صفحة الكاتب : محمد الحمّار

الانتخابات حُسمت، لكن كيف تُحسم السياسة الكبرى؟
محمد الحمّار

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بُعيد الانتخابات في تونس وأثناء الإعلان ("القطرة قطرة") عن نتائجها أضحى الكثيرون يرددون كلاما من قبيل "الآن كل شيء انتهى، فلنترك الأحزاب تشتغل والمنتخَبين يشتغلون".
بقدر ما كان مثل هذا الموقف واقعيا بقدر ما هو طوبوي. فهو واقعي في ظل "السياسة الصغرى". ألا وهي ترشّحٌ فحملةٌ انتخابية فاقتراعٌ فنتائجٌ  فاجتماعٌ للمجلس الوطني التأسيسي المنتخب. وهي أيضا تفرّغٌ لعامة الناس إلى شؤونهم اليومية في الشغل وفي الدراسة. لكن الموقف يُعَد طوباويا في ظل "السياسة الكبرى" (لنا مقال في "السياسة الكبرى" منشور على الانترنت).
 وهذه الأخيرة تعني بناء الفكر السياسي الجديد الكفيل بتوحيد الأرضية الإيديولوجية العامة. علما وأنّ هذه الأرضية محفرة ومبللة ومكسرة. وما يدل على أنها كذلك نوعية الصراعات التي تبرز بين الفينة والأخرى، إن قبل الاستحقاق الانتخابي أم بعده. ومن بينها أحداث المتصلة ببث  فيلم "لا الله لا سيدي"، وتلك المتصلة ببث الشريط  الإيراني المشخص للذات الإلهية، وتلك المتصلة في الماضي القريب بتصريحات حمادي الجبالي في مدينة سوسة، وتلك المتصلة دوما ودائما بالعديد من الفعاليات الناتجة عن التجاذب الفكري والإيديولوجي بين الإسلام والعلمانية. علما وأنّ التخلف الإيديولوجي معضلة العرب والمسلمين الأولى وليست حكرا على مجتمع تونس.
يُخطأ من يظنّ أنّ الانتخابات التونسية قد حَسمت أمر هذه الإشكالية الكبرى. وهي إشكالية معرقلة للسياسة الكبرى. كما يُخطأ مَن يعتقد أنّ استرخاء الناخبين وعودتهم "إلى قواعدهم سالمين" مؤشر على صحة المسار الانتخابي أو على أنّ تسليم الشعب مقاليد الحكم إلى الأحزاب المنتخَبة والمتحصلة على مقاعد في المجلس التأسيسي كافٍ لإرساء الديمقراطية. يخطأ أولئك لأنّ مثل هذا الاعتقاد ينمّ عن عقلية مخطئة مفادها أنّ تسليم مقاليد الحكم لممثلي الشعب هو في نفس الوقت تسليم لمقاليد التفكير والقرار.
لا وألف لا. ليست تمثيلية الشعب، إن في مجلس تأسيسي أم في مجلس نواب أم في غيرها من الهيئات السياسية الديمقراطية، وصاية على فكره وعلى قراره. فالكُرة في شباك الشعب لا في شباك الأحزاب بخصوص هذه النقطة. لقد قامت الأحزاب بدورها. أما الشعب الذي اختارها، ومن باب أحرى الشعب الذي لم يخترها، مُطالب بالتمسك بحقه في التفكير الحر وفي التعبير الحر وفي اتخاذ القرار الحر. وهذا التمسك وحده كفيل بالحفاظ على ضغط متواصل مسلط على أصحاب القرار المباشر، من رؤساء أحزاب وقياديين وقادة الرأي.
لكن في أي إطار يمكن للشعب أن يستمر في يقظته التي أبداها وجسدها في ثورة 14 جانفي وألاّ يسقط في فخ الاسترخاء والتواكل؟ الإطار تتحكم به طبيعة الانقسام الحاصل في الأرضية الفكرية والإيديولوجية العامة للمجتمع. وهو انقسام يتسم بالانفصام  أكثر من اتسامه بالاختلاف الذي كلنا يعلم أن فيه رحمة من الله. إنه اختلاف نقمة لا اختلاف رحمة. لذا من المفترض توخي المواطن موقفين اثنين يبدوان متناقضين لكنهما متكاملين:
أ. الابتعاد أكثر ما يمكن عن السياسة الصغرى، وعن تبني اللغة الخشبية للأحزاب وممثليها، ناهيك عن الساسة السياسوية.
ب. الاقتراب أكثر ما يمكن من ممارسة الفكر السياسي الحر، المتحرر من آليات التفكير الخاصة بالسياسة الصغرى التي يروجها الأحزاب والإعلام التابع لها والثقافة القبْلية للانتقال الديمقراطي.
هكذا لن يُفهم الابتعاد لكأنه استرخاء وتواكل بل على أنه تمسك بالاستقلالية الفكرية. وهكذا لن يُفهم الاقتراب لكأنه تملق للأحزاب بل على أنه تأصيل  لممارسة التفكير الحر في التربية الذاتية، إن فردية أم جماعية.
والإطار الملائم هو ذاك الذي يكون متسقا مع طبيعة الانقسام من جهة ومع متطلبات التحرر والاستقلالية. ويتمثل في بناء قوة ثالثة، لا إسلاموية ولا حداثوية. ولا يتوجب أن تكون هذه القوة دخيلة على الثنائي المذكور وإنما نابعة من صلبه. إنها قوة رعاية لا قوة مواجهة. قوة تهدف إلى تجبيس البون النتاج عن تجاذب الشطرين المنبثقين عن الانفصام. وما دامت تربيتنا الفطرية تؤكد على أنّ كل فردٍ في المجتمع راعٍ وكلنا مسؤول عن رعيته (الحديث النبوي)، فالمجتمع المعاصر، ككل، مطالب بأن يكون راعٍ لنفسه.
 والرعاية تتطلب الدراية. أما الدراية فلا تأتي من العدم. وإنما تأتي الدراية من صهر الجيد في القطب الإسلاموي بالجيد من القطب الحداثوي. هكذا يكون القطب الثالث قطب ضمّ وتأصيل لا قطب صدّ و تقسيم. لا قوة انقسام، كما نبّه من مخاطرها ستيفن فايدنر الأخصائي الألماني في "صدام الحضارات" عندما قال إنّ الغريب في القوتين (الشرقية الإسلامية من جهة والغربية الحداثية من جهة أخرى) أنّ كلاهما تقارن الجيد عندها بالرديء عند الأخرى.
فالقطب الثالث سيكون مؤلفا للسياسة الكبرى أو لا يكون. إذ إنه لن يكون مبنيا على المجهول. بل إنه مبنيّ القاسم المشترك لدى كلا القوتين المنفصمتين. وعلى إثر إنشائه وشروعه في إنتاج نفسه من صلب النواة الوفاقية الأولى، سيتسنى لنا الحديث عن يمين جديد وعن يسار جديد، عن كذا وكذا من الحساسيات الجديدة التي ستفرزها السياسة الكبرى للقوة الثالثة.
وشيئا فشيئا ستتنازل هذه القوة عن صفتها الثلاثية لتكتسي صبغة التوحيد والوحدة. طالما أنها مبنية على الأس الوفاقي.
 والتوحيد والوحدة صفتان أصليتان في تربيتنا الفطرية. وبالتالي لن يكون هنالك خلاف بين الوحدة والتوحيد الذي جاءنا بهما محمد صلى الله عليه وسلم وبين التوحيد والوحدة الذين سيحصل اكتسابهما بفضل القوة الثالثة. إنما بين هذا وذاك اختلاف لا خلاف. وحتى الاختلاف فهو اختلاف في المنهاج لا في المفهوم أم في القيمة.
إذن متى سيكون المجتمع التونسي، والعربي والإسلامي عموما، بمؤمنيه وبملحديه وبأهل الكتاب فيه، سيد نفسه، أي مكررا لقيم مثل التوحيد والوحدة؛ لا محاكيا لهما ولا صادّا لهما؟
محمد الحمّار

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد الحمّار
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/11/19



كتابة تعليق لموضوع : الانتخابات حُسمت، لكن كيف تُحسم السياسة الكبرى؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 1)


• (1) - كتب : ----- ، في 2012/10/03 .

#####






حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net