• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : الإعجاز الفلسفي للإدراك .
                          • الكاتب : يحيى محمد .

الإعجاز الفلسفي للإدراك

تُصنّف المباحث الفلسفية إلى كل من نظرية المعرفة والوجود والقيم. وفي جميع هذه المباحث نجد ان التحليل الفلسفي لها يتضمن أشكالاً من الإعجاز. ونقصد بالأخير حالة من التوافق مع الطبيعة البشرية تُشعِرنا بأن هناك نظاماً منسجماً يصعب طرح خلافه من دون مشاكل أساسية، سواء على صعيد المعرفة أو الوجود أو القيم. فهو ينبئك بأنه جاء بشكل مقصود من دون اعتباط.
فالإدراك البشري جاء بهيئة مناسبة تُلفِتْ نظرنا إلى هذا الإعجاز المقصود، وكذا حالة ما عليه الوجود، بل والقيم ايضاً.
وسيقتصر حديثنا هنا حول الإدراك، وهو ينقسم إلى تصور وتصديق، وفي كلاهما نجد الإعجاز بيناً لا لبس فيه.
فقد اعتدنا في مجال التصور على رؤية الأشياء التي تبدو لنا شيئاً من الوحدة المشتركة لأي شيء ندركه أمامنا رغم ان التحليل الفلسفي للصورة الذهنية لا يفيد هذا المعنى الوحدوي للأشياء. 
فتصورنا الحسي لتفاحة أمامنا يتحلل إلى مجموعة من الإحساسات المختلفة، وهي تأتينا عبر مجار متغايرة لا علاقة لبعضها بالبعض الآخر. فالحس البصري يزودنا بلونها وشكلها، والحس اللمسي يُشعِّرنا بحالتها الصلبة، والحس الشمي يُحسِّسنا برائحتها، كما ان الحس الذوقي يسمح لنا بتذوق طعمها. وتتصف هذه الإحساسات بأنها متمايزة وذات منابع مختلفة، ورغم التباين في المجاري والمنابع والإحساسات فان الذهن مجهز لتوحيدها ضمن حس مشترك يقوم بجمع هذا الشتات المتباعد. 
كما ان الرؤية في الإدراك الفلسفي لا تفسرها القوانين الفيزيائية والكيميائية وسائر العلوم.. فإحساسنا البصري – مثلاً - هو تأويل لما نستقبله من ايعازات ما تقدمه مظاهر تلك القوانين، ليس فقط على مستوى قلب الشكل الفيزيائي وتعديله كما هو معروف، بل كذلك على مستوى الشكل الذي نعبر عنه بـ (الصورة) الحسية، فنحن نرى شيئاً غير ما يتحدث عنه اصحاب العلوم من الكهارب والايعازات الفيزيائية والتفاعلات الكيميائية التي لا ندركها أو نشعر بها.. إننا نرى شيئاً في غاية الإلفة والعجب في الوقت ذاته، إنه (الصورة) ذاتها بجمالياتها وأبعادها.. ما الذي يجعل الذهن يدرك شيئاً لا تفهمه القوانين العلمية؟ ما هذا الجمال الذي تمتلكه الصورة والتي تجعل النفس تواقة لها؟.. إنها عملية غير مفهومة لحد الآن.. وكأن هناك شيئاً يقف خلف الصور يلوح بها ليجعل الذهن سارحاً في تعقبها ومطاردتها على الدوام، وكأنها تخفي وراءها ذلك الجمال المطلق.
فعلاً ان (الصورة) كما تستحضرها أذهاننا، وجهاً لوجه، هي من الأمور المحيرة على الصعيد الفلسفي.. فهي غير مفسرة علمياً، ولا تخضع للبحث العلمي بقوانينه المعروفة، كما انها مألوفة إلى الدرجة التي يصعب على الفرد ان يدرك لماذا تظهر بهذا الشكل المدهش.
***
أما في مجال التصديق فأذهاننا مهيئة للإعتقاد بتطابق الصور الذهنية للأشياء الحسية نسبياً. رغم انه بحسب التحليل الفلسفي فان هذا التطابق لا دليل عليه، لكنه مهم في حياتنا كما نألفها. فنحن وفق هذا الإحساس المشترك نتعامل مع التفاحة ونعتقد جازمين بأنها تمثل حقيقة ما عليه الواقع. وهذا الإعتقاد الغريزي للفرد العادي لا يجد له تبريراً فلسفياً، لكنه مفيد في تعاملاته الحياتية. فحتى الفلاسفة الرافضين لأنْ تكون الصورة معبرة عن الحقيقة الواقعية تراهم يتعاملون معها حياتياً كما لو كانت حقيقة قطعية. فالذهن البشري لا يتعامل مع الصور المشتتة ولا يفترض ان ما تزوده الحاسة البصرية لا علاقة له بالحاسة اللمسية. وقد تكون للتفاحة أبعاد أخرى غير مدركة للحواس تماماً.
وفي التصديق ايضاً نجد من ضمن الإعجاز الفلسفي ان القضايا المعرفية تنتهي إلى حد من دون طلب المزيد. فالذهن البشري مزود بقضايا جاهزة هي أساس غيرها من المعارف، وهي لا تحتاج إلى ما يستدل عليها خلافاً لغيرها. وقد امتازت بالوضوح الذي يجعلها تفرض نفسها على الشخص المدرِك دون حاجة إلى طلب الإستدلال عليها، فهي تجمع صفتين عجيبتين لا غنى عنهما، إحداهما كونها أساسية دون ان ترتد إلى ما لا نهاية له، والثانية انها واضحة بذاتها بلا حاجة إلى من يضفي عليها الوضوح من الخارج. فلو ان هذه القضايا كانت أساسية من دون وضوح؛ لأفضى الأمر إلى أن تكون المعرفة ناقصة ومعلّقة، أي لشعر البشر بأنهم يحملون إدراكاً مشكوك الحقيقة. كما أنها لو لم تكن أساسية وتحتاج إلى غيرها للدليل عليها لأفضى الحال إلى التسلسل لما لا بداية له، وهو أمر يجعل من المعرفة غير مبررة ومدعاة للتشكيك. وبذلك كانت هاتان الصفتان هامتين للغاية. ولولاهما لظل البشر عاجزين عن تحصيل معرفة موثقة.. وبالتالي لإنهارت المعرفة جملة وتفصيلاً. وهي نقطة هامة تُبعِد القلق الذي أثارته مبرهنة جودل حول النظم الرياضية، حتى قيل إن مفارقة جودل هي إحدى ثلاث قضايا أصابت المعرفة العلمية بقيود خلال القرن العشرين، والقضيتان الأخريان هما مبدأ هايزنبرغ في عدم اليقين ونظرية الشواش (الكايوس) . 
فالرياضيات رغم بداهتها وبساطتها لكنها تتضمن على الأقل مسألة واحدة لا تقبل البرهنة والتدليل، فكل نظام مكون من بديهات وقواعد رياضية، وان بعضها لا يمكن البرهنة عليه ضمن نفس النظام أو داخله، إذ لا يمكن التسلسل بالاثبات الصاعد باستمرار، فلا بد من مسلمات أساسية. وقد استطاع جودل ان يثبت ان هذه الدعوى ذاتها عند تحويلها إلى صيغة حسابية فإنه لا يمكن البرهنة عليها وان كانت صحيحة، لأن أي برهان عليها سيفضي إلى التناقض . 
ومما يذكر بهذا الصدد ما نقله ستيفن هوكنج عن الصدمة الكبرى لاينشتاين (عام 1949) عندما اكتشف جودل مبرهنته الانفة الذكر والتي تنسب إلى الرياضيات مسائل لا يمكن اثباتها ولا نفيها . وقد وسّع البعض هذا الإعتبار وبسطه على المعرفة البشرية قاطبة. فمثلاً ان فتجنشتاين قام بتعميم هذه النظرية معتبراً ان أي نظام منطقي عاجز عن اثبات اتساقه، الأمر الذي يحتاج فيه إلى نظرية أعلى، وهذه تحتاج هي الأخرى إلى نظرية أعلى، وهكذا إلى ما لا نهاية، أو ينتهي التسليم بقضايا ليس عليها دليل كالذي يلجأ إليه المنطق الارسطي. وقد عمم فتجنشتاين ذلك واعتبر اننا في البحث عن النظام نستخدم لغة لفظية أو رياضية لوضع النظريات، أي تمثيلات تصورية للعالم، لكن ذلك يتطلب نظرية أخرى للتأكد من صحة ما نعتبره واقعاً، وهذا يحتاج إلى نظرية أخرى وهكذا إلى ما لا نهاية. وبالتالي فأي جهد لتفسير العالم يحتاج إلى قفزة ايمان .
ومن المبادئ الأساسية ما يعتبر أساساً لجميع القضايا المعرفية، فلولاه لسقطت المعرفة برمتها، كما هو حال مبدأ عدم التناقض. كما منها ما هو أساس معرفتنا بالواقع الموضوعي الخارجي، ولولا وضوحه لاختلّت معرفتنا بهذا الواقع، كما هو حال مبدأ السببية العامة. فلهذه القضايا أصل غريزي وشهود عياني كالذي يقوله العرفاء.
كذلك فيما يتعلق بالوضوح الوجداني الذي نشهد به واقعية العالم الموضوعي، فإحساسنا بهذه الواقعية لم يأتِ عبر الضرورة المنطقية ولا سائر الضرورات العقلية كما هو حال ما سبقها من قضايا، إذ لا مانع عقلياً من أن تكون حقيقة الأمر خلاف ما نتحسس به وجداناً، رغم أن شعورنا الذاتي لا يحتمل هذا المعنى. ونحمد الله على هذه الإلفة والغريزة التي لم تدع مجالاً لعقول الناس ان يبثوا فيها روح التردد والتشكيك، أو ان يعاملوها على مستوى ما يعاملون به القضايا الأخرى. وهي مما ينطبق عليها قول الامام الغزالي: ‹‹من ظنّ ان الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيّق رحمة الله الواسعة›› .
هكذا نحن مهيئون لإدراك الوضوح والضرورة لبعض القضايا دون البعض الآخر. فمن السهل أن نتصور النار لا تحرق والشمس لا تطلع والإنسان لا يموت، لكن من الصعب جداً أن نتصور وجود حوادث من دون أسباب، أو أشياء موجودة ومعدومة في الوقت نفسه، أو ان نتعامل مع الواقع الموضوعي بصفته حالة ذاتية صرفة كالذي يحصل في المنام.
فهذا الوضوح في القضايا الأساسية يبعث على التساؤل: من أين استمدها الذهن البشري، لماذا كانت واضحة دون غيرها من المعرفة؟ ولماذا كانت بهذا الشكل الميسّر لحياتنا العملية والفكرية؟
لقد اعتبر الفيلسوف عمانوئيل كانت بعضاً من تلك المعارف تمثل الشروط الأساسية لمعرفتنا بالواقع الموضوعي. لكنه لم يبذل جهداً في التفكير حول لماذا كانت بهذا الشكل دون غيره؟ ما الغرض من ذلك؟ وهل لذلك علاقة بالمبدأ الإنثروبي أو الإنساني (Anthropic Principle‏) كالذي طرحه الفيزيائيون خلال النصف الثاني من القرن العشرين؟
فلقد كان الإنجليزي براندون كارتر أول فيزيائي طرح سؤالاً حول القوانين الفيزيائية إن كانت مختلفة قليلاً عن الشكل الذي هي عليه؟ ومن ثم اقترنت حساباته بأنه لو كانت القوانين مختلفة بقدر طفيف عما هي عليه بالفعل لأصبح من المحال وجود الحياة، وما كان من الممكن إخضاع الكون للملاحظة والرصد. ومن ثم رأى ان وجودنا يعتمد على قدر محدد من الضبط الدقيق للقوانين. لذلك بدت هذه القوانين بنظره مناسبة للحياة، وأطلق على هذا الضبط الدقيق اسم المبدأ الإنساني. وأطلقت هذه الورقة البحثية لكارتر شرارة ثورة حقيقية في التفكير العلمي .
وكذا نقول بصدد ما طرحناه حول طبيعة الإدراك البشري الصوري والتصديقي، إذ نجده ملائماً للحياة الفكرية والعملية للإنسان، ولو جاء مختلفاً بعض الشيء لأدى إلى اختلالات هذه الحياة، كالذي يشهد عليه عرضنا المقتضب السابق.



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=91581
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2017 / 04 / 03
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28