صفحة الكاتب : عماد يونس فغالي

"قواعد العشق الأربعون" عَودٌ إلى إنسانيّةٍ صافية
عماد يونس فغالي

هذه الرواية، منذ ولجتُ صفحاتِها الأولى، عرفتُ أنّي أمامَ نمطٍ أدبيّ نادر، يتخطّى الفكرَ الأدبيّ، إلى عالم الإلهيّات والمثل العليا، في مفهومٍ فوق الطبيعيّ. عرفتُ أنّي تخطّيتُ الفكر الإنسانيّ البسيط، إلى بساطة الفكر الصافي، الآخذ في الارتقاءِ صوفيًّا ليطال الفكر الإلهيّ في بساطته.

ورحتُ أتقدّم في القراءة. عشقتُ الموضوعَ ومعالجته في السياق. واستطعتُ منذ الصفحات الأولى أن أستوعبَ الفكرةَ الأساس التي تدور حولها الحبكةُ النصيّة. وأحببتُ. هذا لأنّ الفكرَ الصوفيّ يلتقي مع التوجّه اللاهوتيّ الذي يستهويني، والذي يخرج تلقائيًّا وطبيعيًّا، على القواعد التديّنيّة والعقائد الدينيّة، والقوانين المؤسّساتيّة التي تحدّد المسارَ والنهج في كلّ دينٍ. ذلك أنّ العلاقةَ بين الله والإنسان، إن كانت، فهي تأسّست على مدماكٍ صخريّ قوامه: الإنسانُ صورة الله.  وذروةُ حياة الإنسان، أن يطالَ الله في ملء قامته. وهذه هي القاعدة التي بنى عليها الصوفيّون مسيرتَهم في الحياة. قيل هذا في الرواية على لسان إحدى الشخصيّات، عزيز زاهار (قد يكون صوفيًّا أو روحانيًّا في الزمن المعاصر): "أنتِ تظنّين أنّي رجلٌ متديّن. ولكنّي لستُ كذلك. فأنا شخصٌ روحانيّ، وهو شيءٌ مختلف".

روايتُنا "قواعد العشق الأربعون"، تركيّة النصّ. كاتبتُها أليف شافاك، "هي الروائيّة الأكثر مبيعًا في تركيّا. تُرجمت أعمالها إلى معظم اللغات العالميّة... قرأت مؤلّفات الصوفيّين الكبار الذين تساموا بمفاهيمهم عن الحبّ منذ عصورٍ غابرة، وجاء اهتمامها بجلال الدين الروميّ وشمس التبريزيّ متوِّجًا هذه القراءات ومتجسِّدًا في رائعتها "قواعد العشق الأربعون" التي عزّزت من شهرتها الأدبيّة على نطاقٍ عالميّ..."

نقل روايتَنا إلى العربيّة محمّد درويش. جديرٌ الاعتراف أنّه حافظ على الحبكة النصيّة مترابطة ومتراصّة.  كما أنّ النمط السرديّ في اللغة العربيّة يعطيكَ الانطباع كأنّ النصّ دُوّن في لغة الضاد من الأساس. وهذا يسجّلُ للمترجم إيجابيًّا. فهو داخلٌ في المضمون، لكأنّي به مقتنعٌ بما ينقله، متبنٍّ أفكارَ، لا الكاتبة وحسب، بل أبطالَ الروايةِ واحدًا واحدًا. ولنا في ما يتبع، عودٌ إلى هذا. لكنّ نقصًا يشوبُ النصّ، هو الأخطاء القواعديّة والإملائيّة الواردة بتواتر، كما الضعف الذي يلحقُ أحيانًا بالصياغة اللغويّة للأفكار. وهذا في رأيي لا ينجم عن الترجمة، بل كان ليردَ أيضًا لو كان المترجم يؤلّف بدلَ النقل.

يميّز الروايةَ هذه تزاوجُ العصور. فأنتَ في عصرين بعيدَين، الواحد عن الآخر. أنتَ في الأساس في بداية القرن الواحد والعشرين، مع البطلة الأولى أيلاّ، التي أوكلت إليها دراسة مخطوطة، تعود في مضمونها إلى القرن الثالث عشر. وفي هذا التزاوج، أدخلت الكاتبة لقاء الروميّ بشمس التبريزيّ. لقاءً صوفيًّا بامتياز، ليغلب هذا الطابعُ على الرواية ككلّ، ويغيّر لاحقًا مسار البطلة وحياتها كليًّا. صحيح، في السرد أنّ البطلة تقرأ مخطوطة، طُلب إليها في دار النشر تقديم تقريرٍ حولها. وهذا عملٌ وظيفيّ تعتمده دور النشر في انتقاء المخطوطات التي تتبنّاها طباعةً ونشرًا. لكنّ تتابع الأحداث في الرواية يأخذ منحى الانتقال العفويّ والطبيعيّ بين العصرين السابق ذكرُهما، لتتشكّل وحدةٌ نصيّة في الشكل والسياق. 

من ناحيةٍ أخرى، اختارت المؤلِّفة أبطالَ روايتها من مختلف الناس طبقيًّا، ثقافيًّا وإيمانيًّا. لكنّ جامعًا غريبًا يربط بينها جميعًا: الكلّ يتخبّط بالمشاكل والمعاناة. هنا الرتابة الزوجيّة وتبعاتها، وهناك الفقر المدقع وتداعياته، من مجونٍ وبغاءٍ وسكرٍ وما إلى هنالك. في مقابل الروحانيّين

والصوفيّين، الذين ينظرون إلى العالم بعين الله المجرّدة، وينطلقون في نظرتهم العلائقيّة من اعتبار الناس سواسية أمام الله. وبين الفئتين، هؤلاء "المتديّنون" اللابسون ثيابَ الطهر والالتزام بالشريعة وتعاليم الأديان، وهم في نفوسهم ذئابٌ متزمّتة، يبنون على الحرف ليحكموا على الناس بمعزلٍ من إنسانيّة.

شخصيّاتُ الرواية تلتقي كلّها في المفهوم الصوفيّ، وتتلقّى قواعدَ في الحياة، رأسُها الحبّ. في مفهوم الحبّ هذا يلقّن شمسُ التبريزيّ كلّ امرئٍ يلتقيه، قواعدَ العشق الإلهيّ، مطبَّقةً على واقعه في السياق. قمّةُ هذا الرباط العموديّ هذه المرّة، قصدت الإنسانَ بالله، تجعلُ الناسَ جميعًا، في نظر الله، صورةً له واحدة. الغانياتُ والأولياء في عين الله متشابهون. النوعان، يصل ناسهما إلى الله ويلتقونه، إذا تجرّدوا من نقصهم، واعتنقوا الحبّ المجرّد الذي يرفع إلى الله. في داخلِ كلّ نفسٍ، مهما سقطت في المفهوم الإنسانيّ أو المجتمعيّ، جذورٌ إلهيّة مستعدّة أن تتجلّى وتتفاعل، إذا أفسح صاحبُها لها وُسعَ المجال في حياته الخاصّة والعلائقيّة.

"قواعدُ العشق الأربعون"، روايةٌ أحبّها الذين قرأوها، بل عشقوها. هذا ما دعا منتدانا إلى مناقشتها الليلة في حضور نخبةٍ ممّن تعرّفوها قراءةً وتذوّقًا. هذا يعني أنّ الأدب الصوفيّ، ولو صيغَ روايةَ عشقٍ، أو تشكّل معضلةً مجتمعيّة، فهو أدبٌ يتوق إليه الناسُ في أعماق إنسانيّتهم. وهو يصلُح في كلّ العصور والمجتمعات، لِما يروحُ في أساس تكوّن النفس البشريّة وأصالتها.

أمّا الغريب في هذا العشق الإلهيّ، فهو انتماؤه إلى أتباع كلّ الأديان التي تضحي وسيلةً بسيطةً جدًّا للبلوغ إلى ذات الله "المُحِبّة". فما رأيناه في روايتنا ههنا، من صوفيّةٍ إسلاميّة، انطلقت من القرآن الكريم، نعاينُه في أشخاص الكنيسة الذين تخطَّوا ظاهرَ تعاليمها إلى عمقِ اكتشاف الذات الإلهيّة فيها والتماهي معها بصورةٍ فائقة التصوّر، لم يبلغها رجال الدين المسيحيّون، الملتزمون العقائد والقوانين، أسلوبَ حياةٍ ورعايةَ شعب. أذكرُ هنا على سبيل المثال، القدّيس شربل في مقاربته العلاقةَ بحبيبه الإلهيّ في السيرة والمسلك، ومن ثمّ في الآيات الخارقة الطبيعة التي لا تزال منذ نيّفٍ ومئةِ عام، تتجلّى دافقةً على الإنسان في العالم أجمع، دون اعتبارٍ لانتمائه الدينيّ أو العرقيّ أو ما شابه. ولنا في ما نُسبَ إليه من أقوال، شواهدُ شبيهة بما وردَ على لسان التبريزيّ في الرواية خصوصًا.

في النهاية، لا بدّ أقول إنّ عَودًا إلى إنسانيّةٍ صافية، تطلّبتْ خلوًّا من زياداتٍ تعقيديّة، تلوّن بها المرء في حياته التواصليّة، في المجتمع والدين اللذين ينتمي إليهما، يفتحُ الإنسانَ على حقيقته، فيعي قدرته على السموّ بنفسه إلى ملء الذات الإنسانيّة كما خلقها الله وأرادها، صورةً عن ذاته الإلهيّة، بفيضٍ من محبّةٍ كاملة.

"قواعد العشق الأربعون"، روايةٌ تُشكر عليها المؤلِّفة، ويُشكر المعرِّب. في الحقيقة جعلا المثُلَ التي نادى بها الصوفيّون، واقعًا يُعاش، ولو تراءى صعبًا. جعلا الحبَّ واقعًا معيوشًا ينقلنا إلى حالةٍ من حياتنا ممكنة، تستحقّ أن نحياها، تزرع حولنا الفرح والعطاء. باختصار، تصنع عالمًا من القيم واقعيًّا، بعيدًا عن النظريّات والأوهام. أمَا هذا ما ننشده في ارتقاءاتنا نحو فوق؟؟!!!


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عماد يونس فغالي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2017/11/23



كتابة تعليق لموضوع : "قواعد العشق الأربعون" عَودٌ إلى إنسانيّةٍ صافية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net