صفحة الكاتب : الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

(3) منبر العزاء.. مَعقِلُ الطُهر والنقاء !!
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 بسم الله الرحمن الرحيم

قلوبٌ حزينة مكسورةٌ تعتصرُ ألماً.. دموعٌ باكية على سيد الشهداء.. كآبة وتَفَجُّعٌ يحطان الرحال في أيام عاشوراء.. ويلفّ الشيعةُ أنفسَهم بمظاهر الحزن في كل عوالمهم..

إنها أيام العزاء.. يشترك فيها كلّ قلبٍ ونَفْسٍ جُبِلَت على حب أهل الطهرِ فطَهُرت بهم وبحبّهم..
يتقاسم أهل الولاء أدوارهم.. ولا ينسون لوناً من ألوان المواساة والعزاء.. ويأملون أن يكون ذلك تحت أنظار حجة الله في الأنام، ابن العسكري عليه السلام، داعين له بتعجيل الفرج..

ولمنبر العزاء نصيبٌ وافر.. فهو مجمَع المؤمنين والموالين في عزائهم، وهو عمادٌ للمآتم.. ترتقي بِرُقيّه.. وتسمو بسموّه.. بعد أن يرتقي بالحسين عليه السلام..

ولطالما ترك هذا المنبر ولا يزال أثراً كبيراً لا زلنا نتلمس بركاته..
وكان يزداد تألُّقاً كُلَّما التصق بأحزان الحسين عليه السلام كما يلتصق الزوار بقبر سيد الشهداء..

حتى غدا معقلاً للطُهر والنقاء.. فرأيناه أطهر وأصدَق منبرٍ على هذه الغبراء!
فصُوِّبَت نحوه السهام.. وألصقت به التهم.. وكثر القيل والقال فيه وفي أبطال صولاته، وفرسان ميدانه..

حتى قيل: أن المنبر الحسيني (يبالِغُ) في العزاء! و(يستغرق) في إسالة الدموع! و(يتوسّلُ) كل طريق لتحطيم القلوب! و(يكذب) على الرسول والعترة في سبيل ذلك! وهَلُمَّ جراً..

لكن الكلمة الفصل إنما تؤخذ من أهل الشريعة أهل العزاء.. أئمة الدين أمناء الله على وحيه وأحب خلقه إليه..

وفي كلماتهم جواهر لا تُدرَك كلها، فلا يُترك بعضها، ومنها:

أولاً: إن كل ما نعلَمُه ونَعمَلُه في أيام العزاء من زيارة سيد الشهداء وإقامة المآتم عليه بكل ألوانها لا يعدو كونه مواساةً بحسب حدودنا وإدراكنا لا بحسب حقيقة الواقع وحجم المأساة، ولا بحسب الثواب على إقامة العزاء فيها وزيارة سيد الشهداء..

ففي الخبر المروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام ما يذَرُ الحليم حيراناً: لو يعلم الناس ما في زيارة قبر الحسين ع من الفضل لماتوا شوقا وتقطعت أنفسهم عليه حسرات‏ (كامل الزيارات ص142)
فصار (الموت شوقاً) أثراً (للعلم) بما في زيارة سيد الشهداء من الأجر والثواب.. فمن منا يعلم ما في زيارته من ثواب ؟ وهل وصل الحال بأحدنا أن يموت شوقاً لزيارته ؟!

وفي الخبر: ولو يعلمون ما في زيارته من الخير ويعلم ذلك الناس لاقتتلوا على زيارته بالسيوف‏ (المصدر ص87)
نعم لو عرفنا ما في زيارته لاقتتلنا عليها بالسيوف لا على توافه الأمور !
ولتركنا خلافاتنا جانباً، ولجعلنا مبلغ همّنا إحياء أمره وإقامة مأتمه وزيارة قبره ومشاركة المعزين عليه في عزائهم وتسليتهم..
ولتجنبنا إثارة الفتن في أيامه وجعلناها أيام حزن وألم حقاً وصدقاً..

ثانياً: أنا لا نتعقَّل أثرَ دمعةٍ تسيل على خدّ شيعته مع ما ندّعي من العلم والمعرفة والإدراك !!
هذه الدمعة التي تَرَحَّم عليها الصادق عليها السلام قائلاً لأحد شيعته: رحم الله دمعتك‏ (كامل الزيارات ص101)
والتي لا تنزل إلا بإذن الله تعالى فهو الذي يبكي عيوننا حباً بهم، إذ نقول في زيارتهم: وأسأل من أبكى عيني عليك أن يجعله لي ذخراً (تهذيب الأحكام ج6 ص89)

هذه العين التي (أبكاها) الله تعالى بتوفيق ومَنٍّ منه صارت شريكة لدموعِ مخلوقاتٍ أخرى إذ : ما رقأت دموع الملائكة منذ قُتِلنا.. (كامل الزيارات ص102)

إن للدمعة أثراً يستحق أن نستغرق فيها ونجعل أيام عاشورائنا أيام بكاء وعزاء..
إن لها ثمرةً تغرينا أن نتوسّل لإسالتها أي طريق يحبه الله ورسوله..
إنّ فيها نجاةً من نارٍ (سجّرها جبّارُها لغضبه) !

والأعجب من ذلك.. ما تفعله بنار جهنم!!
أما أثر نار جهنم في الدنيا فإنها فوق خيال الإنسان، إذ روي عن الصادق عليه السلام في (قطرة) من طعام أهل النار قوله: لو أن قطرة من الضريع قطرت في شراب أهل الدنيا لمات أهلها من نتنها، ولو أن حلقة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعا وضعت على الدنيا لذابت الدنيا من حرها (تفسير القميج2 ص81)

القطرة من طعام أهل النار تميت أهل الدنيا من نتنتها، والحلقة تذيب الدنيا من حرّها !
إنه ما بعد اليوم العبوس القمطرير.. يوم يجعل الولدان شيباً.. يسعى المؤمن حياته ليأمن فيه من سطوات الجبار وغضبه، راجياً أن يُزحزح عن النار ويجاور الأطهار..

وههنا تظهر معادلة رهيبة..
قطرة من النار تقتل أهل الدنيا جميعاً !
ولكن قطرة من عين الباكين على الحسين تطفئ حر جهنم كلها !!

فعن الصادق عليه السلام:
وما بكى أحد رحمةً لنا ولِما لقينا إلا رَحِمَهُ الله قبل أن تخرج الدمعة من عينه، فإذا سالت دموعه على خده: فلو أن قطرة من دموعه سقطت في جهنم لأطفأت حرّها حتى لا يوجد لها حر (كامل الزيارات ص102)

نحن لا ندّعي هنا فَهمَ أمثال هذه المعادلات في علوم الطبيعية..
1. كيف أن قطرة من النار تذيب الدنيا وتقتل أهلها ؟!
2. وكيف أن قطرة مؤمنٍ سالت رحمةً لهم تطفئ حرّ جهنّم ؟!

لكنّا نُسَلِّمُ بذلك بعدما وردنا عن المعصومين، لاعتقادنا بأن الله تعالى قادِرٌ على كل شيء، وبأنه مُسَبِّبُ الأسباب..

فكما اعتقدنا أن نار نمرود كانت برداً وسلاماً على إبراهيم!
وأن عصا موسى كانت تلقف ما يأفكون !
وأن أجزاء الطيور استجابت لدعوة عيسى سعياً !
وأن الله تعالى خلقنا لا من شيء ! وأنه يعيدنا تارة أخرى ! وأن ملائكة الله بيننا ! وأن للجن عوالمَ لا نراها !

وكما آمنا بالمعجزات والكرامات وإن لم نفهم طبيعة معادلتها في علوم الفيزياء والكيمياء ونظائرهما.. فإن ما بلغناه من هذه العلوم يعجز عن تفسير الكثير مما نراه بأعيننا فضلاً عن الغيبيات والمعاجز التي لا يختلف أهل الأديان في صحتها..

كذلك فإنا نؤمن بأن الله تعالى أكرَم محمداً وآله عليهم السلام بما لم يكرم به أحداً من الخلق.. ومن بعدهم شيعتهم..
ومن أنكر إمكان ذلك فقد نسب العجز لله تعالى، والله تعالى هو القادر على كل شيء..

ثالثاً: أن منبَر العزاء مُنزّه عن الكذب على الله ورسوله كما يزعم الزاعمون، فإن لخطبائه وجوهاً كثيرة فيما ينقلوه من روايات المعصومين عليهم السلام منها:

1. أنه يشترط في حرمة نقل الخبر (اعتقاد) كونه كذباً، فإن اعتقد أحد بأن هذا الخبر مكذوب أو موضوع يحرم نقله، أما مع اعتقاد صحته فليس في نقله كذب أبداً.
2. أنه يشترط في الحرمة (تعمّد الكذب) فمن ينقل غير عامدٍ للكذب والخطأ ويخطئ في نقله يكون معذوراً لا كاذباً. ومثله من ينقل الحديث قاصداً الصدق فيتبين كذبه في الواقع فيكون معذوراً.
3. أن نسبة الكلام لهم عليهم السلام على وجه (الحكاية) عما روي عنهم أو على وجه (النقل) لما روي عنهم كأن يقول: روي عنهم أو نقل عنهم، ليس من الكذب في شيء سواء طابق الواقع أم خالفه، فإنه إخبار عن هذه النسبة .
4. أن عرض الإنسان لفهمه واجتهاده ورأيه لا يكون من الكذب عليهم أبداً وإن خالف الواقع.
5. أن الحكاية بلسان الحال لا تتضمن نسبة شيء للمعصوم كي يقال أن فيها كذباً.
ومثلها العرض التصويري أو التمثيلي بحيث يعرف القارئ والسامع، والممثل والمشاهد أن ما يعرض لسان الحال وأنه ابتكار لصورٍ حزينة ومشاهد مؤثرة لا يزعم أنها جرت فعلاً ولا ينسبها للمعصوم عليه السلام.. فكل ذلك ليس من الكذب في شيء.

وفتاوى العلماء وكلماتهم قديماً وحديثاً في جواز ذلك مما لا يعتريه الشك..

ولئن سلّمنا يوماً بسهوٍ هنا أو اشتباهٍ وتجاوزٍ هناك.. فبعد كونه معذوراً مغفوراً.. تمحوه دموع الباكين على الحسين عليه السلام بإذن الله.. ليبقى منبر سيد الشهداء مُنَزَّهاً عن النقائص.. مهما كان السعي حثيثاً في إسقاطه..

وفق الله خدامه ومقيمي مآتمه ومن أحيا ذكره كُلَّ إحياء.

والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه..

ثالث عشرة الحزن 1439 للهجرة


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2017/09/25



كتابة تعليق لموضوع : (3) منبر العزاء.. مَعقِلُ الطُهر والنقاء !!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net