صفحة الكاتب : ادريس هاني

مع نزار قبّاني: نبكي على الرأس المرتل آية
ادريس هاني

الكلّ يعرفه..ويعرف شعره من بصمة قوافيه..لا هو ديك الجنّ ولا المتنبّئ بل تماما كغيره من رواد القصيد: هو هو نفسه..وكذلك هو : هو نزار قباني..شعر يجري مجرى بردى..من هاهنا تشرب غواية الحروف..بل وكما أوصى قبل الممات، أن يدفن حيث تعلم: أبجدية الياسمين..حزن، واحتجاج، وتهكّم، وصدق ساخر، فاجر، جاوز نظام الكلمات..شعر هو كل يوم في شأن..في الثورة والمرأة..نزار قباني شاعر كثير الملام ككل شعراء جيله..يائس مما تبقّى من سلالة العرب حتى أنه ساءلهم من خلال عنوان قصيدته: متى يعلنون وفاة العرب؟..القصيدة هنا احتجاج وثورة وعقد مختلف مع الحقيقة..ترقى القصيدة العربية إلى آلام الحسين، لتختبر قافية حزنها ووزن بحور هذا الوجع المترامي الأطراف في جغرافيا المعذبين في الأرض..تتوشّح القصيدة هنا كل أسرار اللغة ولكنها تجد نفسها أمام تجربة شعورية مكثّفة وبالغة الأثر..إنّ نزار قبّاني يطرح في قصيدته التي هي من روائع ما قيل في رثاء الحسين في الشعر العربي الحديث.سؤال سبق وأجاب عنه الإمام الشّافعي حين قال:
إن كان رفضا حب آل محمد** فليشهد الثقلان أنّي رافضي
لماذا تظلّ المأساة معلّقة هنا وليس إلاّ هنا؟ لم لم ينس حسينا محبّوه وإن تمرّغوا في الوحل؟ وإن جنّوا وإن فعلوا ما فعلوا؟ ما سرّ عدم الإنقطاع؟ هل الأمر يتعلّق بخدعة وقد توارثتها الأجيال؟ يقول نزار:
سأل المخـالف حين انـهكـه العـجب 
هل للحـسين مع الروافـض من نسب
الألسن هنا تلهج بالحسين..على امتداد الزمن..يشتعل كأنّه لهيب نار لا تنطفئ، من هنا ينطلق نزار، من التّجلّي..من الطّقس..من الكلمات..من النّص إلى أسباب النزول..في سؤل منطقي يتدحرج من الظاهرة إلى الأسباب..من اللاّوعي إلى الوعي..ومن الدموع إلى المدامع..من هؤلاء الذين التزموا الحداد مدى الدّهر عن الحسين، ولذا يرى أنّه:
لا يـنـقضي ذكـر الحسين بثـغرهم
وعلى امتداد الدهـر يُْوقِـدُ كاللَّـهب
يبدو أنّ دم الحسين طريّ لا يجفّ أبدا..والمدامع غزيرة لا تملّ أبدا..ولا زال السائل على لسان نزار يسأل وهم دائما في سؤلهم هائمون حتى يُسألوا يوما عن النعيم:
وكـأنَّ لا أكَــلَ الزمـــانُ على دمٍ
كدم الحـسين بـكـربلاء ولا شــرب
أوَلَمْ يَـحِنْ كـفُّ البـكاء فــما عسى
يُـبدي ويُـجدي والحسين قد احــتسب
هنا يرمي نزار قباني بنفسه فوق رأس المغالط شاهدا بشعره الذي كشف عوار السّؤال..هنا الشعر يتوسّل المنطق ويتصالح مع البرهان..يجيب نزار عن هذا السخف من القول بأن الحسين ممتنع عن أن تفهمه ندوة الطّرب..إنّ نزار يعلن نفسه في ركب هؤلاء الذين يؤمنون بالحسين..أولئك الذي تساءل القوم : وأي نسب يصلهم بالحسين، يجيب نزار بأنّ بين الرثاء - رثاؤنا - والحسين نسب..
فأجـبـتـه ما للـحـسين وما لـــكم
يا رائــدي نــدوات آلـيـة الطـرب
إن لم يـكن بين الحــسين وبـيـنـنـــا
نـسبٌ فـيـكـفـيـنا الـرثاء له نــسب
ماذا يعني نسيان الحسين؟ أوليس هو قلّة الأدب؟ هكذا يحتجّ نزار..فالاستبكاء والاستذكار هو ديدن الأحرار وعربون وفاء..هذا ناهيك عن أنّ حبّ الحسين قد أجنّ عقلاء النوع، واجتاح كل الضمائر..إنه وجع يحتلّ النخاع ويشلّ الرّكب..فأي ملام قد يكفي لنسيان الحسين مسجّى على رمال التّاريخ..أليس النسيان جريمة؟
والحـر لا يـنـسى الجـمــــيل وردِّه
ولَـإنْ نـسى فـلـقــد أسـاء إلى الأدب
يالائـمي حـب الحـسين أجــــــنـنا
واجــتاح أوديــة الضـــمائر واشرأبّْ 
فلـقد تـشـرَّب في النــخاع ولم يــزل
سـريانه حتى تســـلَّـط في الـرُكــب
أفليست تضحية الحسين كافيّة لنجعل من ذكراه في العالمين ضربا من الوفاء؟ أليس هو من أحيى الكرامة في دنيا الناس بعد أن تعفّرت تحت الأقدام؟ أليس من الوفاء أن تقوم الذكرى وتهزّ النفس والعقل لمن أحيي الكرامة التي اغتالها "جبابرة العرب"؟ أليس في وثبته مثال لكل من وثب في التاريخ طلبا للمجد؟ وكيف يجري الصمود في أوديتنا إذا كنّا نسينا حسينا؟ وهل كربلاء سوى فعل اندماج بين دم الحسين ومبادئ الحرية والعدل؟ قل لمن فرّق بينهما تعمّلا، لن تفي لك المروءة بشيء..ولن يكون لك موعد مع نصر قطّ..وستغلبون وتغلبون:
من مـثـله أحــيى الكـرامة حـيــنـما
مـاتت على أيــدي جــبابـرة الـعـرب 
وأفـاق دنـيـاً طـأطـأت لـولاتــــها
فــرقى لـذاك ونـال عــالية الـرتــب
و غــدى الصـمـود بإثـره مـتـحفزاً
والـذل عن وهـج الحيـاة قد احتـجـب
مالك وبكاؤنا..مالك ثكلتك أمّك..مالك والحسين، وذكراه إنّ سالت به أودية من الدموع..مالك أيّها المتأوّه من بكائنا ليتك تأوهت من مقتل الحسين..فالبكاء هنا مع نزار هو عنوان عزّنا وهو مستمر إلى أن تقوم قيامة عالمكم..يبكي نزار على الرأس المقطع وقد أصبح آية مرتّلة، بينما الرمح غدا منبره،وكأنّنا مع كل قصيدة رثاء للحسين نكاد نجمع على ذات الأحاسيس: أنّ ألم الحسين تحوّل عبر الزمن إلى ضرب من الصلاة:
أما الـبـكاء فــذاك مــصـدر عـزنا
وبه نـواسـيـهـم ليـوم الـمنـقـلـب
نـبـكي على الــرأس المـــرتـل آيـة
والــرمح مـنـبـره وذاك هو العـجـب
يسرد نزار أسباب نزول البكاء..وما حكاية العبرات التي لا تنتهي في جدول الذكرى..كيف لا يبكي على رأس مقطّع وجسد سليب..على حسرة الفواطم والمقطع من شبيبة المعسكر الحسين..ينقلب السؤال هنا على الملام حين يصبح لؤما..ماذا دهى القوم حين رأوا ذلك المصاب أن لا تستنزل منه العبرات؟ وسؤالي هنا: هل حصل أن ذرفت دموعا على الحسين يوم سمعت أوّل مرّة بالمصاب ثم أحاط بك الملل وجفت دموعك وقسى قلبك من التكرار؟ إنّك لم تبك الحسين أوّل ما سمعت بالمصاب..وإذن هي القلوب كالحجارة أو أشدّ قسوة..أريأت ما فعل بي الحسين؟ مذ سمعت المقتل وأنا هائم في تيه لا يمسكه إلاّ الرحمن..نعود إلى نزار وهو يكدّ موارد الاستبكاء:
نـبـكي على الثـغـر المـكـسـر ســنه
نـبكي على الجـسـد السـليب الـمُنتهـب
نـبـكي على خـدر الفــواطـم حــسرة
وعـلى الـشـبـيـبة قـطـعـوا إربـاً إرب
ولئن علمت كل هذا فابتلع لسان ملامك..ولا تقل لأبناء الحسين نسبا ورثاء لم البكاء والعويل؟..دع عنك التقول في الخالدين حتى لا تكون حطبا في الجحيم:
دع عنـك ذكــر الخـالـديـن وغـبـطهم
كي لا تــكون لـنـار بـارئـهـم حــطب
لنزار قباني جذبة أخرى مع الحسين..عبّر عنها بقصيدة عنوانها:" جلودنا مختومة بختم كربلاء"..فيها تجربة شعورية عميقة..يخرج فيها كربلاء من الرميم ليجعلها عنوان نكبة عصرنا..يتحدّث عن أكذوبة أوطان في بلاد العرب نبدوا فيها مطاردين كعصافير " على خرائط الزمن" وموتى من دون كفن ولا أوراق..كلاب ضالة تكرض ليل نهار..والبحث لم ينته حتى اليوم عن وطن هو في نظر نزار "أكذوبة"..وإذن نحن مواطنون داخل مدن البكاء أما قهوتنا...سأترك نزار يصفها:
مواطنون نحن فى مدائن البكاء 
قهوتنا مصنوعة 
حنطتنا معجونة بلحم كربلاء
كل ما لنا هو بقية من هذه الآلام.." لساننا مقطوع..ورأسنا مقطوع"..هنا سفينة الحزن تسير وتمخر عباب البحر.."نسافرون نحن في سفينة الأحزان"..لا نعرف المنتهى لأنّنا مسافرون وكفى.."مسافرون خارج الزمان والمكان"..وللحرية ثمن..ثمن أنّك تموت خارج الأوطان:
يا وطني .. كل العصافير لها منازل 
إلا العصافير التى تحترف الحرية 
فهى تموت خارج الأوطان
لا شيء مهما تظاهر بالنسيان الاّ وهو ملطّخ بهذه المأساة..نكابر ونعاند وننسى، ولكن كلّ ما حولنا مختوم بختم كربلاء..هنا يقول نزار:
طعامنا ..شرابنا 
عاداتنا ..راياتنا 
زهورنا ..قبورنا 
جلودنا مختومة بختم كربلاء
تحضر كربلاء في شعر نزار قباني عبر أكثر من قصيدة، ما يؤكّد على أنّها ليست مناسبة عابرة بل يقينا في وجدان شاعر صادق اللهجة..وها هو يعود إلى كربلاء متمدّحا هذه المرة بالجنوب..كيف تتحول كربلاء من حال الرثاء إلى شعر الحماسة..وكذلك هو قال قبل ذلك أنّها كانت لحظة لتحفيز الأحرار..في الجنوب..الجنوب اللبناني الذي سالت فيه دموع أحفاد الحسين..كربلاء الجنوب هي المثال الأروع لأنّها أدركت سرّ ما اسماه نزار بالسمفونية الخامسة..هنا الجنوب الذي أعاد البسمة للفواطم..ينتصر للعدل والأرض والكرامة بعنوان حسيني مبين..هنا سنختبر مرة أخرى شعر نزار في " السمفونيةُ الجنوبيةُ الخامسة"..
وقبل المضي في القبّانيات أحب أن أقف وقفة هنا عند المعنى الكبير لمفهمة الكفاح..وقفة للبوح بتلك الأحاسيس الفائرة على نار آلام الحسين..بين أبيات نزار أحبّ أن ألبس شعري..سأبتعد قليلا لأبوح بارتساماتي..أي شعور ذلك الذي يخامر النّفس وهي ترى أيتام أبي عبد الله في الجنوب يكسرون الصّخر بمخالب الطفولة ويقدمون الأنفس قربانا في طريق التحرير..من يا ترى يفهم هذه الأحاسيس..بل من يا ترى سيقهر هذه الأحاسيس؟ يقاتل الفتى هاهنا بشهامة ومزاج حسيني..في رأس كل مقاوم تولد السيرة الكاملة للحسين..هنا وحده الفتى يملك ناصية الحديث عن خيبر..لا أحد فتح الحصن وكسر أضراس مرحب سوى حيدر..هنا التاريخ تاريخ الفتى..فالجبن مات في أحاسيس من غرف من عين الحسين غرفة بيده..هنا السّر: حسين ..في تلك الجبال والمرتفعات والأودية التي آنست بأيتام الحسين..والتي كانت أكثر وفاء لهم..في كربلاء الجنوب كل شيء يقاوم..حتى السنديان والحجر والمدر..لا شيء في الجنوب خذل أبتام الحسين، حتى العدو قتل نفسه مكرها فداء للحسين...هنا خيبر وهنا أيضا حيدر..وأبناؤه يزأرون زئير قسورة مرعب المنظر..
..إنّ الحسين إن هو سكن القلوب فاضت لوعة العشق واهتزت رباه..من الطبيعي أن تحبل الدنيا رفضا وقد دشّن الحسين عهد الكرامة من نينوى حتى الجنوب..هنا الخشية من الذكرى خشية من التحيين الرمزي لزبدة المروءة والمعنى الطّريّ للكرامة..أقول: في هذا التحيين لرمزية الحسين والمعنى الخالد لآلام الحسين التي أنبتت سبع سنابيل في كل سنبلة مئة ثورة..لم تبرد حرارة الحسين ولا دمه ولا سيفه ولا كلماته..هي بالأحرى سمفونية الحسين الخالدة..دعنا نعود إلى نزار ونختبر قصيده في ضوء آلام الحسين وتدفق المعنى الخالد لقيم كربلاء..
هنا أيضا مع نزار تحضر كربلاء في الجنوب..هذا الجنوب حكاية مرعبة في تاريخ الكفاح.. في هذه القطعة من الدنيا ينصهر ثلاث هنّ من زينة المروءة ومنبع من منابع الأصول: ما بين مزارع متهوّر باسم الأرض وعالم متزهّد بين السنديان والأرز وشاعر ينثر الكلمات كحبات القمح فوق الحقل..ليس هناك فائض في الأرض ليكون الاستسلام هنا شريعة المهزومين..ولا فسحة هنا لممارسة رياضة الهرولة..ولا يوجد فائض من النّوع، لذا كان كلّ شيء هاهنا جميل..أهل الجنوب مهما عملوا يكفيهم أنّهم في قلب مفهمة الكفاح ينعمون ويتفيّؤون تحت شجر مقاوم وجداول تمشي بنكهة الانتصار وقلوب تخفق بأنفاس الشهداء..لا يوجد فائض في الجغرافيا للنذالة..فأيتام الحسين هم الغالبون..أما نزار فقد سماه الجنوب المدثّر بعباءة الحسين وشمس كربلاء..هو الجنوب " شجر الورد" الذي عانق الفداء حرفة..هنا خاطبت الأرض السماء..هنا انقلبت أسباب النزول إلى أسباب الصعود..من هنا يصّعد الموقف الطّيب:
سَمَّيْتُكَ الجَنوبْ
يالابساً عَبَاءَةَ الحُسَينْ
وشَمسَ كَرْبَلاءْ
يا شَجَر الوردِ الذي يحترفُ الفداءْ
يا ثورةَ الأرض الْتَقَتْ بثورة السماءْ
هنا نزار يرسم لوحة روحية تحوّل الأرض إلى مشهد لجبروت الرمزي..لا أخفي أنّ نزار هنا كان متألّقا، وقصيدته أثبتت لياقتها في الإقناع..أي تصوير خلاّب هذا ونحن نسمع نزار يقول:
يا جَسَداً يطلعُ من ترابهِ
قَمْحٌ.. وأنبياءْ.
نعم نزار، أليس في جبل عامل يوجد قمح وعلماء وأحفاد الحسين؟ وحتى التبغ في الجنوب هو دخان ينفث في وجه مرارة الزمان..
وتراه يقول:
إسمَحْ لنا...
بأنْ نَبُوسَ السيفَ في يَدَيْكْ
أنعم نزار، أوليس أحفاد الحسين ها هنا باسوا السيف في يديه؟ أوليس لكل شبل من أشبالهم عهد بأنّ يثأر للذبيح ؟
وها هو نزار يذبح أوصالنا بتصوير خلاّب..يقتلنا في مذبح قصيده لأنه ما فتئ يفاجؤنا بكلام لا ندري من أي عبقر استوحاه..آلام الحسين حين تصبح صلاة..ولنزار مقطع ليس له في تاريخ الرثاء نظير..عبارة ولدت من خبرة شاعر يعرف ما يقول..فلنسمعه يقول:
إسمحْ لنا..
أن نعبدَ اللهَ الذي يُطلُّ من عينيكْ
وصل رثاء نزار وتخطّى الحواجز ووقف عند بيت القصيد..عاشق تصوّف بآلام الحسين حدّ المنتهى..هنا الحسين تحوّل إلى معبر للحقيقة..إلى عين الله التي ينظر منها إلى مسالك الخلق وبها يحتجّ على المهرولين..هنا الحسين عين الله التي لا تنام على ظلم ظالم..ألم يقل أبوه:
تنام عينك والمظلوم منتبه
يدعوا عليك وعين الله لم تنم
نحن أمام أجمل قصيدة في رثاء الجنوب المسربل بكربلاء..هي عندي حتّى الآن الأجمل..بحروفها التي تسكن بين ضلوع الحقيقة..بحسن تجويدها لآيات الفداء..سلام على نزار لو كانت لك هذه وحدها من بحر قصيدك لكفت..بها تخلد حروفك النابعة من تربة الحسين..وها هي تعانق الجنوب المكافح..هذا الجنوب السّيد..الجنوب الذي أعطانا شهادة ميلاد يوم تسربل بكربلاء:
يا أيُّها المغسولُ في دمائه كالوردةِ الجُوريَّهْ
أنتَ الذي أعطيتَنَا شهادةَ الميلادْ
ووردةَ الحريَّهْ..
الحزن هنا يؤثّث المكان..يكسر صخب الحياة..وأكذوبة المرح السرمدي..لا تنسى أنّ الحزن هنا حارس للقيم..لأنه حزن عريق موصول ببيت الأحزان..موصول بأمّ الحسين: فاطمة: "يا قَكَر الحُزْن الذي يطلعُ ليلاً من عُيُون فاطِمَه"، فاطمة التي تعود إلى الحقل وتولد في القرى المقاومة..هنا في الجنوب كل شيء يحترف المقاومة..نحن أمام أنطولوجيا مقاومة تستمدّ فلسفتها من لاهوت التحرير..لاهوت كربلاء..وأمام سوسيولوجيا مقاومة تمتنع عن أي مقاربة..نحن أمام مختبر للمقاومة..الكل مقاوم: سفن الصيد، سمك البحر ، كتب الشعر، حتى ضفدع الليل يقول نزار يقرأ طول الليل سورة المقاومة..حتى فصائل النمل هنا تهرب السلاح للمقاومة..ينادي نزار كل هذه الأشياء التي تحترف المقاومة..ويرى أنه ينادي الجنوب ولكن بلفظ: يا أيام عاشوراء..هنا أيتام الحسين في الجنوب: " يا من يُصلّي الفجرَ في حقلٍ من الألغامْ"..أنت كالحسين المخذول عربيا..لا تنتظر شيئا من العرب:"لا تنتظرْ من عرب اليوم سوى الكلامْ"..فلئن كان أيتام الحسين قد قبلوا السيف في يدي الحسين، فاسمح لنا أن نبوس السيف في يدي الجنوب..بل ونجمع ما تبقى من التراب تحت قدميك:
إسْمَحْ لنا بأن نبوسَ السيفَ في يَدَيْكْ
إسْمَحْ لنا أن نجمعَ الغُبَارَ عن نَعْلَيكْ
أنت يا جنوب في قصيدة نزار سيد الأسياد، وملحمة الملاحم..ويعيد المشهد نفسه بأسمائه ورموزه في وصل بين السماء والأرض..الأرض هنا تمشي بعناية الوحي..الجنوب حيث ينبت همس الأنبياء في زفير الأشجار حين تتأوّه وهي تقاوم نيابة عن أبناء الحسين..وكما خلدت كربلاء في التاريخ، سيخلد الجنوب في التاريخ، لآن آصرة الدم والفداء هنا متينة..وحيث بات الآهالي هنا في معسكر حسيني كبير يقادون إلى معركة الكرامة لا أحد منهم اتخذ الليل جملا..هذا الجنوب بات قدّيسا..ويحكم هل في هذا شكّ؟ سيذكر الله هذا الجنوب..وسيخلد في التاريخ..تاريخ سلالة واحدة من كربلاء وفخ والجنوب..لنسمع إلى نزار وهو يقول:
سيذكُرُ التاريخُ يوماً قريةً صغيرةً
بين قُرى الجنوبِ،
تُدعَى (مَعْرَكَهْ).
قد دافعتْ بصدرها
عن شَرَف الأرض، وعن كرامة العُرُوبَهْ
وحَوْلَها قبائلٌ جَبَانةٌ
وأُمَّةٌ مُفَكَّكَهْ...
من يملك أن يكذّب شعر نزار؟ أليست تلك حقيقة تتجلّى كالشمس في رائعة النهار؟ هل في ذلك شكّ كشكّ بني قينقاع في نقاوة ركب أُحد؟ ألا ترى أن من تربته يولد الحسين بين إعلان حرب وحرب؟ هنا من بحر ما أسماه نزار(معركة):.
يخرجُ آلُ البيت كلَّ ليلةٍ
كأنّهمْ أشجارُ بُرْتُقَالْ
لا أزعم أنّني قد أجاري السمفونية الخامسة لنزار..فهي دروب وعرة ومسالك ملتوية وحكاية طويلة..لكنها أجادت في ربط الجنوب بأصله..بكربلاء..هنا حيث بقي المعنى كاملا..في زمن اللّبس والغبار..هنا الأرض خصبة..والفدائي يؤمن بالحسين بعد أن يئس من الانتظار..
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2017/10/02



كتابة تعليق لموضوع : مع نزار قبّاني: نبكي على الرأس المرتل آية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 1)


• (1) - كتب : صالح علي ، في 2020/08/25 .

من خلال تصفحي رأيت ان القصيدة النسوبة لنزار قباني والتي مطلعها قل للمخالف حين انهكه العجب انها منسوبة لشاعر اخر ،افيدونا ان كان عندكم مايثبت انها لنزارقباني






حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net