صفحة الكاتب : الشيخ محمد قانصو

الجنّ البريء!..
الشيخ محمد قانصو

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

.. تعود بي الذاكرة إلى أيام الطفولة, يوم كان بيتنا مواجهاً للمقبرة, وكنّا نتّخذ من القبور مسرحاً للعبة التخفّي, متناسين كلّ حكايات الرعب وأقاصيص الخوف التي كانت تلقى على مسامعنا لإجبارنا على الطّاعة تارة, وعلى النّوم المبكّر تارة أخرى .
كنّا نجاور الأموات متصالحين معهم, يحكم بيننا وبينهم حسن الجوار, فلا نحن نزعجهم بصخبنا الدائم, ولا هم يتعرضون لنا بأذيّة.
ورغم الحقيقة الماثلة أمام أعيننا, وجرأة الطفولة المتحفّزة, فلا ننكر وقع مخاوف شاءت البيئة المشبعة بالخرافة أن تحتفرها في أذهاننا الطريّة ..
كانت قريتنا كجاراتها من القرى الفقيرة, تسكنها العتمة عند الغروب, وكلما اشتدّ سكّين الليل في كبد السماء, خيَم الأسود الممزوج بالخوف والرهبة على العقول, وتفتّقت قريحة الوهم عن أساطير وأقاويل تنصت لها الآذان وتذعن لها النفوس دون نقاش أو اعتراض ..
أذكر كثيراً من إفرازات العتمة في قريتنا, ولعلّ أكثر ما استحضره حتى اللحظة هو نجم نجوم الرّعب المسمّى "بالجنّ"..
ذلك المخلوق الآتي إلينا من عالمه الناريّ ليقتحم حياتنا, فينشر غسيله الأبيض على سطوحنا, ويقيم أعراسه في البيوت المهجورة والمقفرة, وربما قادته الوقاحة وضعفنا إلى احتلال أجسامنا واعتقال عقولنا. فنرى صنيع شروره ببعض ضحاياه من المصروعين, ونتلمّس خبث سريرته وقد فصم عرى الوئام ما بين الزّوج وزوجته, وقطع حبال الوصال ما بين الأخ وأخيه.
ولم يكتفِ الجنّ المستبدّ بما قدّمت يداه من خراب, وإنما قاده جموحه إلى اختطاف العروس ليلة عرسها والتزوّج بها رغماً عن بني البشر, وقد اتّخذ من جسمها العليل مسكناً لروحه الشريرة, ولم تنفع معه كلّ التعاويذ والقراءات الجليلة, ولم يرعوِ بالضرب المبرّح ليخرج من الجسم الطريح أمام الجلادينَ من قرنائه الإنس !..
سنون مضت و"الجنّ" يحتلّ مساحات شاسعة من المخيّلة الشعبيّة, ويتصدّر قائمة المتّهمين بحوادث وعلل حلّت بنا آثارها وخفيت عنا أسبابها. ورغم وصول الكهرباء وتبدّد العتمة في الشوارع والبيوت, رغم انبعاث الضّوء من بطون الكتب, وانقشاع السّحاب عن وجه الشّمس, بقي الجنّ حبيس أذهان الكثيرين من المتخمين بالوهم, وما زلنا نسمع من هنا وهناك حكايات المسّ والتلبّس, والعلاج بالبخور, وتوسّل الجنّ لاستعلام الغيب, ونفخ الرّوح في الرّحم العاقر..
ولأننا عرفنا اليوم أمراض الصّرع, والفصام, واضطراب الكيان التفكّكي, والاضطراب التحوّلي, وغيرها من الاعتلالات الذهنية والنفسية, ولأننا اهتدينا الطريق إلى معرفة أسباب الكثير من الظواهر
الطبيعية والأنفسية, وأدركنا من خلال الدّين المسافة الفاصلة بين عالمي الإنس والجنّ, ولأننا نريد استنهاض مجتمعاتنا بالعلم, وتوريث الأبناء أمجاد الآباء, ولأننا نريد إنصاف الجنّ من أنفسنا, ونعتذر عمّا سقناه ضدّه من تهم جزاف .. فإنّنا أمام محكمة الله والإنسان نعلن براءته !!...
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد قانصو
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/10/31



كتابة تعليق لموضوع : الجنّ البريء!..
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net