• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : في المشكلة الانكليزية أين المشكلة؟ .
                          • الكاتب : لطيف القصاب .

في المشكلة الانكليزية أين المشكلة؟

عندما قطع رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون عطلته في إحدى المنتجعات الايطالية متوجها إلى مقر عمله في العاصمة لندن بدا وهو يعلق على أحداث (الشغب) التي اشتعلت شرارتها في حي (توتنهام) الشمالي ثم غطت نيرانها اللاهبة جميع أحياء لندن الشمالية والجنوبية والغربية والشرقية بحسب ما أوردته وكالات الصحافة البريطانية، بدا وكانه يستنسخ ما قالته وزيرة داخليته تيريزا ماي حينما وصفت القائمين على إشعال فتيل الأحداث بـ (المجرمين)، بل بدا كاميرون كأنه واحد من أولئك الحكام العرب الذين انتابتهم حمى الذعر خوفا على كراسيهم من خطر ما بات يعرف منذ أحداث تونس بالربيع العربي.

إن التفسير المنطقي لما حدث في انكلترا مؤخرا لا يستقيم من دون معرفة جميع العوامل التي أسهمت في ظهور هذه المشكلة واستمرارها ناهيك عن معرفة الأسباب الأكثر فعالية من غيرها في نشوء هذه المشكلة واتساع رقعتها لتشمل أرجاء واسعة من قلب المملكة المتحدة.

وهل تنحصر تلك العوامل والأسباب بالجوانب السياسية أم الاقتصادية أم الاجتماعية أم النفسية؟

صحيح أن اجتماع جميع الجوانب المتقدمة يحظى بنصيب معين في تعليل المشكلة الانكليزية الأخيرة ؛ فليس يُعقل أن يتفرد سبب وحيد في اندلاع مشكلة بهذا الحجم ولكن الصحيح أيضا أن يكون لأحد تلك الجوانب أو بعضها حصة الأسد في التأثير المباشر على خلق المشكلة أصلا، واستفحال خطرها وانتشارها المذهل بعد ذلك.

من المعلوم إن قوة استقرار النظام السياسي في بلد ما يعد معيارا شديد الأهمية في وضع البلد المعني في مركز دائرة التنمية ومن ثم ترقيه في مدارج الوئام الأهلي، والابتعاد عن بؤر التوتر والمشاكل، والعكس صحيح. ومن المعلوم أيضا أن انكلترا هي صاحبة السجل الأعرق في وضع الدساتير السياسية المدنية ابتداء من وثيقة الماكنا كارتا عام 1215. وهي أي بريطانيا وان فقدت القسم الأعظم من سطوتها السياسية الخارجية ابتداء من عام 1947 حينما أوكل رئيس وزراء بريطانيا آنذاك ونستون تشرشل الى الرئيس الامريكي ترومان قيادة العالم على خلفية الرعب من تنامي قوة الاتحاد السوفياتي السابق وتفضيل بريطانيا للشقيقة الامريكية الرأسمالية على العدوة السوفيتية الاشتراكية غير أن بريطانيا على صعيد الاستقرار السياسي الداخلي ما تزال تحافظ على موقع عالمي متقدم، نظرا لرسوخ تقاليد نظامها البرلماني شديد التماسك، ووجود عدد كبير من الناشطين السياسيين ومن جميع الاعراق والقوميات البريطانية في الهياكل التنظيمية الحزبية والمؤسسات الحكومية، الى جانب عدم بروز مشكلة ما في عملية التداول السلمي لقيادة البلد باستثناء عدم السماح لشخصية ملونة في أن تشغل سدة الحكم البريطاني، على غرار ما حدث في الولايات المتحدة الامريكية مؤخرا، وبالنتيجة فليست المشكلة الانكليزية مردها الى العنصر السياسي في المقام الاول.

 وما ينطبق على ضآلة التأثير السياسي على واقع الاحداث الاخيرة في بريطانيا ينطبق بدرجة ما على الجانب الاقتصادي الذي لا يشكو بشكل مفجع من امراض الفقر والبطالة مثل هو الحال في بعض البلدان العربية التي عمتها اضطرابات شعبية واسعة وكان للجانب الاقتصادي المتردي حصة معتبرة في نشوء واستمرار تلك الاضطرابات والثورات. وما يقلل من اهمية تأثير الجانب الاقتصادي على المشكلة الانكليزية الاخيرة هو شمول الاحياء الثرية من العاصمة البريطانية وكذلك بعض المدن الغنية خارج العاصمة بحركة الاضطرابات والتخريب.

هناك جانب مهم في المشكلة الانكليزية الأخيرة يتمثل في الصراع الاجتماعي الذي يقسم الجسد البريطاني إلى قسمين متخاصمين احدهما تمثله الغالبية البيضاء والآخر سائر الأقليات والمهاجرين، لاسيما المنحدرين من أصول افريقية، والى جانب الصراع العرقي هناك توتر في العلاقات الاجتماعية على صعيد الطوائف والاديان، وشعور قسم كبير من المسيحيين البريطانيين المتعصبين بإحساس الكراهية تجاه مواطنيهم المسلمين ؛ لكن بصمات هذا الصراع لم تبد على صفحة الاحداث حتى الان وقد تدخل على خط الاحداث مستقبلا، وبحسب مجريات الوقائع الماضية فان السبب الرئيس في اشعال المشكلة الانكليزية تمثل بمقتل شاب اسود على ايدي الشرطة الانكليزية المتهمة بالعنصرية على نطاق واسع وتفضيلها للعنصر الابيض على ما عداه، لكن هذا السبب العرقي الذي اشعل الشرارة الاولى للمشكلة لم يكن هو السبب في دوام واستمرار احداث الشغب وشمولها الاحياء البيضاء والسوداء على حد سواء والامر بهذا الشكل لا يشابه احداث عام 1981 حين قتلت الشرطة البريطانية احدى السيدات من أصول افريقية كما اشار اليه مراقبون وأيدته شواهد الواقع. فبحسب معلومات الصحافة البريطانية فان الشباب (المجرمين) فيهم الأبيض والأسود وتبدأ أعمارهم من (ثماني سنوات) فصاعدا.

قد يكون السبب الرئيس في احتفاظ المشكلة الانكليزية بزخمها فترة طويلة نسبيا على الرغم من اعتقال مئات (المجرمين) هو سبب نفسي عائد بحسب ما يُستشف من تعليقات بعض المحللين البريطانيين أنفسهم الى انفصام عرى الأسرة البريطانية، وغياب الدور الأخلاقي من مناهج التربية والتعليم البريطانية، ولعل في الصرخة التي أطلقها رئيس شرطة لندن تيم غوديون حين قال: أين آباء هؤلاء (المجرمين) تلخص السبب الحقيقي وراء استمرار مظاهر النهب والحرق التي اجتاحت المدن الانكليزية أياما وليال متتالية، مع إمكانية أن تأخذ هذه المشكلة أبعادا اخطر في المدى المنظور.

فطالما بقيت خطابات المسؤولين البريطانيين المنتقدة لجموع شبابهم تحاكي أقوال معمر القذافي وأمثاله ستظل الفرصة متاحة لإشعال المزيد من الحرائق البريطانية. وطالما ظل البريطانيون محرومين من نظام الأسرة الصالحة ستظل الشرطة البريطانية تبحث عن آباء الشباب الصغار من دون جدوى، وطالما ظلت مناهج البريطانيين التربوية تلقن الأطفال أن الأسرة تمثل سلطة أبوية، وهي بذلك لا تستحق الاحترام، فان جميع السلطات لن تكون في موضع احترام في مدى قريب جدا.

* مركز المستقبل للدراسات والبحوث

http://mcsr.net

 


كافة التعليقات (عدد : 1)


• (1) - كتب : مهند البراك من : العراق ، بعنوان : شكر في 2011/08/14 .

دائما ما نتابع كتابات الاستاذ لطيف القصاب بشوق وترقب فهو يعطي تحليلا واقعيا لما يجري على الساحة العراقية والساحة العالمية ...
والمشكلة دائما هي في النظم الاجتماعية المتدهورة وثقافة العنف التي تتولد لدى جيل طالما يحلم بالرفاهية بدون ان يعمل .
شكرا مرة اخرى للاستاذ القصاب



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=8653
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 08 / 14
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29