صفحة الكاتب : محمد الحمّار

حتى الكنيسة استوردناها، والآن نعيش عُقباعا
محمد الحمّار

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

منذ حديث "الخلافة السادسة" لأحد رموز حزب النهضة لا أدري أين تونس ذاهبة. وقد انتابني نفس التوجس على إثر السماح للحزب الديني بالعمل "السياسي" العلني. ولست أدري إلى أين ذاهبة البلاد العربية والإسلامية التي تتعاطى رسميا مع الإسلام السياسي. علما وأنّ الحزب الديني من الخصوصيات التي تنفرد بها المجتمعات الغربية المسيحية بالتحديد.

إنّ غالبية الباحثين يعلمون أنّ الحزب المسيحي في تلكم المجتمعات نتاج لتطورات تاريخية وسياسية داخلية ومتسقة مع الثقافة المسيحية. وجُلهم يعلم أنّ السبب الرئيس في بروز الحزب الديني هناك تفرّدُ تلك الثقافة بفصل الكنيسة عن الدولة، ومنه الدين (المسيحي) عن السياسة. إلا أنّ الذي قد لا يعلمه الكثير، أو بالأحرى ما لا يريدون التفكير فيه، أنّ عودة الدين في شكل الحزب الديني والسيولة التي تدفقت بها الفكرة داخل المجتمع المسيحي في العصر الحديث، إنما هي دليل على أنّ الدين لم يعُد مفصولا عن السياسة، بل وأنه لم يُفصل أبدا سوى في أذهاننا نحن المسلمين. والذي يتجاهله مفكرونا أنّ ما حدث في الغرب هو استبدال الكنيسة كمؤسسة قرار بالحزب الديني ككنيسة عصرية تتدخل، ضمنيا وعلنيا، في اتخاذ القرار السياسي. مع أنّ ذلك واضح وضوح الشمس في النهار.
لقد أخطأَت نخبنا إذن خمسة مرات: مرة لمّا استوردَت "الفصل" بالرغم من أنه ظاهري. ومرة حين لم تنتبه في الوقت المناسب إلى العودة القوية جدا إلى الدين في أوروبا وأمريكا. ومرة لمّا كانت ممارستها للـ "الفصل" في المجتمع المسلم تضاهي إبعاد الدين، لا عن الدولة أو عن السياسة فحسب، وإنما عن المجتمع. ومرة (وهذه سبب الخطأ الثالث) لمّا اعتبرت أنّ الإسلام هو المسيحية، وكأنّ نخبنا أصدرت فتوى للمسلمين حول عقيدة "إنّ الدين واحد"، مع إضافة أن ليس فقط الدين واحدا، بل أنّه المسيحية، لا الإسلام. أمّا المرة الخامسة فتعكسها المرحلة الحالية التي يعيشها المجتمع التونسي والمجتمع المصري، على أقل تقدير: إصلاح الخطأ بالخطأ، حيثُ إنّ قادة الرأي هنا وهناك حسموا الأمر لصالح الحزب الإسلامي، لكأنّهم أفتوا لنا بإسلام كنسيّ لا قدّر الله. وكَم كنتُ أتمنى لو كان المقصود بـ "الخلافة السادسة" تصحيحا تلك الخطايا الخمس. 
بكلام آخر، و تبعا للمُركبات الناجمة عن عقدة الأجنبي، قد جازفت نخبنا باستيراد حتى مقوماتٍ للهوية، جاهزة للاستعمال. سبحان الله. لكأنّها اعتبرت "الحزب الديني" منسحبا على "التقدم" لا على "الهوية". وإلا فكيف نفسر قبول نخبنا بمقايضة الهوية بالتقدم، حيث إنّهم قبلوا الآخر(المسيحي) بتقدمه وبهويته معا؟ ثم لِمَ تتألم النخب بعدَ هنيهة وتشتكي من مشكلة داخلية اسمها "الهوية" إذا كانت هذه النخب مضطلعة بمسؤولياتها كاملة؟ ألم يكفنا أن استوردنا من عند الغرب، ومنذ الاستقلال، المؤسسات والهياكل والآليات الإدارية والتنظيمية على غرار  "النظام الجمهوري" و"المجلس التأسيسي" و"المجلس الدستوري" و"الحرس الجمهوري" و"البرلمان" و"الأحزاب"، ثمّ المفاهيم والمنظومات والتنظيمات المستحدثة على غرار "الجمعيات غير الحكومية" و"الموفق الإداري" وغيرها؟ علما وأننا لم نعر اهتماما لضرورة ضخ تلكم المؤسسات بروح الهوية الوطنية الكاملة. وها نحن نختمها بـ"المسك": نستورد آلية تبيّن لنا كيف ينبغي علينا أن نتديّن. 
مع هذا فإنّ مسألة الترخيص للحزب الديني قد حُسمت. لكنها حُسمت إداريا و لم تُحسم وجوديا. وما يتوجب الانكباب عليه هو كيفية التعاطي مع الظاهرة الدينية كمفصل لمسألة الهوية. لا كيفية التعامل مع الحزب الديني كجسم إدراي أو ككيان سياسي. وفي هذا السياق أعتقد أنّ الخطيئة الأصلية التي ينبغي مجابهتها لكي يَسهُل التعاطي هي التوقف فورا عن الخلط بين "الحرية" و"الحرية المهربة". وبالتالي ينبغي التوقف عن الخلط بين الوجود وبين صورة الوجود. وما جرى لنا كان منتظرا حيث إنّ بلوغنا الذروة في تنميق صورة عن وجودنا حدثَ بالتوازي مع بلوغنا الذروة في استيراد الآليات المجردة من سياقِ محلّي ومتصلة دوما بسياقها المصدري، الغربي.
 هذا يعني أنّ مسألة التخلف في مجتمعاتنا تُرجِمَت بلغة الأرقام، المتعلقة بالعجز في مجال الاقتصاد، وبالذات في ميزان الدفوعات، ولم تُتَرجَم بلغة العجز الأصلي: العجز في ميزان الوجود، إن صح التعبير. علما وأنّ الأول ناجمٌ عن استيرادنا الكثير من الضروريات المعيشية (حتى الماء في تونس، و منذ بضعة أسابيع). وعلما أنّ العجز الوجودي جعلنا نشعر كالذي لم يعد قادرا على الأكل من فمه، ولا على اللمس بيديه، ولا على المشي على قدميه، ولا على الرؤية بعينيه، ولا على إقامة الدين في مسار الدين أو تعاطي السياسة في مسار السياسة؛ لا من منظور التقارب بينهما ولا من منظور تباعد كلاهما عن الآخر.
ما العمل يا ترى؟ هل سنستورد جهازا نأكل به وآلة نلمس بها وعصا نمشي بها ومنظارا نرى به، بعد أن استوردنا "حزبا" نقيم به الدين؟ إنّ من يأخذ وَهمَ الحرية على أنه الحرية إنسان غير موجود. وهذا خطر يحدق بنا الآن. وليست الحرية أن يقع تعزيز الحزب الديني في المجتمع المسلم، ولا أن يقع تقويضه، في المقابل، مثلما يجري الآن في تونس (التجاذب). إنما الحرية أن يدرك المجتمع أنّ المشكلات الناجمة عن مَأسسة الحزب الديني أعسر من تلك التي كانت ناجمة عن عدم الترخيص له بالوجود، وأنّ توغله الإداري في البلاد لم يسفر عن حلول لمشكلاتٍ بقدر ما أسفر عن مشكلات، إن كامنة أم مستحدثة. وبالتالي فإنّ الحرية الحقة في المجتمع المسترِدّ لكرامته بفضل ثورة الشعب توجد في وضع انتظار لإعادة تحديدها وإعادة تعريفها. والحرية الدينية جزء لا يتجزأ من الحرية في المجتمع المسلم.
 في السياق نفسه ليس السماح للحزب الديني بالنشاط السياسي العلني هو ما سينفع في القيام بذلك. والمانع أنّ المجتمع ككل قد حكم على الحرية الدينية بالانفصال عن الحرية بالمفهوم الأصلي، بينما من المفترض أن تكون هذه وتلك واحدة. ونتيجة لذلك قد تم بالفعل تحويل وجهة الحرية عموما من مسارها الطبيعي، دينيا كانَ أم سياسيا أم اجتماعيا أم اقتصاديا أم غيره من المسارات، المتعددة بتعدد نشاطات الإنسان. لقد تم تحويلها من مسار طبيعي، تاريخي، لا حتمي، إلى مسار هلامي، مُنبَتّ، حتمي، لا علمي. والنتيجة أن أضحت هذه الحرية يُعبّر عنها من منابع غير منابعها الأصلية وعلى منابر غير منابر الحياة المتعددة والمختلفة، بما في ذلك منبر المسجد .
 وليس غريبا أنّ الناس لا يتحسسون مِن الوخز إلا ما ينجم عن تعطيل الحرية الدينية. أمّا حين يتعلق الأمر بحق الطالب في ممارسة حريته في فهم الدرس كما ينبغي، أو بحق المعلم بالتمتع بحريته في تبليغ المعلومة والعلم كما يرتئي، أو بحق العامل بحريته في الانتفاع بأجر عادل، وبغيرها من الحريات، فلا يحرك الناس ساكنا. ذلك أنّ عوضا عن الاضطلاع بالحرية الطبيعية،غير مجزأة إلى ديني وغير ديني، حَكمت عقلية الاغتصاب والتهريب على الناس بتهريب التديّن، هو الآخر، حتى أُفرِغ الإسلام من معناه التحرري والحرياتي الأصلي.
 لذا لن نندهش لمّا نعاين أنّ الاستقطاب الثنائي بين إسلام وعلمانية في طور تعزيز، بدلا من أن يكون في طور انحسار. ولن نندهش لمّا نعاين أنّ هذا التجاذب أضحى فعالا لِما لا يُريد الشعب المتحرر: التعبير عن الهوية الدينية من خلال الحزب الديني دون سواه، بدلا من التعبير عنها في المجتمع ومن خلال تصورات المجتمع.
كما لن نتفاجئ  لحظة واحدة لمّا نسجل غياب التصورات المستقبلية في"برامج" الأحزاب. وهل هذه الأخيرة بقادرة على تشكيل رؤى لتونس الغد والحال أنها منجذبة للمتاجرة بالحرية؟ وهل يستوي مَن يكافح من أجل استرداد القدرة على التعبير عن الحرية، إن دينية أم غير دينية، في المسار الأصلي، ومَن يتمادى في استيراد ما لا يُستورَد؟

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد الحمّار
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/11/22



كتابة تعليق لموضوع : حتى الكنيسة استوردناها، والآن نعيش عُقباعا
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net