صفحة الكاتب : علي جابر الفتلاوي

قراءة في قصيدة الشاعرة فاطمة الزهراء بولعراس (الحب المستحيل)
علي جابر الفتلاوي

 (الحب المستحيل) قصيدة للشاعرة فاطمة الزهراء بولعراس، وقد علّقتُ على القصيدة وهي منشورة، وأعجبتني عبارة الشاعرة في ردّها على التعليق وهي تقول:
 (الغرق في الحزن يلغي العقل)، كلام الشاعرة سليم فهذه حقيقة أكدتها التجارب الغرق في الحزن يلغي العقل، ويلغي عند البعض الحياة. 
 أود أولا أن أبدأ بمقدمة قبل أن أكتب انطباعي الشخصي عن القصيدة، أنوه أولا عندما أخاطب الشاعرة، لا يعني أني أقصدها شخصيا بل الشعراء دائما يعبرون عن أوجاع غيرهم، ويتكلمون وكأن المصيبة مصيبتهم، فليس بالضرورة أن الشاعرة تعني نفسها، بل قد تتقمص شخصية تأثرت بحالتها فتعبر عنها وكأنها هي صاحبة المصيبة، وهكذا أغلب الشعراء. 
انطباعي الأولي أن الشاعرة فاطمة الزهراء بولعراس ملأى بالاحاسيس المرهفة والصادقة والمعبرة، وأحاسيس الحب الصادق، وللحب مصاديق كثيرة، قد نفصح عنها ونحن نقف في بعض محطات الحياة وقد نكتم، الإنسان الرجل والانسان المرأة  يسيران في هذه المحطات متقاربين أو متباعدين، فهما جناحا الحياة، وهما محور الحب في جميع درجاته، قد يسيران متحالفين متعاونين متحابين، وقد يكونان متعاندين أو متخاصمين، وقد يكون التعامل بينهما وفق معيار المالك والمملوك والسيد والعبد، فقد تدفن امرأة حيّة مع زوجها المتوفى كما في بعض البلاد الأفريقية، وقد يتكلمان ويتفهمان أو يلزمان الصمت، وأحيانا يعطي الصمت إشارات أبلغ من الكلام، وقد يكون الصمت قاتلا. 
قد يسير على جسر الحياة رجلان أب وإبن فحسب، أو جدّ وحفيد، وقد تسير إمرأتان أم وبنت أو أخت وأخت، أو جدّة وبنت وهكذا مسار الحياة، قد تفقد الأم ابنتها أو البنت أمّها، وهنا تبدأ الآهات والحسرات، وقد تبلغ مرحلة التشاؤم والإحباط لدرجة أن نفقد الفرح والسرور لفترات تطول أو تقصر، وقد يكتئب البعض وينتحر لكن الحقيقة التي يجب أن لا تغيب، أنّنا كلّنا راحلون، وسنصل إلى حياتنا الأخرى رضينا بذلك أم لم نرضَ، سنعبر جسر الحياة سواء كنّا في بدايته أو وسطه أو نهايته فكلّنا عابرون، إن لم نعبر اليوم فغدا. كلّنا سائرون على جسر الحياة، عابرون إلى الشاطئ الآخر لا محالة، هنيئا لمن أكمل رحلته بسلام. 
اسم القصيدة (الحب المستحيل)، العنوان يوحي بوجود حب غير مستحيل أيضا وهل من الحب مستحيل؟ ولماذا مستحيل؟ وكيف يكون حبا وهو مستحيل؟ فهل تعني الشاعرة أن حبها لإمّها هو غير حب أمّها لها؟ فحبّ البنت للأم من المستحيل أن يرقى إلى حبّ الأم إلى البنت. هل تعني الشاعرة أن لا حب في الحياة حقيقي غير حب الأم لابنتها، فكيف تصنف الشاعرة الحب الصوفي؟ هل هو من الحب المستحيل أم الممكن؟ هذه أسئلة نترك الإجابة عنها إلى شاعرتنا فاطمة الزهراء بولعراس. تقول الشاعرة في قصيدتها:
ونحن معا لغز الحياة
وذلك الحبّ الذي ليس له مثيل
 أشاطرك الرأي (ونحن معا لغز الحياة)، انت وهي لغز الحياة، لكن الإنسان المرأة والإنسان الرجل هما الحياة، وهل شاهدتِ يوما طائرا يحلّق بجناح، كي يستمر الطائر في الحياة لابد أن يحلّق بجناحيه، المرأة هي نبض الحياة، أمّاً وزوجة وحبيبة وأختا وبنتا و..و.. لا حياة من دون المرأة، هي الينبوع المتدفق، هي الماء الذي بدونه لا حياة، قد أكون ذهبت بعيدا عن أجواء القصيدة، عذرا...
القصيدة تعبير صادق عن رحلة حياة بين أم وابنتها، وأحاسيس صادقة من بنت وفيّه لإمها، تعكس مشاعر حقيقية لفقد أمها، التي تعدّها مصدر حياتها السعيدة، ومن دونها ظلام وكآبة وآلام، هذه مشاعر بنت صادقة في حبها وأحاسيسها، نقدر عاليا هذه المشاعر الراقية، ونحن نرى في هذه الأيام بعض الأبناء العاقّين، وهم يرمون أمهاتهم في الطرقات تحت ضغظ زوجاتهم، وأحيانا في دور رعاية المسنين. 
أين مشاعر هؤلاء من مشاعر البنت التي تعدّ وجود إمها هو نبض الحياة؟ 
حياتنا التي نعيش اليوم في ظلالها، فيها من المشاهد ما يجلب الألم والحزن والأسى كم من أب جائع وأبنه أو بنته متخما البطن من الطعام، وكم من أم عليلة بحاجة لدواء والأبن أو البنت يعيشان في دهاليز الفرح الماجن. 
يتغلف نبضي بفراقك 
يئن تحت وطئة الرحيل 
 يتغلف النبض خير من أن يقف، لأن توّقف النبض يعني الموت، الفراق غلّف النبض وجعله بطيئا في حركته، وهذا هو عين الألم، ألم فراق الأحبة، الشاعرة صادقة في مشاعرها، وكلماتها حقيقية معبرة عن حالة نفسية يعيشها المحبون لفراق أحبابهم، ومنهم من ينتحر! حينئذ سيتوقف النبض، وهذا فعل حرام، واعتراض على سنّة الحياة، أما شعورنا بالألم والحزن لفراق المحبوب فهو أمر طبيعي.
 عبّرت الشاعرة عن حقيقة يعيشها كلّ إنسان يحب أنسانا آخر حبا حقيقيا صادقا فيخطفه الموت، فيشعر بألم وحزن شديدين، إذ تعجز الكلمات الإفصاح عما يجيش في القلب من حب صادق، فيبقى الحب حبيس القلب،  تقول الشاعرة: 
والكلمات لا تنوب عن القلب 
في وصف المستحيل
في تقديري المستحيل عند الشاعرة، عجز الكلمات التعبير عما يعانية القلب من مشاعر الحزن، وهذه سمة يتصف بها كل محب صادق في حبّه، أقول فلنتذكر  مصائب قوم أعظم من مصيبتنا، عندها ستهون المصيبة ويخف الحزن والألم، وهذه هي السنن الإلهية التي سنّها الله رحمة للناس، عندها سيأتي دور الكلمات، أتحسس مشاعر الألم الحقيقي عند الشاعرة فاطمة الزهراء بولعراس لفقد الأم، وهذا هو الوفاء والاحساس المرهف.
 يعبّر الشعراء أحيانا عن مصائب الآخرين وكأنها مصائبهم، وهذه هي الشاعرية الحقيقية، تستمر الشاعرة في رسم صور الحزن والكآبة والألم النفسي، لكن المفرح في المشهد أن الشاعرة تستعيد وعيها، وتخفف من حزنها من أجل الحياة، فلا حياة حقيقية مع الحزن المطبق، لابدّ من منفذ ومتنفس يعيد للموجوع حياته الطبيعية ولو بعد حين، وهذه هي السنن التكوينية الإلهية في مخلوقاته. الشاعرة أبدعت في رسم هذه المشاعر.
أماه
رحيلك علّمني أسخو وأحنو
كيف أجتر الوقت 
كيف أغفو ولكن لا أنام 
ما أجمل صوت الشاعرة وهي تنادي (أماه)، ما أحلاها من كلمة تعبّر عن عواطف جيّاشة، وحنين البنوة إلى الأمومة، وهكذا الحياة دوران في دائرة لن ينتهي، وسيأتي اليوم الذي يتحول هذا الحنين من الإبن المنادي إلى الوليد القادم، لينادي في المستقبل  بنفس النداء إن كان وفيا، سنّة الله في خلقة سيأتي صدى النداء (أماه، أبتاه) ونحن في الرحيل الدائم الذي لا رجوع بعده، رحيل عن الحياة الأدنى إلى الحياة الأسمى. 
 الأمر الإيجابي عند شاعرتنا أن الحزن حولته إلى حياة أفضل (رحيلك عني علمني أسخو وأحنو)، تعلمتْ من مصابها السخاء والحنان، إيجابيات أخرى تعلمتها واستفادت منها استثمار الوقت (كيف أجتر الوقت) أن تجتر الوقت ليس شرطا أن تستغله بما لا ينفع، بل صاحب التجربة يوظفه بما يفيد، النوم من غير صحو فيه مضار كثيرة، لكن شاعرتنا تعلمت من تجربتها، من مصابها أن تغفو لتجدد بعد الإغفاء الحياة، النوم المستمر غير مفيد، لابد من نوم وصحو، وهو ما عبرت عنه الشاعرة (أغفو)، والإغفاء غير الغفو، جاء في معجم الصحاح للجوهري: غفا: أغفيت إغفاء أي نمت، قال ابن السكيت: ولا تقل غفوت. 
الشاعرة تستفيد من التجربة، فرحيل أمها علّمها أمورا كثيرة، فهي إمرأة عملية تستفيد من تجاربها، وتتعلم من الحياة لما فيه الفائدة، فتعلمت من رحيل أمّها: 
علمني كيف أفيق؟
كيف أغدق على الحياة دون منّ
وأجعل الحبّ أجمل صديق
كلام جميل ورائع، تعلمت من تجربتها الكرم وعندما تعطي لا تَمُن، وتعلمت أن تكون يقظة في حياتها تستفيد من ظروفها الحزينة والمفرحة، وتوظفها لما فيه النفع العام، هكذا أقرأ كلماتها، وأعظم ما تعلمتْ أن تجعل من الحب أجمل صديق، وهذه قمة الانسانية والاحساس المرهف، الشاعرة استفادت من تجربتها ووظفتها في جميع الاتجاهات، وهذا أمر مستحسن ويجب أن يُقتدى به، قولها: 
من رحيلي ورحيلك 
رحيل أمّ الشاعرة معلوم، لكن رحيل الشاعرة كيف؟ استفهام نوجهه إلى الشاعرة! هل هي بصدد كلام فلسفي صوفي؟ سيما وهي تقول: 
رحيلك أقول. بل رحيلي عني
كيف ترحلين عن ذاتك؟ هل تعنين شاعرتنا المبدعة أنك كنت تشعرين أن أمك وأنت واحد؟ ورحيلها هو رحيلك، أظن هذا ما تقصدين، وهو تعبير صوفي عن ذوبان ذاتك في ذات أمك، كما يذوب الصوفي في حبّ الله فينسى ذاته، بل يفقد وعيه أحيانا. في قراءتي لنهايات القصيدة أتحسس المشاعر الصوفية، إذ تقول: 
من رحيلي ورحيلك تعلمت
تؤكد الشاعرة على صوفيتها في هذا البيت، فهل تتوافق الشاعرة معي في هذا التوصيف؟ 
كيف أشحذ قلمي الجميل؟
كيف أوقع به على نهايتي؟ 
وكيف أبدأ؟ 
أمر جميل، وهي تستسلم لقدرها المحتوم، التعبير فيه عمق، فالشاعرة انتهى وجودها برحيل أمها، لكنها وُلِدت وبدأت حياتها من جديد، الموت ولّد الحياة، فتعلمت الجد ولا مكان للهزل عندها، تعلمت أن تعيش الحياة من خلال وجود الأم، فهي الحياة وهي الحب والنور والضياء والهواء العليل المنعش وتشعر أن وجودها من وجود أمها، ولا تشعر بالسعادة إلا من خلال وجود أمها فهي كل شيء بالنسبة لها.
فأنت الوجود يا أمي وأنت الكون 
وأنت أنا 
وأنا أنت 
ونحن معا لغز الحياة
وذلك الحب الذي ليس له مثيل
هذا هو الحب الصوفي، ذوبان الروح بالروح، الجسد ليس عنوان الحب بل الروح وقد يرقى الحب إلى العشق، فالعشق أعلى درجة من الحب، ومن هنا تبدأ رحلة الصوفي، حب فعشق لا نهاية له.  
تحياتي للشاعرة المبدعة فاطمة الزهراء بولعراس. أدعو لها إلى مزيد من الإبداع والتألق، وأخيرا أهدي لشاعرتنا أبياتا جميلة للشاعر أبو الطيب المتنبي، أرى أنها قريبة المعنى والمقصد من قصيدتها:
أبلغ عزيزا في ثنايا القلب منزله     أني  وإن  كنت  لا ألقاه  ألقاه 
وإن  طرفي  موصول  برؤيته      وإن  تباعد عن سكناي  سكناه 
ياليته  يعلم  أني  لست  أذكره       وكيف  أذكره  إذ  لستُ أنساه 
يامن  توهم  أني  لست  أذكره       والله  يعلم  أني  لست   أنساه 
إن غاب عني فالروح مسكنه من يسكن الروح كيف القلب  ينساهُ؟
 

 
  
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


علي جابر الفتلاوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2018/03/19



كتابة تعليق لموضوع : قراءة في قصيدة الشاعرة فاطمة الزهراء بولعراس (الحب المستحيل)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 1)


• (1) - كتب : محمد أمين عثمان ، في 2019/11/06 .

تحياتي للشاعرة الاديبة والمبدعة دمت متألقة




حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net