صفحة الكاتب : د . سمر مطير البستنجي

قنبلة التارخ الموقوته!
د . سمر مطير البستنجي


      يستدرّ الحلم من صفحات كتاب..ويستشفّ درب النجاح في عيون طلابه لحظة تغازل كلماته صدورهم الخاوية..يتأهب للصراع مع أدمغتهم الصغيرة وأسئلتهم البريئة.. كالبحر الذي صارع عاصفة الغروب كي تلد موجات صغيرة تأتي محمّلة بخيرات القاع ، ليلقيها ليّنة بين أحضانهم ،فيأخذونها ويرحلوا بسلام آمنين.
      ها هو الأستاذ كمال ،،متمكن من علمه إلى ما فوق حد الوصف..فيلسوف لم تلُقي  عليه  الدنيا أنظارها..
فتوارى في سَفر مَن  نسيتهم  ولم تمنحهم منها سوى بقعة يرُكّزون عليها أقدامهم..
    في كل يوم؛ ومع ضحى الشمس الباهرة كان يقف وراء طاولة الدرس..تحترق دماغه بالفكرة فتسيل أودية حبرهِ خصبة تروى كلماته التي تربعت على عرش أوراقه..ليصهرها علما مبسطا تستسيغه أدمغة الطلاب الصغيرة.الذين جاءوا إلى المدرسة يرصفون طريقا للمستقبل بحجارة من حروف..ويزرعونه أزهارا من كلمات..
فمن خلال غيوم الطباشير الضبابية، كانت تتسلل شلالات الضوء القمرية خلسة لتغسل دروبهم..وتُضيء طريق الوصول للعلوم  .. ووراء أدوات المدرسة ألمخبريه كانت ترقد أحلامهم..وخلف تضاريس الخارطة الوهمية  .. رأوا ما اختبأ من عالم وراء دنياهم..دون  أن تستوعب مداركهم الصغيرة ماهيّته.
     كان التلاميذ مع بداية كل نهار دراسيّ جديد،يلتصقون بمقاعدهم،ويلتفّون حول طاولاتهم الصغيرة الممتدة أمامهم كالصحون الفارغة التي استفاقت على جوعها تنتظر نصيبها  من  أصناف العلوم..
وكانوا ؛كلما دوت صافرة الإنذار من جرس المدرسة المهتريء.. وأذِنَت ساعة البدء لكمال بالدخول إلى غرفة الصف.. كانوا يتخذون أماكنهم المخصصة لهم كصفوف الجنود الذين تكدّسوا في ثكنات عسكريه مملوءة بالأسرار والحذر.... يرقبون الأستاذ كمال في كل حركاته وسكناته..يتطلعون إليه بنظرات تتسلل من خلال شقوق الرؤوس التي اصطفت بترتيب لا مرتّب على مقاعد الدراسة ، تتأرجح في مكانها كالمعلقة في الهواء تميل حيث الريح مالت..تهوى الهروب من النظام ككل الأشياء الكونية التي "تميل إلى اعلي حد من الفوضى وأدنى حد من الانضباط"؛ لكنها تخشى ثورة الأستاذ كمال..فتدّعي الهدوء المحشوّ بالغِلّ تنتظر بفارغ الصبر زغردة جرس المدرسة معلنا انتهاء أوان القيد، لتنفجر قنبلة الهدوء الموقوتة.
        الأستاذ كمال ؛ أستاذ التاريخ..معبأ بالتاريخ حدّ الثمالة  ، كلما تحدّر كالصخرة الجلمود داخل صحن الصفّ.. استدار ممسكاً بقطعة من الطباشير ، تكاد تصرخ وتستنجد وهي تختنق بين أصابعه، ليكتب كعادته  في استهلالية كل درس جديد بخط عريض على السبورة عبارة "وطني،،قدسية وتاريخ" ،..فترددها حناجرهم الصغيرة وكأنها البلابل تشدو على أشرعة النهار.
   كان الأستاذ كمال ، كلما تحدث عن تاريخ الأمم السابقة..عن دور العرب،عن الفتوحات الإسلامية، انتصار العرب على الروم..و.و. بدأ سيل من الموجات المُرسلة من مذياع صدره يتدفق عبر حدود شفتيه..فيسترسل في الحديث ويخرج عن النص المألوف والمقيّد بإطار صفحة الكتاب..تشطح أفكاره بعيدا حيث الأصالة..وتتكسّر قيود الكلام  على منابر العزّة ...فيلتهب الزمن الجميل بداخله.. ويقع في مصيدة ذكريات الأجيال الفائتة..يقصّ على الطلاب حكايات السلف بكل اعتزاز وافتخار..والطلاب يستمعون بإنصات ودهشة وإعجاب لكل ما كان وفات...ترتجّ جدران غرفة الصف فإذا بها كالبحر المائج الذي اتسع مداه وارتفع موجه.ليطال المدرسةة كلها..بل الحي ..بل تشتعل المدينة بأكملها وتغرق في لهيب التاريخ..
   لحديثه رائحة متعارف عليها، تنسكب من زجاجات عطره  المكونة من خليط العزّة والأصالة وامتزاجهما ببهارات العروبة والوطنية،فإذا بها تنافس أريج زهرة برّية توضأت بقطرات الندى..فغدت تعبق بالشذى..
وكلما تعالت صيحات التاريخ بداخله،سطع نور من وجهه يضيء أركان المكان فينافس الشمس في عليائها..
         كل يوم ..كانت تتحول غرفة الصف إلى حياة تعجّ بالأصالة والتاريخ والكبرياء وسيرة العظماء، وأحيانا تغدو مسرحا لأحداث حيّه، وميادينا للمعارك..وكثيرا ما كانت تُقام صلوات الغائب على أرواح شهداء التاريخ..وترتفع الأكف ترتل آيات من السبع المثانِ على أرواحهم الطاهرة.
      استمر كمال يتغنى بالتاريخ،ويستحضره حروفا من قصيد،والطلاب يستمعون..ويكبرون..وتكبر أجنّة التاريخ في قلوبهم..وتكبر عزيمتهم..ويكبر كمال ويكبرون..
     كبرت قصة العشق حتى ملأت المدرسة سيرتها.. وفاحت رائحتها المشبوهة فتعدت غرفة الصف..و حدود المدرسة..بل تعدّت حدود الحي الصغير..حتى وصلت إلى  مشارف المدينة وهناك وقفت!
   عيون تلتف حول مائدة مستديرة..تمتد عليها أصناف من الأوراق بدلا من الأطباق الشهية..تتعالى أصوات الحديث بين آراء ومناورات واقتراحات بدلا من أصوات انقضاض الملاعق على حواف الصحون..
ومن بين الأوراق الذابلة ،النائمة على الطاولة تنتظر من يوقظها..كان ملف الأستاذ كمال يحمل سيرته الذاتية ..فهو الآن محور الحديث  :
 "شديد الخطورة على المجتمع..من عشّاق التاريخ..يتلاعب بعقول لصغار..يحثّها على الاحتجاج على السكون الطاغي على البشرية، يستحضر سيرة العظماء في دواخلهم.. يوقظ فيهم حبّ التضحية،ورفض الخنوع والإستكانه..و..و.."
وبعد  مداولات صامته..اتفق الجميع على أن الأستاذ كمال يُعدّ بمثابة "قنبلة التاريخ الموقوتة"..
    وبلا تردد وبالحبر الأحمر القاني كلون دماء شهداء التاريخ الذي يعشق..وُضعت على ملفه علامة  اكس(×) كبيره ..تمدّدت عليه بكل استرخاء، تدل أذرعها الممتدة في الاتجاهات الأربعة على حقائق مبعثره، وتوحي بملامس الشتات.
ثم كُتب بالخط الأسود العريض على ملفه "إرهابيّ"...
ونام الملف على الطاولة حزينا....
وبعد أن عادت الأمور إلى نصابها..واتخذت مجراها الطبيعي..نام المحققون ملء الجفون بعد يوم شاق مُجهد تكللت فيه مساعيهم بالنجاح . فمن حقهم أن  يغطوا في نوم شهي عميق..فهم من استتبّ بهمتهم الأمن والأمان .
      وفي اليوم التالي..تسللت الشمس  لتختبئ كعادتها بين حقائب الطلاب لتذهب معهم إلى غرفة الصف ..تُنصت وإيّاهم لحكايات التاريخ التي تزيدها وتزيدهم توقّداً؛ولكنها ككل الطلاب لم تجد كمال..فقد غادر كمال بعد أن نثر على التاريخ في قلوب الصغار غيمات الحضور ..فاليوم قد أعلنت المدرسة خبر استقالته بل"إقالته" إن صحّ التعبير.. فتوارى يحمل برفقته أطباق التاريخ الشهّية المحلاّت بالسكر..والتي أحب الطلاب نكهتها، واعتادوا مذاقها..فها هو الآن يقبع وحيدا في زاوية بيته يطبخ ببهارات التاريخ طعامه كل صباح في انتظار من يتذوقه..ويُعدُّ قهوة الزّوار بنكهة التاريخ الفريدة..ولكن لا أحد يجرؤ على طرق بابه وتذوق تاريخه الشهيّ..
وبعد يأس مسائي كان يأتي طعامه ،يلتهمه بنهمٍ مع بنات ذكرياته ،يرثي البطون التي نامت خاوية بلا عشاء.
  أخيرا!
ها هي المدرسة بخير، وها هم يقصّون جذور الأستاذ كمال المزروعة في حدائق قلوب الصغار، ويستأصلون سرطان التاريخ قبل استفحاله في أدمغة الطلاب، ويقتلون الشوق المختبئ في العيون الصغيرة..
واحتفل الجميع بزوال الخطر المسمى" كمال ،قنبلة التاريخ الموقوتة"و الذي فجره في المدرسة دونما سلاح أو قنابل أو طائرات ، فخطره يقبع في عشقه للتاريخ والأصالة والعروبة والإباء– فمن الحب ما قتل - فهو يحمل تاريخا بحجم القذيفة ..أو قنبلة موقوتة قابلة للانفجار.
        بكى الأطفال وبكت الشمس وولت هاربة ؛لا من كمال"قنبلة التاريخ الموقوتة" ، كما فعل الجبناء الآخرون..بل لتبحث عنه..تنشر خيوط استشعارها في كل مكان لتستدل دربه،فتربض على جبينه المضمّخ بالعزّة  على شكل قبلة ساخنة.. ثم تذوب في لجة البحر الثائر في عينيه اللتين تسكن فيهما علامات الحياة..تنال حظها من خمر ه المعتّق..ثم تعود تبكيه باحمرار وقت حلول  أوان الشفق.
       بقيت المدرسة فارغة من التاريخ..والطلاب بلا تاريخ..وكاد أن يُنسى ؛ككل الحقائق الجميلة التي احتواها هذا التاريخ..دون أن يتحرك لغيابه ساكن..
       وبعد فترة  من الغياب التاريخي المقصود.. ألح ّالخجل على المجتمع المدرسي بضرورة استحضار التاريخ بين أفراد المواد المقررة الأخرى..حتى لو كان على الهيئة التي يريدونها..المهم كسر حاجز الخجل المترتب على غياب هذا المقرر..
       وبعد فترة من الترقب والخوف من حلول قنبلة أخرى تهدد بالانفجار.جاء الخبر اليقين والذي مفاده أن مدرّس التاريخ الجديد قد وصل..
      انه مدرس مثالي!!تتراقص خطواته على أنغام دندناته التي ما انفكّ يتمتم بها..وكلما تحدّث ؛تخللت عربيته الأصيلة فواصل من كلمات غربيه..توحي   باللافهم لما يعنيه التاريخ..
كان يقصّ التاريخ على مسامع طلابه كقصص الأطفال ،بضحكات عاليه تُسفر عن فوضى عارمة يغطّ بعدها طلاب التاريخ العرب في نوم عميق عميق..
عميق..عمق الشوق المختبئ في عيون الأستاذ"قنبلة التاريخ الموقوتة"..فكلما غطّ الطلاب في نوم عميق كانوا في مأمن وأمان..وكانت المدرسة في أمان..بل والدنيا كلها ترفل بأثواب الأمن والأمان..
فهنيئا لمن نام حتى مطلع الفجر..
ولكن!!..
هل يمكن للنائم تحت سقف العتمة أن يستفيق كي يشهد مع بداية كل يوم جديد..مطلع الفجر الجميل؟!
وأخيرا!
  ها هو الأستاذ"بلا تاريخ" يتربع على عرش المدرسة..ساكنا على كرسيّها بلا حراك..يُشيع سكونه الأمن والسكون والاستكانة في أرجاء المعمورة..فهو المُنقذ الذي حوّل المدرسة إلى مملكة أحلام ورقص وفرح..بعد أن وقّع هُدنة صريحة مع عالم التاريخ المزعج..وحكاياته الأسطورية المخيفة..وتعاهدا بأن لا عودة تقضّ مضجع الأمان.
بقلم: سمر مطيرالبستنجي




 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . سمر مطير البستنجي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/11/19



كتابة تعليق لموضوع : قنبلة التارخ الموقوته!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net