، ثم قوله تعالى في الآية63 من سورة  البقرة :(وإذ أخذنا مِيثاقكم ورفعنا فوقكم الطورَ خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ واذكروا ما فيه لعلكم تتقون) ومثلها في الآية 93 من نفس السورة ، وفي الآية 171 من سورة الأعراف .والآية 145 من سورة الأعراف :( وكتبنا له في الألواح من كل شيءٍ موعظةً وتفصيلاً لكلّ شيءٍ فخذها بقوّة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأوريكم دارَ الفاسقين).  وقال تعالى في الآية 95 من سورة الكهف حكاية عن قول ذي القرنين :( قال ما مكّنّي فيه ربّي خيرٌ فأعينوني بقوّةٍ أجعل بينكم وبينهم ردماً). فهذه وسائل خلقها الله وأودع فيها أسباب تحقيق الحاجات المختلفة ،وهي موردٌ من موارد تسخير النظام الكوني . قال تعالى في الآية 20 من سورة لقمان :(ألم ترواْ أنّ اللهَ سخّرَ لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نـِعَمَهُ ظاهرةً وباطنةً ومنَ الناس مَن يجادلُ في اللهِ بغير علمٍ ولا  هدى ولا كتابٍ منير). فتوجّه العباد إلى هذه الوسائل التي جعلها الله هكذا ليس فيها من الشرك شيئاً كما يحاول المفسدون إشاعته بين عوام المسلمين ، لا بل أن اتخاذها يوجب التقوى كما هو ظاهر من هذه الآيات ،ومن أمثالها . قال تعالى في35  الآية من سورة البقرة :(  يا أيّها الذين آمنوا اتقوا اللهَ وابتغوا إليه الوسيلة لعلّكم تفلحون) ،وتجد أنه من باب الأولى يكون التوسّل بالنبيّ صلى الله عليه وآله والأئمّة الأطهار(عليهم السلام) إنما يوجب التقوى والفلاح .
 إذن فخطاب(إيّاكَ نعبُدُ وإيّاكَ نستعين) وما فيه من حصر العبادة وحصر الاستعانة بالمخاطب، لابدَّ أن يكون مقدمة لآية (اهدنا الصراط المستقيم)،عليه ينبغي التأمّل حين قراءة خطاب : إيّاكَ نعبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعينُ أثناء الصلاة وخارجها ، حتى يكون لطلب الهداية إلى هذا الصراط دون غيره المعنى المطلوب الذي يجب أن يرتكز في ذهن العبد .ومن هنا يمكنني القول بأنَّ الاستجابة لهذا الدعاء يمكن أن تكون بمستوى معرفة مقام( إيّاكَ نعبُدُ وإيّاك نستعين) . وعلى هذه القاعدة التي وضعتها هنا ، فأنَّ مقدمّة هذا المقام الإقرار بالمالكية ليوم الدين ،فكأنَّ على المسلم أن يقول بنحو: يا ربَّ العالمين يا رحمن يا رحيم يا مالك يوم الدين؛ إيّاك نعبد وإياك نستعين ، فاهدنا الصراط المستقيم. وهذا يعني أن غاية العبادة هي الهداية إلى هذا الصراط الموصوف بالاستقامة.هذا وتُصور التفاسير التي كُتبت بقلم السلطة ، الصراطَ تصويراً خرافياً يكادُ لا يستقرُّ في ذهن المسلم البسيط .
الطوائف الثلاث في سورة الحمد
تعرض السورة طوائف ثلاث ،ولكن بأسلوب يتناغم مع نظم الكلام فيها،على هذا فهو عرضٌ غير مباشر،ولو توسعنا في الحديث لظهر لنا أنَّ من دأب القرآن أن يُقسّم البشرية إلى طوائف بحسب قربها وبعدها عن خط الرسالات، ومن هنا تنشأ علاقة بين سورة الحمد وبين السور الأخرى التي يظهر منها هذا التقسيم ،وهو ما سيظهر لنا من خلال الكلام ، وسنعرض هذه الطوائف بحسب ترتيب ذكرها في السورة ،وكما يلي : ـ
الطائفة الأولى : وتظهر من الخطاب في قوله تعالى :(صراط الذين أنعمت عليهم).وجملة ( صراط الذين أنعمت عليهم) جاءت بدلاً من سابقتها، أو أنها عطف بيان، أو عطف تفسير بحسب تقسيمات المفسرين ،لكن الأقوى أنها بدل ،وعلة ورود البدل في الجملة هو تفسير للجملة المبدل عنها . يظهر من هذه الآية أنَّ الصراط المستقيم نُسبَ إلى طائفة الذين أنعم اللهُ عليهم،وهؤلاءِ لم يكونوا من سائر المسلمين،فلو كانوا كذلك لانتفت الحاجة إلى هذه الآية بالمرّة ،وبحسب الظن هم الذين ذكرت أسماءهم سورة مريم من الآية الأولى ولغاية الآية 58 منها التي أشارت إلى هذه الحقيقة، حقيقة أنَّ أولئك هم الذين أنعم الله عليهم :(أولئكَ الذينَ أنعمَ اللهُ عليهم منَ النَّبيينَ من ذريّة آدمَ ومِمَّن حَمَلنا مع نوح ومن ذريّة إبراهيمَ وإسرائيل وممَّن هدينا واجتبينا ). ونجد في سورة الأنعام أنها تتحدث عن نسبة الصراط المستقيم بشكل أوضح ممّا في سورة مريم وأقرب . قال تعالى في الآية 153 :(وإنَّ هذا صِراطي مستقيماً فاتَّبعوه ولا تَتَّبعوا السُبُلَ فتفرَّق بكم عن سبيله ذلكم وصّاكم به لعلـَّكم تتقونَ) فهي تخصيص بعد تعميم ورد في الآية 126 من هذه السورة :(وهذا صراط ربُّكَ مستقيماً قد فصَّلنا الآيات لقومٍ يذَّكرون).فقد ابتدأت السورة تتحدث منذ ورود الآية السابعة منها بأسلوب الخطاب مع الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ،وقد تضمّن هذا الخطاب تلقي المخاطب صلى الله عليه وآله أوامر من الربِّ تبارك وتعالى ،فكان خطاب(وإنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه) الوارد في الآية 153 خطاباً مستأنفاً لما سبقه من خطابات بدلالة الواو التي سبقت إنَّ ، فكان المعنى أنَّ الله يأمر نبيَّه أن يقول للناس أن هذا صراطي ،فالياء ياء النسبة تعود للنَّبي صلى الله عليه وآله ،وهذا هو التخصيص من بعد التعميم .على هذا فإنَّ سيّد الذين أنعم الله عليهم هو نبيّنا صلى الله عليه وآله ،والصراط المستقيم صراطه. وسيأتي مزيد كلام حول هذه الطائفة في نهاية الكلام .
الطائفة الثانية : وهي طائفة (المغضوب عليهم). ومغضوب مصدر من الغضب وهو نقيض الرضا . ولاشكّ أن الغاضب على هذه الطائفة هو الله تعالى. وهذه الطائفة ليست طائفة محددة ذهبت عن الوجود بعد انتهاء زمن الرسالة ؛بل أنّ الغضب الإلهي عنوانٌ عام ينضوي تحته كلّ مَن يصدق عليه ذلك .ولعلّ مناسبة ذكر طائفة(المغضوب عليهم) بعد ذكر طائفة أهل الصراط المستقيم ،هي أنَّ سبب المغضوبية عائدٌ إلى مشاقـَّتهم لأولئك،وعدم اقتفاؤهم لهذا الصراط بسلوكهم صراطاً غير الصراط المستقيم ،وهذا يعني عدم انحصار هذه المغضوبية باليهود كما يدأب عليه المنهج المدرسي المتداول .ومن هذا ومن بعض القرائن الخارجية ،فإننا نشم رائحة تعلق المغضوبية ببعض أهل القبلة ،فضلاً عن مشهور تعلقها بطوائف من اليهود الذين مُسخوا قردة وخنازير ،حيث أنّ جو السورة المباركة لا يساعد على التخصيص بهؤلاء ،إذ لا يُنتظر من المسلمين أنْ يتَّبعوا طريق اليهود وهم يعلمون أنهم مسلمون ، سواءٌ في عصر النزول أو فيما بعده .لكن المتوقع أن يعمد البعض من المسلمين إلى معاداة أهل الصراط المستقيم ومحاربتهم ،وقد حصل هذا بالفعل . وهو يقودنا إلى الاعتقاد بأنَّ للصراط المستقيم وجودٌ دنيوي يقود سالكيه إلى الصراط المستقيم في الآخرة وبأي شكل يكون عليه ،وممّا يُبعد معناه عن أي تصوير خرافي اعتمده المنهج المدرسي الذي يحصر وجوده في الدار الآخرة حسب ، نأياً بالسورة أن تتحدث عن آفاقٍ دنيوية يتصورها العقل في أقل تقدير . ولعلي أصيب كبد الحقيقة إذا ما قلتُ أنَّ أصحاب المنهج الأوائل كانوا من المغضوب عليهم ، فعمدوا إلى صرف معنى الصراط المستقيم إلى وجهة يريدها الحكّام الزمنيون ،تلكم الوجهة التي تتعارض مع مذاق السورة وغرضها ، فضلاً عن تعارضها مع جملة من الأخبار التي لا نريد الخوض فيها طبقاً لمنهج سلكناه في هذه الدراسة ، تمسُّكاً منّا بإطلاق قوله تعالى في الآية 51 من سورة العنكبوت :( أوَ لمْ يكفهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم إنَّ في ذلك لرحمةً وذكرى لقومٍ يؤمنون).
هذا وعند استعراض الآيات المباركات التي ضمّت في مطاويها مادة(غضب) لم نجد فيها ما يفيد ما ذهب إليه منهج الحكومات ،وذلك بعد موائمتها مع السياق العام،وهذه الآيات هي : ـ
الآية الأولى : ـ ( مَن كفرَ بالله من بعد إيمانه إلاّ مَن أُكره وقلبُهُ مطمئِنٌ بالإيمان ولكن مَن شرح بالكفر صدراً فعليهم غضبٌ منَ اللهِ ولهم عذابٌ عظيم) النحل/ 106 . فإنك تلاحظ الجملة الشرطية غير متعلقة باليهود أبداً ،بل تتعلق بالمسلمين أنفسهم والمعنى منها ظاهرٌ للعِيان !
الآية الثانية : ـ (والخامسة أنَّ غَضَبَ اللهِ عليها إنْ كان منَ الصادقين) النور / 9 .
الآية الثالثة : ـ(والذينَ يُحاجّونَ في اللهِ من بعد ما استُجيب له حجَّتُهُم داحضة عند ربِّهم وعليهم غضبٌ ولهم عذابٌ شديدٌ) الشورى/ 16 .
الآية الرابعة : ـ وهي مجموعة آيات مباركات من سورة المجادلة اللاحقة منها تفسر سابقتها ،وتشكّل بمجموعها ،وباتصالها بسياق السورة وحدة موضوع،وتبدأ بالآية 14 وتنتهي بالآية20 ( ألمْ ترَ إلى الذينَ تولوا قوماً غضب اللهُ عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون*أعدَّ اللهُ لهم عذاباً شديداً إنَّهم ساء ما كانوا يعملون* اتَّخذوا أيمانهم جُنَّةً فصدُّوا عن سبيل اللهِ فلهم عذابٌ مهينٌ * لن تُغنيَ عنهم أموالُهم ولا أولادُهم منَ اللهِ شيئاً أُولئك أصحابُ النارِ هم فيها خالدون * يوم يبعثُهُم اللهُ جميعاً فيحلفونَ له كما يحلفونَ لكم ويحسبون أنَّهم على شيءٍ ألا إنّهم همُ الكاذبون*استحوذ عليهمُ الشيطانُ فأنساهم ذكرَ اللهِ أولئك حزبُ الشيطانِ ألا إنَّ حزبَ الشيطانِ همُ الخاسرونَ*إنَّ الذين يُحادُّون اللهَ ورسولَهُ أولئك في الأذلّين*) أضف إلى ذلك أن قضيّة سورة المجادلة تتعلق بشؤون المسلمين فقط .
الآية الخامسة : ـ ( يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غَضِبَ اللهُ عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور) الممتحنة/ 13. وما ذكرته عن سورة المجادلة يصدق على سورة الممتحنة التي تتعلق بالمسلمين فقط ؛ إذ لا دخالة لموضوع اليهود بها .
هذا بالنسبة للآيات التي تضمنت مادة (غضب) صراحة ،أما الآيات التي لمَّحت إلى هذا الموضوع فكثيرة جداً يصعب إحصاؤها في هذه الوجيزة .
الطائفة الثالثة : الضالّون . وبحسب المذاق وترتيب ذكر هذه الطوائف في هذه السورة ، وقد يكون هؤلاء التابعون لقادتهم السابق ذكرهم. والضالون من الضلال الذي هو نقيض الهدى. وقد ركز المنهج الحكومي على النصارى أنهم هم المقصودون في هذه السورة، بحيث صار ما ذكروه بمنزلة المسلمات التفسيرية ،والحال أننا نجد أنَّ الضالين من أهل القبلة كما عبَّرت بذلك الآية 90 من سورة آل عمران :( إنَّ الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادواْ كفراً لن تُقبل توبتُهُم وأولئك هُمُ الضّالّون) . بينما عبَّرت الآية 56 من سورة الحجر بتعبير يلتصق بالمسلمين :( قال ومَن يقنط من رحمةِ ربّه إلاّ الضالّون).
هذا وقد ضمن نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله للأمّة عدم وقوعها في الضلال ما دامت تتمسّك بالثقلين .
تصوير آخر للطوائف الثلاث : سبق أن أشرنا إشارة خاطفة إلى أنَّ من دأب القرآن أنْ يعرض للأمّةِ الناسَ بحسب طوائفهم التي هم فيها ،والجامع القرآني لهذا التقسيم الطوائفي هو طاعة الرسل أو مخالفتهم . لكن نموذج سورة الحمد هو أشهر هذه التقسيمات . ومن التقسيمات المعروفة هو التقسيم الذي تعرضه سورة النور لهذه الطوائف الثلاث بشيء من التفصيل .
الطائفة الأولى : تظهر من الآيتين 37 ـ 38 من سورة النور :     (رجالٌ لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر اللهِ وإقامِ الصلاة وإيتاءِ الزكاةِ يخافونَ يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار* ليَجزيَهُمُ اللهُ أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله واللهِ يرزق من يشاء بغير حساب ) فيمكن أن يكون هؤلاء هم الذين أنعم اللهُ تعالى عليهم . ولا بدَّ أن يأتي مزيد كلام في أبحاث قادمة .
الطائفة الثانية : تظهرهم الآية 40 من سورة النور:(أو كظلماتٍ في بحرٍ لُجّيٍّ يغشاهُ موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سَحابٌ ظلماتٌ بعضُها فوق بعضٍ إذا أخرجَ يدَهُ لم يكد يراها ومن لم يجعلِ اللهُ لهُ نوراً فماله من نورٍ) .فهؤلاء هم المغضوب عليهم قادة السوء ، الذين لا يخلوا منهم عصر .
الطائفة الثالثة :  في الآية 39 من سورة النور :( والذين كفروا أعمالُهُم كسرابٍ بقيعةٍ يحسبُه الظمآنُ ماءاً حتى إذا جاءَهُ لم يجده شيئاً ووجدَ اللهَ عنده فوفّاهُ حسابَهُ واللهُ سريعُ الحساب) ,وهؤلاءِ هم الضّـالـّون الذين لم يهتدوا إلى طريق الحق، لأنهم يتبعون قادتهم المغضوب عليهم ،ولا يخلوا منهم عصر أيضاً .
هذا وتجد مسميات أخر لهذه الطوائف في سور أخرى .


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


كاظم الحسيني الذبحاوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/12/02



كتابة تعليق لموضوع : سلسلة: معاً إلى القرآن ـ...1
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net