• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : إبستيمي الفوضى وميلاد المثقف النّذل في نقد المثقف الذي لا يتحمّل أن يكون مثقّفا .
                          • الكاتب : ادريس هاني .

إبستيمي الفوضى وميلاد المثقف النّذل في نقد المثقف الذي لا يتحمّل أن يكون مثقّفا

لقد اكتملت الصورة التي حدّدوا بموجبها مصائر العقل..وفي طوره الجديد انشطرت الحداثة إلى اتجاهين: اتجاه يعاقر التحديث بأصولية يمتحيها من خصومه التاريخيين، واتجاه يعاقر الأنماط المتخيّلة من داخل إمكانات الحداثة نفسها ولكن بتمرّد يوحي بأنّ ثمة عقوقا وخروجا عن أصولها..ولا أظنّ أنّ الذين أعادوا إنتاج نيتشه برسم ما بعد الحداثة هم حقّا يملكون رباطة جأش نيتشه الذي لن يكون له مثيل في منظومة النفاق المعرفي والثقافي الغربي بله العربي..لذا اعتبرته فلتة في تاريخ غرب مارس ولا زال يمارس ازدواجية الخطاب..نستطيع إعادة إنتاج نيتشه بمستويات كثيرة وربما بأنماط متناقضة، ولكن نيتشه كان ضدّ كل ما من شأنه تدمير الإرادة الحرّة والرّاقية أيضا..وحتى حينما جنحت به داروينيته الاجتماعية نحو تكريس الأصل الحيواني للإنسان ، فقد كان ذلك من حيث وجب وليس اعتباطا في تاريخ الطبيعة، أن تنبثق إنسانيتنا من هذا الأساس لكي تدرك دائما بأنّ ماضيها مرعب ويتعين أن تفرّ من انحطاطها..لا أريد أن أطنب في الوضعية التي آل إليها حال الحداثة في الخطاب الفلسفي الغربي، ولكن يهمّنا أن نتحدّث عن مصيرها ليس داخل العالم العربي فحسب بل مصيرها داخل الخطاب الفلسفي للحداثة في ذهن النخب المتوالدة في مشهدنا الثقافي..فلقد صمّمت الصورة النهائية لما يجب أن يكون عليه المشهد العربي تحديدا: الفوضى..وهكذا بدأت ملامح الضّحالة تتنامى بشكل مختلف تماما عما يجري في الغرب، ضحالة المفاهيم التي يعاد توزيعها على قواعد الفوضى المعمول بها في المجال العربي..فلدى كلّ قبيلة ثقافية بل لدى كل مزاج فردي علاقة مع المفاهيم تحدّدها النّفس الأمّارة بالسوء لهذا المثقف أو ذاك..المفاهيم ليست مفاتيح لولوج قارات معرفية هائلة بل تحوّلت بمزاج أعرابي إلى رجز الشعراء وحمار من خانتهم الفروسية لركوبها وتحويلها إلى وصل تجاري في سوق التّفاهة الحرّة..هل يا ترى بإمكاننا الحديث عن إبيستيمي الفوضى العربية؟ بالفعل إنّ النظام المعرفي للفوضى العربية في مجال إنتاج الخطاب الفلسفي هو نفسه نظام السوق السّوداء، نظام إنتاج الفوضى والتّفاهة، الذي يكمن نظامها في الفوضى..تنبت الأسواق السوداء في البيئات التي يختل فيها الاقتصاد المهيكل أو الذي لم يعد قادرا على توفير كل حاجيات المستهلكين..هو فرصة لغير المحظوظين أو أولئك الذين يعيشون على استهلاك خردة الخطاب وعلى هامش التجارب الكبرى..إنّ أكبر مقتل للفكر عموما والفلسفة خصوصا هو التّكرار..وأحيانا يستند التكرار على نزعة لا أخلاقية لا تؤمن بالاعتراف..لا يكفي الخداع المورفولوجي للنخب الثقافية العربية التي تواجه تحدّي الهشاشة..لنقف قليلا عند الهوية الحقيقية للنخب المزيّفة التي تمارس يوميا سياسة مناهضة الجودة والمصداقية والإبداع في المشهد العربي..ليس من وظيفة النخب الحقيقية أن تصدر أحكام قيمة مجردة إن هي نفسها لم تباشر عمليات زحرحة الانسداد الكبير..النّواح الفلسفي إن هو لم يقترن بالشجاعة المعرفية والاقتدار التفكيكي والاستقامة الأيديولوجية والصدق المنطقي، فهو لن يكون إلاّ توريط للأجيال في الهزيمة العقلية والبؤس المعرفي..إنّ إبستيمي الفوضى هنا يختلف من حيث دلالته ووظيفته..لا يتعلق الأمر هنا بفوضى خلاّقة، ففي المشهد العربي لا توجد تجارب فلسفية ثقيلة من شأنها أن تتقارع إلى حدّ الفوضى الخلاّقة التي يكون مآلها انبثاق الرحيق المختوم لأرقى الفلسفات، فهذا جدل مطلوب وهو حتمية التطور الطبيعي للخطاب الفلسفي، ولكن المقصود هنا بالفوضى هو العشوائية التي تشبه هندسة العمران العربي.. إنّه نقع الغبار الذي يوهمنا بالثورة..إنه الصحراء التي توحي بالسراب..إنّه العناد الذي يحرس تخلّفنا..إنّه النفاق الذي يلوي عنق الحقائق..إنّه الطّغيان الناشئ في تجارب سطحية تختفي وراء المفاهيم المزيّفة التي تبدو كغابة نخيل..يقاس انحطاط الأمم بعلاقتها بقيمها وأيضا بالمفاهيم التي يتوقف عليها استمرار تقدّمها العقلي..لكن هذا الوضع اليوم لا يعاني من غياب المثقف بل من طغيان المثقف المزيّف..واحدة من أهم ملامح الهشاشة والزّيف هو وضعية التحوّل من نموذج المثقف "الهادي" إلى نموذج المثقف "الهاذي"..مرّة أخرى نحن جقيقون بالعودة إلى نيتشه، ويتعلق الأمر هنا بالإنسان في طوره الأقوى، إنسان شوبنهور وقدرته على الصبر والتحمل ، لأنّ الهشاشة أحيانا يكشفها غياب القدرة على التحمل: أن نتحمل أن نكون مثقفين..أي لا نفقد عقولنا ومشاعرنا حينما نصبح أعضاء في قبيلة المثقفين..وأهم مؤشّر على الهشاشة هو فقدان الوفاء للحقيقة..هنا وجب التمييز بين جنون يقودك إليه العقل المتفكّر بلا انقطاع ، العقل المنتصر على أنانية حامله، وبين جنون الحمق بمعاييره النفسية - الاجتماعية..تتحوّل المفاهيم الكبرى إلى أدوات للثأر وتحيين العصبية العميقة والميل البدائي للنفعية المفرطة..هذا الجنون هو حال من لا يتحمّل أن يكون مثقّفا، فيسعى لإنشاء سلطة كاريكاتورية في بيئة فاقدة للتمييز..ويبدو في نهاية المطاف أنّ المشكلة هي ذات علاقة بالجرح السيكولوجي والانحطاط الأخلاقي الذي يجد في الثقافة أحيانا ملجأ للهروب لا مأوى للإمتاع والمؤانسة..يطغى على هذا النمط الزائف استعمال المفاهيم حسب خارطة طريق في حقل ملغوم..هؤلاء يحسنون قراءة أفكار المتلقّي وينحنون لخطاب المرحلة حتى وهم يزعمون التحرر من سلطة المتلقّي، فليس قيمة فكر المثقف ما يقوله عن نفسه بل ذلك مهمّة التفكيك حينما يخرج من شروط المجاملة التي يفرضها الموقف السلبي من النّقد..النقد من دون شروط مسبقة ولا حسابات ظاهرة أو باطنة..يكفر المثقف العربي بالنقد حتى وهو يتظاهر بالحاحة إليه..ذلك لأنّ الفكر والحقيقة ليس هما الهدف النهائي للنشاط العقلي للمثقف العربي..ويزداد الوضع بؤسا ونفاقا متى تدهورت الجودة التي نسعى مرارا أن نعوّضها بالتكرار والإدعاء والفرعونية..
كان علي حرب في تسعينيات القرن الماضي قد تبنّى أسلوبا في النقد تمثّله جيل متأخر من الكتبة دون أن يقفوا على المزاج الذي حرّك لوعة التفكيك لدى هذا الكاتب.. القيمة الأساسية لما رامه علي حرب هو أنّه بالفعل سطّر له منهجا ولغة ونمطا في الكتابة والتفكير خاص به..خاص به في العالم العربي ولكنه كما سبق وذكرنا في مورد آخر هو فرع فوكوني أو دريدي عربي بمستوى من المستويات لعلّه أقّل خبرة من تفكيك عبد الكبير الخطيبي مثلا ولكنه في تبسيطه الجميل (غير الثقيل) يصلح خطابا تحريضيا في مستوى التناحر الأيديولوجي العام، لكنه لا يحيلك إلى الأنساق البديلة بل يضعك في حيرة هي نفسها الحالة التي تشكّل منحدر العقل، لأنّ الشجاعة المعرفية وإرادة كسر الأصنام لا تعفي من وضع المداميك الصلبة لبدائل الفكر والوعي..فحتى العدمية في تبخترها العربي هي تزييف وتحرييف للعدمية في مفهومها النيتشي..لكن عملية التمثل لطريقة علي حرب لدى بعض الكتبة كان يعتريها نقص في الأمانة الفلسفية حين كنا بصدد إخفاء مركزيات التناص..لكن ما قيمة الرياضة الحربية(نسبة إلى علي حرب) تلك حينما يتم تقمّصها من قبل جيل من المثقفين لا يتحمّل أن يكون مثقّفا..وتصبح غواية المفاهيم خطرا على مصير عقولهم في بيداء عربية تفقد جودة القول الفلسفي يوما بعد يوم..يلفتني أنّ هذه الغواية التفكيكية سرعان ما تعانق في العالم العربي رهانات الرجعية السياسية ومشاريعها..وآية هذه الفوضى المفضية إلى التّفاهة هو خلق تراكم عقيم للخطاب الفلسفي في مجمل ما يتم استنباته من منظّمات الثقافة العميلة التي تستهدف الهوية التاريخية للمثقف الحرّ الذي يمجّد الحرية الحقيقية ويرفض النّذالة..المثقف الحرّ يرفض الوصاية وكذلك الإلتزام المشروط..مشروط ليس بدفتر تجمّلات شعورية بل مشروط بتوافقات غير معلنة وبدفتر تحمّلات لا شعوري..المثقف الحرّ لا يكون شاهد زور بالتموضعات الابستيمولوجية والأيديولوجية الخاطئة..المثقف الحرّ لا يستبدل الأقنعة ثمّ يتمثّل لغة نيتشه التي لا يتحمّلها الخطاب الهشّ لبعض المحاولات العربية المهجوسة بالتكرار المعرفي وقلّة الوفاء للحقيقة والمنتهكة لأصول الاعتراف.. في السوق السوداء للمعرفة قد نعثر على ما يغوينا إن كنّا لا نعرف الأسواق المهيكلة للفكر، فقد يبدو لنا التقليد أصلا وفي حكمه، فابتهاج البسطاء بالتقليد كابتهاج زوار السوق السوداء بالخردة والتقليد..إنّه قصة انبهار يحيل على البساطة وقلّة الخبرة..اللّغة تغوينا..وقد تخفي ضحالة الإبداع واعورار التكرار..وقد تخفي الواقع نفسه وتزفّه بطلاء يستطيع صاحب النظر الثاقب أن يخرق مظاهره المزيفة ليقف عن غريزته البدائية والهمجية..الثقافة تحرير للذّوق والمزاج وهي انقلاب عميق تستجيب له سائر خلايا المخّ وليس مصادفة على مفترق الطريق..الفلسفة تجربة وليست صناعة للثّأر..لذا لم تكن الفلسفة كصناعة ونسق شأنا للبداوة.. ابن خلدون ربط بين الفلسفة والعمران الحضاري..فلكلّ صناعته..فالعمران الحضاري يمنح للعقل فرصة الحضور في الزمان والمكان وهما ضروريان لانطلاق التجربة الفلسفية..البيئة الثقافية والحضارية التي تهيمن على المزاج العام الذي ينبت فيه الفيلسوف ويدرك قيمة النّسق قبل أن ينتفض ضدّه.. في العمران الحضاري نميّز بين وظيفة الفلسفة ووظيفة المسرح..لكل صنعة مجال خاص للتعبير عن نفسها ولا مجال للخلط..التعقيد الذي يفرضه العمران الحضاري على الفكر هو الذي ينتج الفلسفات وتجارب الفلاسفة..إنّ الفلسفة محرقة لا ينجو من لهيب أسئلتها الكبرى إلاّ من أشرب قلبه كل تناقضات الأذواق الحضارية واخترق ما بين الضّلوع..بتعبير آخر الفلسفة تجربة تتجاوز جمود السكولاستيك وخدعة الحشو والإدمان على التكرار واحتراف الأسئلة المبسّطة..إنّها يقظة مستدامة إزاء القهر التاريخاني المفضي لنسيان الوجود..إنها حتى بمعناها القديم بحث في الوجود بما هو موجود.. بما هو موجود خارج قمع الثّنائيات القاتلة ومقولاتها العقيمة..المثقف الحرّ ينتج المعنى، بينما المثقف النذل ينتج الرتابة..وأحيانا يسعى للمزايدة على من خبروا الوجود أكثر، بذات المفاهيم التي عاقروها..السّمة الأبرز للمثقف النذل هو الاختزال..الركون إلى أدوار المغالطة لتصريف الأحقاد الميركونتيلية..لا ينتمي المثقف النذل والقيلسوف المزيف إلى عالم ديونيزيس أو أبولو بل هو مثال آخر أقرب إلى أبي جهل بكل أحقاده واعتمالاته ومغالطاته وهمجيته..هنا تبدو الحاجة ماسّة إلى ثورة ثقافية في الوطن العربي..ثورة تخرج المعنى من سطوة النذالة والتكرار والزّيف والإدّعاء والحماقة..



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=81877
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 08 / 04
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28