صفحة الكاتب : ادريس هاني

مع أودونيس في مراياه..
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

لم يبرح الحسين زاوية من ديوان العرب إلاّ وهزّ حروفها من مآقيها..لا يشذّ عن التحرق بمصابه شعر قديم أو حديث..مقفّى يعاقر البحور بمستفعلاته الرتيبة أو حرّ يحلّق بين أفنان القوافي متسيّبا..كن ما شاء لك هواك في الشعر فارث حسينا..هي رحلة حزن ومسار أنين يتخطّى علم كلام القصيد..يترك الشعراء عنادهم وينسون خلافهم متى دخلوا حرم الطّفّ وتلوّن شعرهم بدم الحسين القاني..كذلك نجد المأساة تحلّ في شعر أودونيس..هذا الذي تمرّد على كلّ أصيل وتبختر خلف كل حديث، تنبت صورة الحزن في تربة شعره المتمرّد..وتبسق شجرة الأنين وتورق في بستان شعر راحل نحو كل التخوم..حزن يستفيق به أودونيس من غواية الكلمات..كأنّي به يستعيد دفق إيمانه من هذا الفتى..من رأى حسينا عاد له إيمانه ومن جنح ليزيد فقد كفر..ولو لم يكن هذا التقسيم بديهيا لما انتفضت حوله قصائد الشعراء ولما استفاق من سكرته سرب من الندماء تحت صدمة المقتل من ديك الجن حتّى أودونيس..الحسين هو نفسه قافية لكلّ قصيد يفيض ألما بالمُصاب..الواقع أمرّ والخيال أنصف..في مراياه الثلاث (مرآة الشاهد، مرآة الرأس، مرآة المسجد) ينتصب أودونيس في نمط من الحزن وقالب من الأسى تتعمّد فيه الأودونيسيات..هذه المرة سكرة الحسين بالغة الأثر..أبلغ من سكرات الأنس لا بل أثقل من سكرات الموت..في مرآة الشاهد كلّ شيء بات له معنى مفارق..والحياة هي بالفعل مسلسل من المفارقة التي بها نحيا ومعها يضبط الخيال نسيج المعنى..ها هي الرماح وقد استقرت في أحشاء الحسين..لكنها سرعان ما تزدان بهيبة الجسد..أترى أودونيس هنا بصدد رسم لوحة لفارس متحدّر من رحيق الشّهامة المختوم وقد ترجّل قبل أن يرقد مسجّى شاهدا على شوكة الظّلم ؟ هي كذلك لوحة..لنتصوّر أكثر تلك اللوحة في وصف أدونيس الذي كان يؤرّخ للمقتل بالصورة والشعر..لنتصور الجسد وقد ازدانت به تلك الرماح..بينما داست الخيول على الجسد..وتفرق إرث الحسين بين قراصنة المقتل..كلّ انتزع له قطعة من ملابس الحسين..وترك الفتى الذبيح في العراء وحيدا..وفي المقابل كان كل حجر ينحني رقّة ليحيّي الحسين..هي الحجارة هنا كناية عن قوم هم بلحاظ الحجارة أشدّ قسوة..وحتى كل زهرة كانت تنام على كتف الحسين..والكل يشارك في البكاء..حتى رأينا النهر في هذا المحفل يسير في جنازته..هي لوحة سلكت على مذهب انطباعي تتجلّى فيه مفارقة المشهد الجنائزي..ويبقى أنّ دقات الحسين كدقات الساعة في حائط الدهر..هي كما ذكرنا دقات أرقّ وأعذب من دقات المطر في أنشودة السياب..جاءت مرآة الشاهد كأنشودة الحسين..حسنا فعل أودنيس لأنّه اختار الحسين قافية في مرآته: حسين..حسين ..حسين:

وحينما استقرّتِ الرّماحُ في حشاشةِ الحسينْ
وازّينَتْ بجسدِ الحسينْ
وداستِ الخيولُ كلّ نقطةٍ
في جسدِ الحسينْ
واستُلبتْ وقُسِّمت ملابسُ الحسينْ،
رأيتُ كلّ حجَرٍ يحنو على الحسينْ
رأيتُ كلّ زهرةٍ تنامُ عند كتفِ الحسينْ
رأيتُ كلّ نَهْر
يسير في جنازة الحسينْ.

يرى التاريخ أنّ تراث الحسين بات نهبا من قبل القتلة..الجسد أشلاء والرأس محتجز والقوم يتسابقون على خاتمه..نِعْم الغنيمة هي يا بقايا بني عبد الدّار؟ نِعْم الغنم غنم ملابس الحسين يا بقيّة الطّلقاء..هكذا رأى التاريخ، بينما للشعر قراءة أخرى، وعين ترى ما لا تراه عيون الأخبار..يرى العالم يصلّي وكلّ نقطة فيه ترثي حسينا..هذا وفي مرآة الرأس يكون للحسين عند أودونيس مذهب آخر في الصورة..في كل مراياه يحضر الحدث دون أن يقطع وصله بالتاريخ..ثم سرعان ما يتدفّق شعرا.. حيث التّاريخ فعل إخبار أداتي ليس إلاّ..فالمحمول هنا لا يقدر أن يفي بالصورة..الأحاسيس..لا بدّ من قوة تعبيرية تفوق الفعل الحملي الضّيق بالمعنى المنطقي..هي قضية لا يقوى المنطق نفسه على حملها..هو الشعر إذا: على الأقل إن كنتم عربا كما تزعمون..في مرآة الرأس هناك تشخيص ينتقي له أدونيس حكاية تاريخية.. أقبر شخوصها التاريخيين في قوافيه لكنه أعاد تصوير الجوهر..القضية هنا ليست شخوصا أو نصوصا أو لصوصا..هي حكاية معنى يتوتّر عبر مسالك الحرية والكفاح..هنا أقول أنّ للنضال نقاوة وليس يكفي أن يكون صرخة ملوّثة..حين يكون النضال نقيّا كالحسين، يجثوا أمام رأسه الحجر وتنام على كتفه الزهور..هنا يعاد بناء حكاية خولي بن يزيد الذي سرى بالرأس إلى ابن زياد..كرأس يحيى بين يدي بغي..هي مفارقة منطقية لكنها بعين الغيب: من هوان الدنيا على الله..والحكاية كما في سردية الطبري كالتّالي:
"وسرح برأسه من يومه إلى ابن زياد مع خولي بن يزيد الأصبحي ، فلما انتهى به إلى القصر وجده مغلقا ، فرجع إلى منزله ، فوضعه تحت إجانة ، وقال لامرأته نوار بنت مالك : جئتك بعز الدهر . فقالت : وما هو ؟ فقال : هذا رأس الحسين . فقالت : جاء الناس بالذهب والفضة ، وجئت أنت برأس ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ! والله لا يجمعني وإياك فراش أبدا . ثم نهضت عنه من الفراش ، واستدعى بامرأة له أخرى من بني أسد ، فنامت عنده . قالت الثانية : فوالله ما زلت أرى النور ساطعا من تلك الإجانة إلى السماء ، وطيورا بيضاء ترفرف حولها . فلما أصبح غدا به إلى ابن زياد ، فأحضره بين يديه ، ويقال : إنه كان معه رؤوس بقية أصحابه ، وهو المشهور . ومجموعها اثنان وسبعون رأسا ، وذلك أنه ما قتل قتيل إلا احتزوا رأسه ، وحملوه إلى ابن زياد ، ثم بعث بها ابن زياد إلى يزيد بن معاوية إلى الشام" .

تلك هي المهمّة الكبرى لمعسكر العبيد..احتجاز الرؤوس..من أي وجر للذهاب - نتساءل كالسياب - أتى هذا الليل..من أي الكهوف انحدر حاضرنا "المتدعّش"..من أي تراث انبثق طقس الذّبيحة ويستمر حنينا في حاضرنا؟ من هنا بدأت حكاية احتجاز الرؤوس..من هنا وربّ الكعبة..لا نلوم العالم على غريزة ولدت في مزاج بني عبد الدّار..ويحكم، لم تستغربون؟..لا نلتفت من أين حلّ هذا الطاعون، ونخفي بأقنعة من التّبن عوار إرثنا اللّئيم..ما قاله أدونيس أو بالأحرى أعاد تصويره شعرا هو ما كان غيّر نبضي ذات مقطع من طفولة شهمة..جامحة جموح أفراس عربية..وثّابة..نقيّة..نشأة كنبتة برّية في الوادي الغريب بعيدا عن الوِرْد الملعون..سأبتعد قليلا عن أدونيس وعن كل شعر..وعن كل تأويل مسبق..هنا الصمت في غياب الحروف ينادي : واااحسيناه..والصمت محراب تتمخّض في ضميره دقات الحسين..ففي نبض كلّ معذّب يوجد الحسين..وفي أنين الدّهر مهما طال يوجد حسين..وفي ملكوت الوجع يتنزّل مطر الحسين: مطر/حسين..مطر/حسين..مطر/حسين..ابتلعوا لسان شعركم..واهضموا المعنى في صمت لغة مأواها الحسين.. وفي كون يتوجّع بالحسين..أنا أشعر الناس بالحسين..في صمتي وفي صخبي..ولكنني أستئنس بشعر كم المتكلّف..لأمحوا كل نبرة لئيمة من ديوان العرب..الحسين هو دقّات قلبي التي أقيس من خلالها جدوى البقاء..سكرت بالحسين حدّ الإدمان..سأمرض بالحسين مادامت الطيور تحمل حزنه في كل سماء..ومادام النخيل مثقل بالأنين..ومادام الظّلم يذكّرني بالحسين..
أعود إلى أودنيس بعد سكرة ألمّت بي وأنا أتكسّر حزنا على صخرة الذكرى والمصاب..في مرآة الرأس، حين طافوا بالرأس..وحين دارت حوارية اللؤم بين خولي والنّوار..فأما النّوار في قصيدة أودنيس فالمقصود بها كما مرّ معنا زوجة الخولي:

سايَرْتُهُ ، رصدتُهُ
غلغلتُ في جفونِه
أيقظتُ كلّ شهوتي هجمتُ واحترزْتُهُ...
وجئتُ.
كانتْ زوجتي نَوارْ
تفتحُ باب الدارْ:
- أوحَشْتَني، أطلتَ، كيفَ؟
- أبْشري ،
جئتكِ بالدهر، بمال الدّهرْ
- من أينَ ، كيفَ ، أينْ ؟
- برأسهِ...
- الحسينْ؟
ويلَك ، يومَ الحشرْ
ويلَك لن يجمعني طريقٌ أو حلمٌ أو نومْ
إليك ، بعدَ اليومْ ...
وهاجَرتْ نَوارْ.

مشهد آخر جسدته مرثية بالغة الأثر..مرآة لمسجد الحسين..هنا في هذا المفصل الشعري تعود الصورة في تشكيل حزين..الكون يبدو في موكب جنائزي..الأشجار ترسف بحزن وقد احدودبت ظهورها ألما..تمشي مسكرة بالمصاب وتتحرك الهوينا كي لا تتأخّر عن الصلاة..كل هذا وجسد مقطّع وسيف بلا غمد ، أي ما تبقّى من الشهيد كله يطوف حول مضجع الحسين..في هذا المفصل من مرايا أدونيس ينتهي المشهد بالصلاة..فالحسين صريع..وما تبقّى هو مجمد الحسين..ومسجد الحسين الذي يطوف حوله المعذّبون الذين يصلّون للعدالة..وللحرية..وللكرامة..

ألا ترى الأشجارَ وهْي تمشي
حدباءَ ،
في سُكْرٍ وفي أناةْ
كي تشهدَ الصّلاةْ ؟
ألا ترى سيفاً بغيرِ غِمدٍ
يبكي،
وسيّافاً بلا يَدينْ
يطوف حول مسجدِ الحسينْ؟

ليت أدونيس طاوع خيالي بعض الشّيء، وأضاف تأكيدا رضيّا، من بحر زاخر وقافية يتيمة..ليته حيث قال:(رأيتُ كلّ زهرةٍ تنامُ عند كتفِ الحسينْ)، أن يقول: رأيت كل زهرة وزهراء تنام عند كتف الحسين..إذن لنزل منازل دعبل..ووصل مرثيته ببيت الأحزان..ولكنه لم يفعل..وحسنا فعل أدونيس حينما جعل ختام ملحمة الحسين مسجدا للحسين..فلقد أناخت راحلة الحسين عند المحراب..أعادت عقارب الساعة إلى ميلاد الوحي في جاهلية قاد ركب طغيانها بنو عبد الدّار..يطوف الأحرار حول مسجد الحسين، وليس بعيدا من هناك، على حافة التّاريخ ومزبلة الذّكرى يرقد يزيد وسلالة اللّئام..هنا بات التقسيم مانويّا: إمّا حسين أو يزيد..


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2017/09/30



كتابة تعليق لموضوع : مع أودونيس في مراياه..
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net