صفحة الكاتب : د . محمد شداد الحراق

جريمة الانتماء في زمن العولمة
د . محمد شداد الحراق

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
يسير العالم المعاصر في اتجاه التحرر من كل أشكال الانتماء ، بحيث يتم تفكيك كل الشبكات العلائقية التي تربط الإنسان بمحيطه وجذوره،ويتم تجاوز الكثير من القيم التي كانت في الماضي جوهر وجود الإنسان  وأهم خواصه ومميزاته.
في زمن الانفتاح غير المشروط وإزالة الحواجز الجمركية والنفسية و الثقافية، وفي زمن سلطة الأموال و الشركات العملاقة و المشاريع المتعددة الجنسيات ، ظهر نوع جديد من الإنسان يمكن اختزاله في  ثنائية التحرر و الاستهلاك، وهو نوع يستطيع أن يتأقلم مع هذا التعولم الجديد، وأن يتفاعل معه، لأن لكل عولمة إنسانها الذي يناسبها- كما يقول الدكتور طه عبد الرحمان-.
ولاشك أن العولمة المعاصرة قد ساهمت في صنع عقلية وتشكيل نفسية الإنسان الذي يتعامل معها و بها في كل شؤون حياته.وليس غريبا أن نجد هذا الإنسان يختلف عن سابقه الذي صنعته ظروف تاريخية قاهرة وشروط حضارية قاسية. يختلف عن ذلك الإنسان الذي تربى على مائدة القيم و المبادئ والذي حمل أوسمة النضال والتضحية، وتغذى بمياه الحب و التعاون و الإيثار و الفداء.
لقد تغير الكثير من المفاهيم في هذا السياق العولمي المعاصر، ولكن أخطر ما تغير هو مفهوم الوطن والوطنية والمواطنة، بل إن هذه المفاهيم أضحت مناقضة لما تسعى إليه العولمة من قيم. فالعولمة و المواطنة ضدان لا يجتمعان و لا يتواصلان،لأن المنطلقات مختلفة،و لأن المقاصد و الأهداف متباينة... فلا يمكن الجمع بين غريزة الانتماء وعقيدة التحرر،و لا يمكن الجمع بين الولاء للذات والولاء للوطن و الجماعة. 
إن العولمة تسعى إلى خلق مناخ نفسي و أخلاقي جديد..وتعمل على ترسيخ قيم ومفاهيم جديدة انقلابية مغايرة تؤسس لنمط حياتي غريب و شاذ، ربما لم نتمكن بعد من استيعابه أو تصوره،لأنه نمط مخالف للكثير من الثوابت و المسلمات و المقدسات التي آمن بها وتربى عليها جيل ما قبل العولمة ، الجيل الذي نشأ على عشق التراب، فسقاه بعرقه و دمائه، الجيل الذي حمل في كيانه أكثر من بطاقة انتماء للوطن ،للقبيلة، للدين، للغة، للتاريخ، للإنسانية... فليس من السهل إقناع هذا الجيل الأصيل بتغيير جلدته أو تبديل دمه أو التنكر لتاريخه و ذاكرته.
الإنسان العولمي القادم ما يزال في طور التشكل و الإعداد، وهناك آليات كثيرة مسخرة لصنعه وصياغة خريطته الوراثية، تحاول ضبط طوله وعرضه، وتعمل على توحيد خلاياه ونبضات قلبه. يتم الآن صنع لقاحات جديدة تستهدف تجميد مركز الشعور بالهوية و الانتماء عند الإنسان، وتسعى إلى فك كل ارتباطاته التقليدية الاجتماعية و الدينية والجغرافية.
الإنسان العولمي لا يعترف بوطن و لا يعتز بانتماء. تتحكم فيه قيم المصلحة و المتعة و السلطة. لا يحترم ماضيا ولا حاضرا، لا يقدس دينا ولا لغة، تتساوى عنده الأمانة و الخيانة، يتعانق في ملته الخير مع الشر، مستعد للتنازل عن كل شيء من أجل لا شيء... الكل عنده قابل للبيع و الشراء. تجارته تجاوزت الأشياء إلى عرض القيم للمزايدة و المناقصة،لا وازع  يمنعه ولا ضمير يؤنبه ولا دين يضبطه ولا أخلاق تزجره.
 الإنسان العولمي يتمرد على الثوابت ،فيعادي إنسانيته وخصوصيته البشرية،لأن جيناته المزروعة ترفض كل نوع من أنواع الانتماء. يتمرد الذكر على ذكورته، وتتمرد الأنثى على أنوثتها،لأن الانتماء إلى جنس بعينه سجن بيولوجي و نظرة أحادية منغلقة إلى الكائن البشري. يتمرد هذا الإنسان على كل المؤسسات الاجتماعية ، فيتجاوز الأسرة ،ويرفض الاعتراف بحرمتها و قداسة كيانها، لأنه يعتبرها قيدا اجتماعيا وكهنوتا متجاوزا. يثور على شجرة العائلة فيقطع الأغصان، وينثر الأوراق، ويستأصل الجذور،لأن هذه الشجرة تفرض عليه نوعا من الانتماء القبلي الرجعي المتجاوز.
في سياق العولمة ستذوب المؤسسات الأيديولوجية وتفقد جاذبيتها و قدرتها على الاستقطاب، لأنها ستفقد القواعد الجماهيرية الملتزمة بخطابها الفكري و العقدي و السياسي. سيصيب الحقول السياسية الجفاف و القحط، لأن الانخراط يعني الانتماء، و الانتماء جريمة شنعاء في شريعة الإنسان العولمي. وفي هذا السياق ستفقد الكثير من القيم الاجتماعية آثارها النفسية على الإنسان، فالتقاليد و الأبوة و الحب و الطقوس الاجتماعية مجرد ارتباطات ماضوية قديمة لم يعد لها معنى، وقيود أخلاقية تناقض مبدأ التحرر و الانعتاق .
الإنسان العولمي لا يعترف بقانون ولا شريعة و لا تعاليم ،لا يحترم كنيسة و لا مسجدا ولا معبدا، إلهه في جيبه ، وحب الذات و عشق المال أهم المبادئ في ملته و اعتقاده. يطيل الصلاة في محراب الشهوة، ويسجد لكل معبود جديد . تستهويه قيم الاستبدال و التغيير. إذا رأى المال قال هذا ربي، وإذا رأى الجمال قال هذا ربي هذا أحسن..علاقاته عمرها قصير، و معشوقاته كل يوم هي في شأن. حركة عقارب الساعة عنده سريعة الدوران، لا تلتزم بمقياس فيزيائي . الشمس و القمر عنده مخلوقات رجعية لا تريد التجديد و التغيير، ولا تخرج عن محور أو مدار. وكوكب الأرض عنده مثال للتبعية، لأنه لم يستطع التخلص من مجموعته الشمسية...
بعد هذا وكل هذا علينا أن نتخيل الثوب الجديد الذي ستلبسه الأرض و السماء يوم تنجح عولمة هذا النموذج البشرى الشاذ و المشوه.. إذا ظلت هناك أرض أو سماء؟؟

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . محمد شداد الحراق
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/10/17



كتابة تعليق لموضوع : جريمة الانتماء في زمن العولمة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net