• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : كتاب "إستراتيجيا" ح (9): هل سبقتنا الحداثة إلى الجنة؟ .
                          • الكاتب : محمد الحمّار .

كتاب "إستراتيجيا" ح (9): هل سبقتنا الحداثة إلى الجنة؟

قد تكون هنالك عدة أسباب أدت إلى فقدان المسلم التوازن بينه وبين الدين حتى صار منهاج التديّن لديه كأنه مقلوبٌ على رأسه، وحتى أضحى المسلم يخلط اليمين باليسار والسفلي بالعلوي. ولعل أقوى وأشد هذه الأسباب تلك التي تتعلق بالحداثة. لكن يبدو لي أنّ هنالك سبب واحد ظاهر للعيان تجتمع فيه معظم الأسباب. وهذا السبب هو سبق الحداثة على أي تجديد للدين. ولئن كان هذا ليس طرحا جديدا فإنّ عدم إنزاله المنزلة الفلسفية الشعبية التي يستحقها يدفعني إلى طرحه من زاوية مختلفة.
وتجديد الدين الذي أقصده هو ما يُعرّف بأنه عودة إلى الدين في صفائه وفعاليته، وربما نقول أيضا إلى حداثته، التي عُرف بها في صدر الإسلام.
فبمجرّد أن صار المسلم، فردا ومجتمعا، يجابه الحداثة المعاصرة بغير تجديدٍ في فكره الديني، نلاحظ أنه أصبح ضحية لصنفين اثنين من السلوك. والصنفان متباينان ظاهريا إلا أنهما من نفس الجنس والفصيلة. بل إنهما متكاملان. وهُما التسرّع والكسل. ويبرز ذلك جليا في لهث المسلم وراء غاية التقدم والرقي، المادي إلى أن يأتي ما يُخالف ذلك من جهة، وأثناء استخدام المسلم للحداثة كوسيلة لا كقيمة مستبطَنة داخل النسيج الثقافي من جهة أخرى. وهذا الواقع ذي الوجهين المتواطئين سيوحي لنا بصورة غريبة عن المسلم، لكنها تتسق مع سلوكه الهجين، بصنفيه الاثنين. ويبرز المسلم في هذه الصورة بمثابة عدّاء يشارك في سباق لكن دون سابق تحضير ودُربة. فتراه يجري ويلهث على وتيرة عالية جدّا ستنتهي به إلى السقوط مرارا وتكرارا أثناء السباق. ثم يتلو السقوطَ قيامٌ، وهكذا دَوالَيك.
إنّ وضع السقوط هو الذي نراه بالعين المُجردة ونلاحظه عند الناس. وهو لا يُعجبُنا وإذا بنا نقول عن الشخص الساقط إنه كسول. وهو الذي يدفعنا إلى التعميم فنتهم التونسي بالتخاذل وبأنه لا يحب العمل. وهو الذي يبث فينا الإيمان بالعجز الذاتي بما أنه يوهمنا أنّ العرب متخلفون بطبعهم وأنّ المسلمين متواكلون. ووضع السقوط هو الذي زاد وضعنا الحضاري تأزما طالما أنه يشير إلينا بأنّه إذا كان المسلمون متواكلين ومتخلفين وعاجزين وكسالى، فذلك بسبب الإسلام.
أمّا وضع القيام فحدّث ولا حرج. إنه وضع قيامة وهمية. وهو الذي نشاهد فيه بني جلدتنا يُهرولون وراء اللذائذ لَهثَهُم وراء كُبريات المطامح مثل السيارة الفخمة والإقامة السياحية، ويتنافسون على الظفر بالكماليات تنافُسهِم بالظفر بالضروريات، ويُراءون في تلبية الرغبات، ويتزاحمون في استحداث أصناف الشهوات. ويمنعون الماعون. وهو وضعٌ أفرز تحطيما لجميع أنواع الجدران ليترك المجال للتصحّر الأخلاقي. وهو وضعٌ تُخالَفُ فيه قوانين المرور والجولان، وتُحتكَرُ فيه الأولويات وتُغتصَبُ من طرف الأقوى، في الأسرة وفي المدرسة وفي الشارع والمحلات. وهو وضع تمزقُ فيه الكتب المدرسية والكراسات وينحسر فيه الأداء في المدرسة وكذلك في الرياضة وتغلب فيه الرداءة حتى في أماكن الترفيه. إنه لَوضعٌ مقلوبٌ بجدّ. وضعٌ يتسم بخلط الضروري بالكمالي وباستبدال الحداثة الحقة بالمدنية المتوحشة. إنّ هذا الوضع من مقومات علة الاحتباس التواصلي.
ولحوصلة الاحتباس نتخلص إلى القول إنّ الانقلاب العقدي يتجلى في انقلابٍ في سعي المسلمين في حياتهم اليومية: عوضا عن أن يعملوا لدنياهم كأنهم يعيشون أبدا (مبدأ الرغبة)، فإنهم يعملون لها كأنهم يموتون غدا (مبدأ الواقع الرديء)؛ كأنهم يخشون أن يموتوا غدا ولا يتمتعون بخيراتها. وبالتالي عوضا عن أن يعملوا لآخرتهم كأنهم يموتون غدا (مبدأ الرغبة) فإنهم يؤجلون ذلك إلى حينِ يظفرون بلذائذ الدنيا التي يخشون فوات الأوان للإخلاد لها. ولله في خلقه شؤون.
محمد الحمّار
كانت هذه الحلقة (9) من كتاب بصدد الإنجاز: "إستراتيجيا النهوض بعد الثورة".
 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=8991
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 08 / 24
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29