صفحة الكاتب : د . احمد راسم النفيس

الإمام السجاد وتربيتنا الروحية
د . احمد راسم النفيس

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

منذ أمد بعيد اختلط الحابل بالنابل حيث جرى تقاسم التصور الإسلامي (لينفرد) كل فريق بنصيب يزعم أنه صاحبه ومؤسسه حيث يدعي البعض أن مهمة التربية الروحية والأخلاقية للأمة قد سقطت في حجرهم وأصبحوا هم سادة هذا الفن وأساتذة هذا العلم.
لا نعفي الموالين لأهل بيت النبوة من مسئوليتهم عن تلك القسمة الضيزى لا لأنهم لم يقوموا بواجبهم من الأساس فالواقع يشهد أن مجالسهم عامرة بالذكر والدعاء والتقرب إلى الله، إلا أنهم ولسوء الحظ لا يجيدون تغليف بضاعتهم وتزيينها مثلما يفعل الآخرون ممن يزعمون لأنفسهم أنهم أهل الصناعة والفن.
الشيء المؤكد أن تعدد الأئمة عليهم السلام وتعاقب المراحل التي مروا بها يعني تنوع أدوارهم رغم توحد جوهر هذا الدور.
أحد أهم الوظائف التي اضطلع بها أئمة أهل البيت هي التربية الروحية للمسلمين والانتقال بهم من الإيمان الخشبي (كأنهم خشب مسندة) إلى إيمان القلب وتزكية الروح والارتقاء بها في مدارج الصعود قربا إلى الله عز وجل.
الانتقال من إيمان الشكل واللسان إلى إيمان المضمون والجنان ومن خضوع الجسد المتخشب اليابس الذي تهزه رياح الخارج إلى الخشوع المخبت الذي تهزه رجفات القلب ونبضه الواجف من خشية الله، حيث يقول الله تعالى في وصف هؤلاء وهؤلاء (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) .
(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) .
يقول تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) .
(فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) .
قسوة القلب تعني تبلد الضمير واستسهال ركوب المعاصي وممارسة الظلم حيث يتحول المجتمع إلى غابة يأكل فيها القوي الصغير بدلا من أن يصبح واحة للأمان ومضمارا لتحقيق العدل ومظهرا لتجلي الرحمة الإلهية التي أرادها الله لكل البشر (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ).
الآن يجري تقديم التصور الإسلامي وكأنه نظرية سياسية تهدف حصرا للإمساك بالسلطة وقطع رقاب العباد وسبي النساء وتقنين السلب والنهب تحت عنوان (جني الغنائم وقطف ثمرات الجهاد) وليس كرؤية متكاملة للكون تهدف إلى ترقية الإنسان نحو الكمال وإعمار الكون كمصدر أساس للرخاء.
الآن أصبح صناعة وتقديم تصور يسمونه بالإسلامي أمرا متاحا على المشاع لكل من هب ودب وفات هؤلاء وهؤلاء قوله تعالى (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) .
الله أرسل رسله للناس بالبينات وما كان ليتركهم دون نظام يجمع شملهم ويحدد أدوارهم هو نظام الإمامة الذي افتتح بعلي بن أبي طالب عليه السلام ثم الحسن ثم الحسين وعلي بن الحسين، وما حال الفوضى والتيه الذي تعيشه البشرية الآن إلا ثمرة الإعراض عن هذا النظام الإلهي وهو ما منح أصحاب العاهات العقلية والأمراض النفسية الوقاحة الكافية للزعم أنهم قادة الأمة وأنهم أهدى من أئمة أهل البيت سبيلا.
لم يكن الدور الذي اضطلع بها إمامنا السجاد زين العابدين علي بن الحسين ع في توجيه المؤمنين نحو تهذيب القلوب وانتزاع القساوة منها ناجما عن حالة اضطرار سببه الحصار الأموي المحكم المفروض عليه بعد فاجعة كربلاء كما قد يتصور البعض بل لأن هذه الفاجعة كشفت عن حجم الخواء الروحي والانحطاط الأخلاقي الذي عانت منه أمتنا وما تزال حتى هذه اللحظة وأن المهمة التي تصدى لها إمامنا السجاد لا يمكن أن يتصدى لها أحد عدا أئمة أهل البيت بدءا بعلي بن أبي طالب ووصولا إلى المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف.
ما أحوج الأمة الإسلامية من يومها وحتى الآن إلى من يقوم بتعبيد القلوب لرب العالمين فهي جوهر البعثة المحمدية (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) ، وليس مجرد إقامة دولة تمارس البطش والقهر وقطع الرقاب بعنوان تطبيق الشريعة ومبررها تلك المقولة المنسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله (أمرت أن أقاتل الناس......).
أمة التزكية والتطهير وليست أمة السيف وقطع الرقاب!!.
عندما يصف الله تبارك وتعالة أمة عيسى عليه السلام بقوله (ثمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)، فلا يعني هذا أن صفة الرأفة والرحمة زائدة عن الحاجة كما صفة الرهبانية، وهي صفة يمكن أن تكون محمودة طالما بقيت في إطار الاعتدال الذي لا يكلف النفس الإنسانية فوق طاقتها وفوق قدرتها على المواصلة والاستمرار.
لو كانت صفة الرأفة والرحمة زائدة عن الحاجة لما مدح الله رسوله الكريم بوصفه (بالمؤمنين رءوف رحيم) ولما مدح خاصة أوليائه من أتباع رسولنا الكريم وحوارييه العظام بقوله (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) الفتح 29.
أين هذه الرأفة والرحمة من التوحش الأموي والخوارجي الذي بلغ أوجه يوم فاجعة كربلاء حيث انتزعت الرحمة من نفوس أناس يدعون الإسلام ويزعمون التصاقهم بالسنة النبوية حيث ما تزال ذريتهم الوسخة تتفنن في الإشادة بهمجيتهم البربرية وترى فيها (حكمة يزيدية متعالية) حفاظا على وحدة الأمة ونظامها!!.
يقول تعالى (ألمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) .
ولأن فاجعة كربلاء شكلت نموذجا عمليا واضحا لا لبس فيه لحال التوحش وقسوة القلب السائدة يومها كانت الخطة التربوية التي اعتمدها الإمام السجاد بدءا من الدائرة المحيطة به وصولا لأبناء الأمة الإسلامية كلها تعتمد على تربية المؤمنين على الزهد في هذه الدنيا وزخرفها وزبرجها وتذكيرهم بقرب زوالها وأنها لا تفي بوعد ولا بعهد ولا تدوم على حال سواء وردت هذه الحقائق ضمن أدعيته عليه السلام أو في خطبه ومواعظه لمن حوله.
حرص الإمام على تنبيه البشرية إلى قصر عمر الدنيا وإلى أنها لا تعدو كونها معبر يمرون به في طريقهم نحو الأبدية مستندا لكلام سيد الزاهدين عيسى بن مريم عليه السلام.
يروي الشيخ المفيد في كتاب الأمالي:
عن أبي حمزة الثمالي رحمه الله عن علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام أنه قال يوما لاصحابه: إخواني! أوصيكم بدار الآخرة، ولا أوصيكم بدار الدنيا فإنكم عليها حريصون وبها متمسكون، أما بلغكم ما قال عيسى ابن مريم عليها السلام للحواريين؟ قال لهم: الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها. وقال: أيكم يبني على موج البحر دارا؟ تلكم الدار الدنيا فلا تتخذوها قرارا.
كما ينبه أيضا لأهمية محاسبة الإنسان لذاته وإيقاظ النفس اللوامة لتقوم بمهمة الرقابة الذاتية والرواية للشيخ المفيد في الأمالي:
عن أبي حمزة الثمالي قال: كان علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام يقول: ابن آدم إنك لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك وما كانت المحاسبة لها من همك، وما كان الخوف لك شعارا والحزن لك دثارا، إنك ميت ومبعوث موقوف بين يدي الله عزوجلفأعد جوابا.
إنها ذات الحكمة الإلهية التي احتضنتها مشكاة العلوم الربانية، مشكاة أهل بيت النبوة والتي امتد نورها من علي بن أبي طالب حتى حفيده السجاد عليه السلام حيث يروي الشريف الرضي في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:
عَنْ نَوْفٍ الْبَكَالِيِّ قَالَ رَأَيْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) ذَاتَ لَيْلَةٍ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ فِرَاشِهِ فَنَظَرَ فِي النُّجُومِ، فَقَالَ لِي: يَا نَوْفُ أَرَاقِدٌ أَنْتَ أَمْ رَامِقٌ، فَقُلْتُ بَلْ رَامِقٌ، قَالَ:
يَا نَوْفُ طُوبَى لِلزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا الرَّاغِبِينَ فِي الْآخِرَةِ أُولَئِكَ قَوْمٌ اتَّخَذُوا الْأَرْضَ بِسَاطاً وَتُرَابَهَا فِرَاشاً وَمَاءَهَا طِيباً وَالْقُرْآنَ شِعَاراً وَالدُّعَاءَ دِثَاراً ثُمَّ قَرَضُوا الدُّنْيَا قَرْضاً عَلَى مِنْهَاجِ الْمَسِيحِ يَا نَوْفُ إِنَّ دَاوُدَ عليه السلام قَامَ فِي مِثْلِ هَذِهِ السَّاعَةِ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ إِنَّهَا لَسَاعَةٌ لَا يَدْعُو فِيهَا عَبْدٌ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَشَّاراً أَوْ عَرِيفاً أَوْ شُرْطِيّاً أَوْ صَاحِبَ عَرْطَبَةٍ  ـ وَهِيَ الطُّنْبُورُ ـ أَوْ صَاحِبَ كَوْبَةٍ ـ وَ هِيَ الطَّبْلُ.
فالدثار، غطاء يتدفأ ويحتمي به المرء هوعند الإمام علي الدعاء إلى الله وعند زين العابدين هو الحزن والخشوع والخوف من الله عز وجل عندما يصبح الهم الأكبر للإنسان هو الوقوف بين يدي الله وتقديم إجابة شافية وقول ثابت ينجيه من هول المحشر (وقفوهم إنهم مسئولون)!!.
ما رواه أبو حمزة الثمالي عن الإمام السجاد عن محاسبة الإنسان لنفسه ووعظه لها وزجرها عن المعاصي هو ذاته كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في وصف من أحبهم الله من عباده ورضيهم أولياء له.
(عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَيْهِ عَبْداً أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ وَتَجَلْبَبَ الْخَوْفَ فَزَهَرَ مِصْبَاحُ الْهُدَى فِي قَلْبِهِ وَأَعَدَّ الْقِرَى لِيَوْمِهِ النَّازِلِ بِهِ فَقَرَّبَ عَلَى نَفْسِهِ الْبَعِيدَ وَهَوَّنَ الشَّدِيدَ نَظَرَ فَأَبْصَرَ وَذَكَرَ فَاسْتَكْثَرَ وَارْتَوَى مِنْ عَذْبٍ فُرَاتٍ سُهِّلَتْ لَهُ مَوَارِدُهُ فَشَرِبَ نَهَلًا وَسَلَكَ سَبِيلًا جَدَداً قَدْ خَلَعَ سَرَابِيلَ الشَّهَوَاتِ وَتَخَلَّى مِنَ الْهُمُومِ إِلَّا هَمّاً وَاحِداً انْفَرَدَ بِهِ فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ الْعَمَى وَمُشَارَكَةِ أَهْلِ الْهَوَى وَصَارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أَبْوَابِ الْهُدَى وَمَغَالِيقِ أَبْوَابِ الرَّدَى قَدْ أَبْصَرَ طَرِيقَهُ وَسَلَكَ سَبِيلَهُ وَعَرَفَ مَنَارَهُ وَ قَطَعَ غِمَارَهُ وَاسْتَمْسَكَ مِنَ الْعُرَى بِأَوْثَقِهَا وَمِنَ الْحِبَالِ بِأَمْتَنِهَا فَهُوَ مِنَ الْيَقِينِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ) .
لم يكن بنو أمية طواغيت هذه الأمة ليهدأ لهم بال دون أن يغمسوا كل من يمكن غمسه في مستنقع الجهل والشهوات وجر كل من يمكن جره إلى المشاركة في تضليل الأمة وحرف مسارها عن الصراط المستقيم ليصبح الكل سواء كالأنعام بل هم أضل وهو الخطر الذي وقعت مسئولية مواجهته على إمامنا السجاد البقية الباقية من نور آل محمد وسط تلك الظلمات المتراكمة بعضها فوق بعض.
يروي الشيخ المفيد رضوان الله عليه عن أبي حمزة الثمالي:
عن علي بن مهزيار، عن الحسن بن محبوب، عن مالك بن عطية، عن أبي حمزة الثمالي قال: ما سمعت بأحد من الناس كان أزهد من علي بن الحسين عليهما السلام إلا ما بلغني عن علي بن بن أبي طالب صلوات الله عليه. ثم قال أبو حمزة: كان علي بن الحسين عليهما السلام إذا تكلم في الزهد، ووعظ أبكى من بحضرته. قال أبو حمزة: فقرأت صحيفة فيها كلام زهد من كلام علي بن الحسين عليهما السلام فكتبت ما فيها، وأتيته به، فعرضته عليه، فعرفه وصححه وكان فيها: بسم الله الرحمن الرحيم كفانا الله وإياكم كيد الظالمين، وبغي الحاسدين، وبطش الجبارين. أيها المؤمنون مصيبتكم الطواغيت من أهل الرغبة في الدنيا، المائلون إليها المفتونون بها المقبلون عليها وعلى حطامها الهامد وهشيمها البائد غدا، فاحذروا ما حذركم الله منها، وازهدوا فيما زهدكم الله فيه منها، ولا تركنوا إلى ما في هذه الدنيا ركون من اتخذها دار قرار ومنزل استيطان، وبالله إن لكم مما فيها عليها دليلا من زينتها، وتصرف أيامها، وتغير انقلابها ومثلاتها، وتلاعبها بأهلها. إنها لترفع الخميل وتضع الشريف، وتورد النار أقواما غدا، ففي هذا معتبر ومختبر وزاجر للنبيه. إن الامور الواردة عليكم في كل يوم وليلة من مضلات الفتن، و حوادث البدع، وسنن الجور، وبوائق الزمان، وهيبة السلطان، ووسوسة الشيطان ليدرأ القلوب عن تنبهها، وتذهلها عن موجود الهدى، ومعرفة أهل الحق إلا قليلا ممن عصم الله، وليس يعرف تصرف أيامها، وتقلب حالاتها، وعاقبة ضرر فتنتها إلا من عصمه الله، ونهج سبيل الرشد، وسلك سبيل القصد ممن استعان على ذلك بالزهد، فكرر التفكر، واتعظ بالعبر فازدجر، وزهد في عاجل بهجة الدنيا، فتجافى عن لذاتها، ورغب في دائم نعيم الآخرة، وسعى لها سعيها، وراقب الموت، وسئم الحياة مع القوم الظالمين، فعند ذلك نظر إلى ما في الدنيا بعين نيرة حديدة النظر فأبصر حوادث الفتن، وضلال البدع، وجور الملوك الظلمة. فقد لعمري استدبرتم الأمور الماضية في الايام الخالية من الفتن المتراكمة والانهماك فيها ما تستدلون به على تجنب الغواة وأهل البدع والبغي و الفساد في الارض بغير حق. فاستعينوا بالله، وارجعوا إلى طاعة الله، وطاعة من هو أولى بالطاعة ممن اتبع وأطيع. فالحذر الحذر من قبل الندامة والحسرة، والقدوم على الله، والوقوف بين يديه. وتالله ما صدر قوم قط عن معصية الله إلا إلى عذابه، وما آثر قوم قط الدنيا على الآخرة إلا ساء منقلبهم وساء مصيرهم. وما العلم بالله والعمل بطاعته إلا إلفان مؤتلفان، من عرف الله خافه، فحثه الخوف على العمل بطاعة الله. وإن أرباب العلم وأتباعهم الذين عرفوا الله فعملوا له ورغبوا إليه، وقد قال الله تعالى: "إنما يخشى الله من عباده العلماء". فلا تلتمسوا شيئا مما في هذه الدنيا بمعصية الله، واشتغلوا في هذه الدنيا بطاعة الله، واغتنموا أيامها، واسعوا لما فيه نجاتكم غدا من عذاب الله، فإن ذلك أقل للتبعة، وأدنى من العذر، وأرجى للنجاة. فقدموا أمر الله وطاعته وطاعة من أوجب الله طاعته بين يدي الامور كلها، ولا تقدموا الامور الواردة عليكم من الطواغيت، من فتن زهرة الدنيا بين يدي أمر الله وطاعته وطاعة أولي الامر منكم. واعلموا أنكم ونحن عباد الله، يحكم علينا وعليكم سيد حاكم غدا، وهو موقفكم ومسائلكم، فأعدوا الجواب قبل الوقوف والمسألة والعرض على رب العالمين، يومئذ لا تكلم نفس إلا بإذنه. واعلموا أن الله تعالى لا يصدق يومئذ كاذبا، ولا يكذب صادقا، ولا يرد عذر مستحق، ولا يعذر غير معذور، بل له الحجة على خلقه بالرسل وبالاوصياء بعد الرسل. فاتقوا الله عباد الله، واستقبلوا من إصلاح أنفسكم وطاعة الله وطاعة من تولونه فيها، لعل نادما قد ندم على ما قد فرط بالامس في جنب الله، وضيع من حقوق الله، فاستغفروا الله وتوبوا إليه، فإنه يقبل التوبة، ويعفو عن السيئة، ويعلم ما تفعلون. وإياكم وصحبة العاصين، ومعونة الظالمين، ومجاورة الفاسقين، احذروا فتنتهم، وتباعدوا من ساحتهم، واعلموا أنه من خالف أولياء الله، ودان بغير دين الله، واستبد بأمره دون أمر ولي في نار تلتهب، تأكل أبدانا قد غابت عنها أرواحها وغلبت عليها شقوتها، فهم موتى لا يجدون حر النار فاعتبروا يا أولي الابصار واحمدوا الله على ما هداكم، واعلموا أنكم لا تخرجون من قدرة الله إلى غير قدرته، وسيرى الله عملكم ثم إليه تحشرون، فانتفعوا بالعظة، وتادبوا بآداب الصالحين.
يحذر الإمام السجاد من يسمع نصيحته من المؤمنين من الخطر الحقيقي الذي يتهدد وجودهم وأصل إيمانهم (أيها المؤمنون مصيبتكم الطواغيت من أهل الرغبة في الدنيا، المائلون إليها المفتونون بها المقبلون عليها وعلى حطامها الهامد وهشيمها البائد).
(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُواْ الْأَلْبَابِ) .
كما يحذرهم من السقوط في فخ الشيطان والركون إلى ما يبثه من أوهام ووساوس تردي أصحاب الهوى (ولا تركنوا إلى ما في هذه الدنيا ركون من اتخذها دار قرار ومنزل استيطان) وهو مطابق لقوله تبارك وتعالى (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ)  وقوله تعالى (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) .
الزهد الذي يعنيه أئمة أهل البيت عليهم السلام ليس ذلك الزهد الذي يأخذ صاحبه بعيدا عن المجتمع ليحتمي بالعزلة تاركا الدنيا (لملاكها وأصحابها) بل هو الزهد الذي يعصم ويقي صاحبه من الشره والطمع في نيل ما في أيدي الناس على حساب حقوق المستضعفين المظلومين.
الزهد الحقيقي يمنع صاحبه من التحول إلى كلب يلهث على أعتاب الجزارين الذين لا هم لهم إلا ذبح الأبرياء وانتهاب أموالهم.
أن تعتزل الناس متفرغا للعبادة في صومعة فهذا أدنى درجات الزهد، أما الزهد الحقيقي أن ترى الدنيا ونعيمها وزينتها وزخرفها بين يديك ثم تختار ما عند الله لأنه أدوم وأبقى!!.
الزَّهَادَةُ–كما يعرفها الإمام علي- قِصَرُ الْأَمَلِ وَالشُّكْرُ عِنْدَ النِّعَمِ وَالتَّوَرُّعُ عِنْدَ الْمَحَارِمِ، وليست ثيابا ممزقة وانعزالا عن الدنيا.(الْعَجْزُ آفَةٌ وَالصَّبْرُ شَجَاعَةٌ وَالزُّهْدُ ثَرْوَةٌ وَالْوَرَعُ جُنَّةٌ وَنِعْمَ الْقَرِينُ الرِّضَى).


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . احمد راسم النفيس
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2018/01/21



كتابة تعليق لموضوع : الإمام السجاد وتربيتنا الروحية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net