ملاحظات على كتاب (الشهيد الخالد).. [١]
الشيخ محمد جاسم

 

يعتقد الشيخ الصالحي أنّ الإمام الحسين (ع) كان يرى إمكانية الانتصار في نهضته وإسقاط الحكم الأموي قبل أن يتلقي بجيش الحرّ، وهنا يبرز إشكالان مهمان ذكرهما الشيخ وأجاب عنهما:

[الإشكال الأول]: كيف ينسجم ما يذكره المؤلف من إمكانية الانتصار بحسب الموازين الاعتيادية والحسابات العقلائية مع إشارة جماعة من المحنكين وأهل الخبرة في السياسة على الإمام (ع) بعدم الذهاب إلى العراق؟
للجواب عن هذا الإشكال يرى المؤلف كفاية أخذ (عبد الله بن عباس) مثالاً للرافضين لذهاب الإمام لكونه أكثرهم حنكة ودراية، و(مسلم بن عقيل) مثالاً للمؤيدين لذلك، للمقارنة بين طريقة تفكير كلّ منهما.. وينتهي إلى أنّ رأي مسلم أدقّ من رأي ابن عباس؛ لكون مسلم قد درس أوضاع الكوفة عن قرب لمدة أربعين يوماً بخلاف ابن عباس الذي غادر الكوفة منذ ٢٠ عاماً.

[الإشكال الثاني]: إن كان رأي الإمام (ع) أدقّ من رأي ابن عباس فلماذا كانت النتيجة موافقة لرأي ابن عباس حيث انتهى سفر الإمام إلى استشهاده ومقتل أهل بيته وأصحابه؟ ألا يكشف هذا أنّ رأي ابن عباس الذي كان يرجح عدم إمكانية انتصار الإمام كان هو الأدقّ؟
يجيب المؤلف هنا بأنّ علينا أن نفكك بين قضيتين: (صحة تقدير وحساب الأوضاع) و(ما يحصل في الخارج من الأحداث غير المتوقعة)، ويذكر مثالاً لتوضيح هذه الفكرة، وهو: أنّ عبد الله ابن أُبي زعيم المنافقين كان يرى بقاء المقاتلين في المدينة في غزوة أحد وعدم خروج الجيش منها لتلقي الكفار، في حين كان النبي (ص) يرى خلاف ذلك، لكن ما حصل هو انتصار المشركين نتيجة لنزول الرماة من الجبل.. هنا هل نستطيع أن نقول أن تقويم ابن أُبي للأوضاع كان أدقّ من تقويم النبي (ص) لأنّ النتيجة طابقت رأيه؟! طبعاً لا يمكن أن نقول ذلك، وذلك لأنّ حصول الهزيمة لم يكن بسبب خطأ في تقدير النبي (ص)، بل لحصول أمر طارئ لا يمكن التنبؤ بحصوله وفق الحسابات الاعتيادية ـ وهو نزول الرماة ـ .
كذلك الحال بالنسبة إلى ثورة الإمام الحسين (ع)، فإنّ الهزيمة التي حصلت لم تكن ناتجة عن دقة نظر ابن عباس وعدم دقة نظر الإمام (ع)، بل كان لأمر طارئ لم يكن يمكن التنبؤ به بحسب مجاري الأمور الطبيعية، وهو سيطرة ابن زياد على القوى الشعبية وقلب الأمور إلى صالحه.

هذه خلاصة ما ذكره المؤلف في هذا الصدد [راجع للتفصيل: الشهيد الخالد: ٨٨-٩٤]. وهناك ملاحظات عديدة حول هذا الكلام، وسأكتفي بملاحظة أساسية واحدة حتى لا يطول الكلام أكثر من ذلك.. وبيانها في نقطتين:

١. إن قام شخص بتقدير للأوضاع وتنبأ وفق دراسته وحساباته بنتيجة ثمّ حصل ما تنبأ به، فكيف نستطيع أن نعرف أنّ هذا التقدير وهذه الدراسة هل كانت دقيقة بحيث حصلت النتيجة الموافقة لها أم أنّ هذا التقدير وهذه الدراسة للأوضاع لم تكن دقيقة وأنّ موافقة نتيجتها للواقع كان مصادفة ناتجة عن حصول أمر طارئ لم يكن بالحسبان؟
الجواب: إنّ علينا أن ننظر إلى أمرين: (السبب الواقعي الذي أدى إلى وقوع النتيجة) و(السبب الذي حكم المتنبئ على أساسه بحصول النتيجة)، فإن تطابقا فذلك يعني صحة هذا التقدير وإن اختلفا عنى ذلك عدم صحته.. مثلاً: إذا توصل طبيب بعد دراسته لحال مريض معيّن إلى أنّه سوف يموت نتيجة لنزيف في بدنه وتوصل طبيب ثانٍ إلى أنّه سوف لا يموت لعدم كون نزيفه بالدرجة التي تؤدي للموت ثمّ مات هذا المريض، فإن كان موته بسبب هذا النزيف كشف ذلك عن أنّ تشخيص الطبيب الأول كان أدقّ من تشخيص الطبيب الثاني، ولا يمكننا أن نقول أنّ تشخيص الثاني كان دقيقاً لكن حصلت حالة غير متوقعة؛ إذ إنّ ما حصل كان ناتجاً عمّا استنتجه الطبيب الأول وتوصل إليه ولم يكن ذلك لحصول أمر خارج عن الحسابات الطبيعية. وأمّا إن لم يؤدِ النزيف إلى موته بل مات بسبب خطأ أحد الأطباء في إجراء العملية، فهنا نستطيع أن نقول أنّ تشخيص الطبيب الثاني كان أدقّ وإن كان ما حصل في الخارج موافقاً لما توصل إليه الطبيب الأول؛ وذلك لأنّ السبب الواقعي للموت (الخطأ في العملية) غير السبب الذي بنى عليه الطبيب الأول في حساباته (شدة النزيف).

٢. عند تطبيقنا هذه القاعدة على قضية معركة أحد وقضية ثورة الإمام الحسين (ع) سنصل إلى نتيجتين مختلفتين.
فالسبب في هزيمة المسلمين في معركة أحد هو (نزول الرماة من على الجبل)، وأمّا سبب في الهزيمة بحسب رأي عبد الله بن أُبي هو (عدم إمكان مقاومة المسلمين مع قلة عددهم للمشركين في خارج المدينة فلا بدّ من التحصن في داخلها).. ومن الواضح أن الأمرين متغايران؛ فإنّ نزول الرماة الذي كان هو السبب الواقعي لحصول الهزيمة كان أمراً طارئاً غير متوقع، وأمّا عدم إمكان المقاومة خارج المدينة فلم يكن مؤثراً في الهزيمة، ولذا انتصر المسلمون وانهزم المشركون في بداية المعركة ممّا يكشف عن خطأ تقدير ابن أبي للأوضاع.
والسبب في مقتل سيد الشهداء (ع) وتغيّر الوضع في الكوفة لصالح ابن زياد هو غدر أهل الكوفة وخذلانهم كما صرّح بذلك الإمام (ع) في خطبته في البيضة: (وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ما هي لكم بنكر لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمى مسلم، والمغرور من اغتر بكم) [تاريخ الطبري: ٣٠٥/٣] وفي مواطن أخرى، وقالته السيدة زينب (ع) في خطبتها في الكوفة: (فسليل خاتم النبوة... خذلتم، وله قتلتم) [أمالي المفيد: ٣٢١]، وذكره مسلم بن عقيل في رسالته الأخيرة: (إنّ أهل الكوفة كذّبوك وكذّبوني، وليس لمكذبٍ رأي) [تاريخ الطبري: ٢٨١/٣]. والسبب في رفض الرافضين لذهاب الإمام (ع) إلى الكوفة كان عين هذا السبب كما قال ابن عباس: (وما أنا لغدرهم بآمن) [مروج الذهب: ٦٤/٣]، وأبو بكر بن عبد الرحمن [الطبقات الكبرى (الطبقة الخامسة من الصحابة): ٤٤٧/١]، والأحنف بن قيس [أنساب الأشراف: ٣٧٥/٣]، وغيرهم.

وبهذا يتضح: أنّ تقدير المخالفين لذهاب الإمام (ع) إلى العراق كان صحيحاً ودقيقاً؛ لأنّ تغيّر الأوضاع لم يكن لحادث طارئ غير متوقع، بل كان ناتجاً عن أمر توقعه المخالفون وذكروه للإمام (ع). وعليه فلا يمكن البناء على أنّ الإمام الحسين (ع) كان يعتقد بحسب المجاري الاعتيادية للأمور أنّه سينتصر لا لعصمته فحسب، بل لرجاحة عقله ـ الظاهرة لمن يتأمّل في سيرته ـ التي تمنعنا من الالتزام بعدم معرفته ما عرفه غيره ممّن لا يدانيه في تعقله وحكمته.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد جاسم

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2017/10/04



كتابة تعليق لموضوع : ملاحظات على كتاب (الشهيد الخالد).. [١]
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net