صفحة الكاتب : د . محمد شداد الحراق

سياسة تعطيل الوعي و تخدير العقل
د . محمد شداد الحراق

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
عندما تعجز محركات التنمية عن الحركة، وتتعطل قاطراتها عن الاشتغال، و تتوقف عجلاتها عن الدوران، ينغمس المجتمع في مستنقع اللامعقول، وتكثر في حياة الناس المفارقات الكبيرة و التناقضات الصارخة التي لا تنفع معها فلسفة ولا سياسية ولا اقتصاد...وحينما يهيمن على الحياة منطق التدجين المعقلن و السخرية المنظمة و الاستغلال المبرمج، يفقد المواطن بوصلته الهادية، وتختلط أمام عينيه الصور و الألوان و الأشكال. فلا يستطيع التمييز بين الأشياء و ظلالها، وبين الأصوات و أصدائها. يدخل في متاهة لانهاية لها،و تصبح حياته إشكالية لا حل لها. يحس المواطن أنه قد أصبح ضحية سياسة الإلهاء المقصود أو تكتيت تحويل الرأي العام الذي تستخدمه الشبكات الممارسة لطقوس توزيع الثروات و الغنائم في المزادات السرية و العلنية. يتم إلهاء المواطن بالفقاقيع السياسية و الفنية و الرياضية و بالمناسبات المصطنعة حتى يسهل استدراجه للمشاركة في الكوميديا البشرية التي يكتب فصولها الشيطان، ويقوم بأداء أدوارها فقهاء المكر و أساطين الخدع الاجتماعية و السياسية و الثقافية.
 في هذه المسرحية الماكرة يتم إغراء المواطن بالباطل المقنع و إغراقه بالمواسم المبلدة للعقول و المحجرة للفكر و المستدعية لأرشيف الجهل المركب و التخلف الممنهج، كي يفرغ حمولته الطوطمية و الغثائية في عقول الناس ومشاعرهم، و يلبد سماء بساطتهم و سذاجتهم بسحب الخرافة و الخوارق و العجائبية. فترى الناس سكارى و ما هم بسكارى و لكن تيار التدجين قوي، يكسر الحواجز النفسية، و يخترق طبقات الوعي، و يستوطن خلايا الدماغ ، ويعشش فيها لينتج عقائد باطلة و مسلمات وهمية و طقوسا جاهلية تؤله البشر و الحجر و القمر و الشجر، وتصنع أصناما آدمية تأكل الطعام و تمشي في الأسواق. في هذه المواسم الفلكلورية يتم إحياء الأموات و إقبار الأحياء، فيها يبعث صدأ الماضي ويدفن بريق الحاضر، فيها يقدس تمثال القديم الذي قضى نحبه، ويحارب شعاع الحياة الذي ينير المستقبل. في هذه المواسم تتحرك ترسانة الخرافة بعتادها القوي و بعياراتها الكبيرة لتعطيل آليات التفكير الحر. ولكي يتم إلغاء عملية التأمل النقدي و الملاحظة و المحاسبة،  تتحرك هذه الترسانة بتغطية كهنوتية يتبرأ منها الدين و العلم و الفطرة، فتفرض على العقول الانصياع التام و الخنوع و الركوع الذليل لكل تمثال عابر.و أي إعراض أو عصيان يعد في شريعة شبكة التخدير مروقا و زندقة، وكل نقد أو تعليق يعتبر سفسطة و هرطقة. فإذا تكلم الجهل، فعلى ألسنة العقل أن تعطل لغة الكلام.
 إنه كلما رأيت كثرة المواسم المدغدغة لحاسة السلبية و لغدة الهذيان في الإنسان علمت أن أجهزة التخدير تضاعف من جرعاتها المسكنة للعقل، وتعمل على تشغيل مفاعلاتها التبليدية و مولدات الجهل العالي التي تصيب الإنسان بالشلل الكلي. ففي فضاء هذه المواسم تؤجل الأولويات و الضروريات و الحاجيات..فيها تتلاشى أنات الجياع ، وتتبدد آهات المرضى و المحرومين، وتضيع صرخات الأيتام و العاطلين. فيها تلغى ثقافة الإحساس بالظلم و الغبن الاجتماعي.
 ولامتصاص فتوة الشباب و لإخماد ثوران اندفاعهم ، يتم اصطناع مناسبات للصخب المفتعل باسم الثقافة العصرية وباسم الفن الثائر الذي يلغي الحدود بين المباح و المحرم، و يخلط بين الأصيل و الدخيل، فتكثر المهرجانات المحركة للأجساد والغرائز، وتعلو الأصوات و الألحان بإيقاعاتها الجنونية و الهجينة، و تسود الضوضاء التي تصم الآذان و تلوث الأذواق،ويتم تكريم كل صاحبة جسد متمرد ووجه معدل وفن رديء. فتحلب جيوب الضعفاء السذج البسطاء، فيتحول عرق جبينهم دولارات في المصارف الأجنبية.كل ذلك باسم جلالة الفن و قداسته. والفن من ذلك بريء ، لأنه أسمى من أن تحتكره الخفافيش التي تعيش في الظلام، و أشرف من أن يحترفه الذين يتسترون وراء الجدران و يعيشون في الجحور مع الجرذان.بذاك النوع المبتذل نعلن انتماءنا إلى هذا العصر، وهو النوع الوحيد من الحداثة الذي حققنا فيه أرقاما قياسية، وحطمنا به كل الحواجز.فحينما عجزنا عن إقامة حداثة علمية وتكنولوجية،وحينما أهملنا تحديث البنى الاقتصادية و الخدمات الاجتماعية و الأنظمة السياسية،تعلقنا بأهداب الفن الصاخب لنعلن للعالم بأننا من عائلة الحداثيين، وتلك هي المفارقة العظمى مع الأسف؟؟
في مهرجانات الفن الثائر المستعار يحرر الجسد و يلغى العقل، ويحرم عليه التفكير والاندماج مع قضايا الواقع و مشاكل الحياة. فمع صخب الإيقاعات وعنف الحركات المتشنجة، ومع هستيريا الهذيان ينفصل الإنسان عن وعيه، فيؤجل حاجياته ومتطلباته، وينسى همومه وانشغالاته. فإذا تحركت الأجساد وتمايلت الأشباح البشرية، فلا وقت لكتابة القصائد البكائية أو لرفع اللافتات المأساوية.
فإذا ما استفاق الناس من شرودهم وغفلتهم، واستعادوا جزءا من وعيهم و إدراكهم، تحركت آليات الإلهاء المقصود من جديد لتحويل الأنظار نحو الملاعب التي تمتص الملايين بعشبها المصطنع. فترى الفئات النشيطة المنتجة قد أجلت مصالحها و أعمالها و دراستها، واستسلمت للصراعات المفتعلة المنتجة للعصبية و المفرقة للجماعة. تقف الطوابير المتشنجة الغاضبة ساعات منتظرة صفارة الانطلاق، فترسل شرارة غضبها المجاني وجنونها السريالي. وهكذا ينسى الشقي همه وبؤسه، وينسى المتدين صلاته و ربه،وينسى الطالب كتابه و درسه.و كأن اليوم يوم قيامة، يفر الناس من آبائهم و أبنائهم، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يلهيه وينسيه.قيامة من نوع كاريكاتوري.. الكل واقف بين يدي إلهه المقدس/الكرة ..المعبود الهوائي الطائر. الكل يسبح بحمده في خشوع لا وجود له في المساجد، وفي متعة تذهب معها آلام البطون الجائعة والجيوب المثقوبة و الفارغة.من أجل هذا المعبود الجديد يعطل الناس مواعيدهم، ويؤجلون دفن موتاهم، ويؤخرون قضاء حاجياتهم، ويوقفون عجلة الحياة و آليات الإنتاج في الشوارع و المصالح و المؤسسات.
أصبحت الكرة أفيونا للجياع و العاطلين و الغاضبين و الحالمين، تحجب عنهم الرؤية، تصيبهم بعمى الألوان. تنقلهم إلى عالم وهمي ، الكل فيه  وراء السراب ولا يجني سوى الدخان و الضباب والمزيد من العذاب. يفرغون ما في أعماقهم من غضب، وما في عروقهم من دماء من أجل حلم عابر. وفي النهاية يستسلمون للصمت القاتل في انتظار شوط  آخر من المأساة و المعاناة.
د/ محمد شداد الحراق
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . محمد شداد الحراق
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/10/20



كتابة تعليق لموضوع : سياسة تعطيل الوعي و تخدير العقل
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net