• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : الفتوّة الفلسفية هل كان هتلر نيتشيا؟ .
                          • الكاتب : ادريس هاني .

الفتوّة الفلسفية هل كان هتلر نيتشيا؟

لعلّ هذه من أسوأ النّسب التي روّج لها الجاهلون بجوهر فلسفة نيتشه وطبيعة المفاهيم التي كرّسها في خطابه الفلسفي..الخطيئة الكبرى هي حينما يقرأ الإنسان مفهوم القوّة والتّفوّق وموت الإله وما إلى ذلك في ضوء المفاهيم الجامدة التي تحملها تلك المفاهيم في لغتنا اليومية أو حتى في اللغة المتداولة للفلسفة الكلاسيكية..نيتشه هو شيء آخر لا يحتويه المعجم العام للفلاسفة الذين سبقوه أو الذين عاصروه..إنّ رجلا اختار له معلّما ومثالا هو شبنهور لا يمكن أن يكون صاحب نزعة لإبادة البشر أو نزعة عنصرية بليدة..الرجل المتفوق عند نيتشه خارج الإقليم الجرماني نفسه..إنه رافض للتقليد..عليك أن تتأمّل موقف نيتشه وهو يتحدّث بألم عن التفاهة التي خضع لها الألمان وهم يقلّدون الفرنسيين المتغلّبين عليهم أنذاك..مفارقة المغلوب المتفوّق ثقافيا على الغالب..الدولة التي تماهى معها هتلر وبنى مجده من خلالها هي أتفه ما كان يراه نيتشه حيث رجل المعرفة، رجل شبنهور، رجل التفوق لا يمكن أن يكون فيلسوفا سيئا هدفه الدّولة.. إن النّازية قدمت رؤية تبسيطية للعرق لا يلتقي مع العمق الفلسفي والتحرري للفلسفة النيتشية التي حرّرت الكائن من كلّ شيء إلاّ من رجولته وغضبه ولكن في ضوء تحمّله لمسؤولية التفكير والحقيقة كاملة..لذا لما كان آلهة الكنيسة في العصر الفيودالي عاجزين عن أن يقدّموا الحقيقة كلها عن الله، أعلن نيتشه موت إله الكنيسة..كان نيتشه يبحث عن الرجولة بمعناها الأخلاقي..أي مباشرة الوجود بإرادة المعرفة وإرادة الحياة..لا شيء يجب أن يقوم ضدّ هذا الميل العظيم.. إله نيتشه هو إله التحرر والقوة والحياة والحقيقة كاملة..هي فلسفة ضدّ النفاق السياسي والاجتماعي والمعرفي..وهي إن أحسنّا النظر إليها تصبح فلسفة نقيضة للنّازية..فالنازية أفسدت المعنى الجميل للتمرد النيتشي وولعه بمبدأ القوة الذي هو مبدأ مختلف تماما عند نيتشه..قوة العضلات التي تليق بإنسان روسو الذي فجر ثورات نارية في حقبته ولكنه ظلّ ضحية هذا النزوع السطحي للقوة، لأنّ مثال نيتشه عن الإنسان القوي والمتفوق هو إنسان التأمل وإنسان المسؤولية والتحمل والصببر على الحقيقة..إنّ قوته تكمن هاهنا..حيث يمكن أن يخالف العالم تشبّثا بمسؤولية الحقيقة من دون تجزيئ..

نيتشه تسامى بالفكر إلى ما فوق الحروب والثورات..تلك هي السمة الرئيسية لرجل روسو..للقوانين الناظمة للتّفاهة..للتسطيح التّاريخاني للفكر..حروب همجية وثورات عبيد..التفوق هنا ليس بالهمجية..بل بالمعنى وانبعاث الحقيقة.. إن الذي يسلك أسلوب المقارنة السطحي بين مفهوم القوة عند نيتشه ومفهوم البيوسفير أو المجال الحيوي عند هتلر يجهلون موقف نيتشه من محدودية ما يسمّيه بالدّولة المثقّفة..فمداها محدود لكي تشفي غليل رغبتها الجامحة حيث هناك تصبح هي خطرا على نفسها..للأسف حتى هذه اللحظة لم توجد دراسة حقيقية لنقد النازية في ضوء الفلسفة النيتشية لإزالة الإلتباس..وهو ما كنت أتمنّى أن أفعله.. حيث يبدو لي هتلر هو الوجه الدّارويني للحداثة نفسها، الحداثة التي حطّم نيتشه كبرى أقنعتها..

هتلر لم يكن رجل نيتشه النموذجي لتدبير الدولة ورئاسة الأمم..هذا كائن ضعيف وظاهرة صوتية حوّل أنصاف الحقيقة إلى أيديولوجيا ارتكنت للتفوق العسكري ثم سرعان ما كانت ضحية منطق القوة العسكرية..إنّ الأفكار القوية لا يتحدد مصيرها بالقوة العسكرية..ولا يوجد فكر قام على السيف وبقي حينما انكسر السيف..بينما الفكر الخلاّق يبقى حتى لما يتحوّل أصحابه إلى رماد أو يخضعوا للإبادة..انتهى هتلر وبقي نيتشه ملهما لكل الفلسفات التي جاءت بعده..حتى الآن يصعب وجود فيلسوف يتجرّأ على نيتشه فلسفيا..ومن عاقر نيتشه اجترأ على كل أصنام الفلسفة..نيتشه ليس جزء من مسارالفلسفة الغربية، بل هو انعطافة تاريخية في عالم الفلسفة..هو فجوة عميقة لا يحسن تاريخ الفلسفة الغربية إلاّ أن يبني فوقها جسرا للعبور حتى لا يسقط في نار التحدي الذي أوقدها النيتشية..كل الفلسفات تشعر بنقص في الرجولة أمام فلسفة نيتشه..لأنّها صادحة بالحقيقة بلا أقنعة سكولاستيكية..الرجل الذي فكّر حتى وجد نفسه على حافة الجنون..وهذا هو الاجتهاد..فمنتهى العقل يحيل على الجنون..وهذا ما يعني أن نيتشه استفرغ كلّ عقله بحثا عن المعنى الضّائع..

هتلر شخصية ضعيفة..اختزل القوة في البارود..واعتمد الحرب طريقا وحيدا لتكريس تفوقه..إنسان شوبنهور أي إنسان نيتشه النموذجي منتصر على أنانيته وفرديته..انه ليس "بارانوياك"..إنّه يختزل نفسه في الحقيقة ولا يختزل الحقيقة في نفسه..الرجل المتفوق الذي كان يحلم به نيتشه لم تعرفه جيرمانيا حتى الآن..لقد عادت الفلسفات الغربية بعد نيتشه لتعانق كل أشكال نفاق الوجود..لقد تجاوزت الفجوة النيتشية بكثير من الخداع والجبن وعادت لتلتقط من أرض الضحالة كل المفاهيم التي فكّكها نيتشه..لقد عادت لترتدي أقنعتها البالية...




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=81793
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 08 / 03
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29