• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : برغم الغياب...عبد الناصر حاضر في العقول والقلوب .
                          • الكاتب : محمود كعوش .

برغم الغياب...عبد الناصر حاضر في العقول والقلوب

برغم مضي 64 عاماً على تفجر ثورة 23 يوليو/تموز 1952 بقيادة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر فإنها ما تزال الثورة الرائدة والعنوان الأبرز لنضال الشعب المصري. وعلى ما يبدو فإنها ستحافظ على نبضها في وجدان المصريين عقوداً أخرى كثيرة بعدما تأكد لهم من خلال التجارب المتواصلة التي شهدتها مصر على مدار حوالي ستة عقود ونصف أنها الثورة الأم والحدث الأهم الذي غير وجه الحياة في مصر على جميع الأصعدة. فتأثير ثورة 23 يوليو/تموز 1952 تمدد لأبعد من حدود مكانها وزمانها وطال المحيط العربي والإقليمي والدولي. 
وبرغم كل المتغيرات التى شهدها العالم وتلك التي شهدتها الثورة نفسها إلا أن هذه لم تتقوقع ولم تعزل نفسها عن متغيرات العصر بل تواصلت معها وواكبتها وصححت مسارها لما في خير وسلامة المسيرة الوطنية المصرية والقومية العربية والأممية على المستوى الدولي، من منطلق حقيقة أن حركة التاريخ تحافظ على استمرارها ولا تعرف التوقف.
لا شك أن التطرق لثورة 23 يوليو/تموز 1952 في ذكراها الجديدة بكل ما حفلت به من تجربة فكرية وسياسية واقتصادية كان لها الأثر في تشكيل التيار الشعبي الناصري على امتداد خارطة الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، يستدعي ضرورة الربط المنطقي والعملي فيما بين الثورة وشخصية قائدها، الذي كان له ولنفر من الضباط الأحرار في الجيش المصري فضل تفجيرها والإطاحة بالملكية الإستبدادية وإعادة السلطة للمصريين أصحابها الحقيقيين، لأول مرة في تاريخ مصر الحديث.
ولا شك في أن مُضي 64 عاماً على قيام الثورة المجيدة ومضي 46 عاماً على غياب قائدها جمال عبد الناصر لم ينالا من وهج وبريق حضورهما، أكان ذلك على الصعيد المصري أو على الصعيد  العربي. فعقول وقلوب المصريين وغالبية العرب لم تزل مشدودة إليهما، ولم تزل تنبض بالحب والوفاء لهما. ويؤكد قولنا هذا ذلك الإقبال الجماهيري المتنامي على أدبيات ثورة 23 يوليو/تموز 1952، والفكر الناصري، والدراسات التي تناولت سيرة جمال عبد الناصر كقائد عربي تجاوز بزعامته وفكره المحيطين العربي والإقليمي. ويؤكد ذلك أيضا تصدر شعارات الثورة وصور قائدها معظم المظاهرات والتجمعات الشعبية التي تشهدها مصر والعديد من الأقطار العربية بين الحين والآخر، تعبيرا عن رفض الجماهير لحالة الخنوع الرسمي العربي والاستسلام للإملاءات الأميركية – الصهيونية، وعن رفض السياسات الاستعمارية – الاستيطانية التي تستهدف الوطن العربي، والتي تعبر عن ذاتها بشتى الصور وصنوف العدوان، وعن السعي وراء الإصلاحات التي تتواءم مع متطلبات العصر.
هذه الحقيقة تستدعي إعادة طرح السؤال الذي اعتدت طرحه كلما تطرقت بحديثي إلى ثورة يوليو/تموز وقائدها: 
ترى لماذا كل هذا الحب والوفاء للثورة وشخص قائدها، برغم كل ما تعرضا له من مؤامرات ومحاولات تشويه متعمدة ومقصودة من قبل القوى العربية المضادة والأجنبية الاستعمارية – الاستيطانية، وبرغم مضي وقت طويل على ولادة الثورة ورحيل قائدها؟ 
ولماذا تسمرت جميع التجارب العربية الفكرية والسياسية عند أقدام أصحابها وانتهت مع رحيلهم في حين بدل أن تنتهي التجربة الناصرية مع رحيل صاحبها تضاعف زخمها الجماهيري واتسعت رقعة مناصريها لتشمل جميع الأقطار العربية بلا استثناء؟
مع تفجر ثورة 23 يوليو/تموز 1952 أظهر جمال عبد الناصر براعة فائقة في محاكاة عواطف وأحلام الجماهير المصرية والعربية، وذلك من خلال عرضه لخطوط الثورة العريضة والشعارات التي طرحتها، كما أظهر براعة فائقة في محاكاة حاجات هذه الجماهير على الصعيدين الوطني والقومي، وذلك من خلال عرضه للأهداف التي حددتها. فقد كان عبد الناصر الإبن البار لتلك الجماهير، وكان المعبر عن آمالها وآلامها، كما وكانت الثورة حلما لطالما راود خياله ودغدغ عواطفه تماماً كما راود خيال تلك الجماهير ودغدغ عواطفها. والشعارات والأهداف التي تراوحت بين القضاء على الاستعمار والإقطاع والاحتكار وسيطرة رأس المال وإرساء العدالة الاجتماعية والحياة الديمقراطية ورفع مستوى المعيشة وزيادة الإنتاج وإقامة جيش وطني قوي يتولى الدفاع عن مصر والأمة العربية، جاءت بمجملها متناغمة مع أحلام وحاجات المواطنين المصريين والعرب، لأنهم كانوا ما يزالون تحت وطأة الهزيمة العربية الكبرى التي تمثلت بنكبة فلسطين 1948، وتحت وطأة الإفرازات والإرهاصات التي نجمت عنها.
صحيح أنه كان لثورة يوليو/تموز المصرية سلبياتها وإيجابياتها مثلها مثل جميع الثورات التي عرفها العالم، إلا أنه وبرغم سلبياتها فقد كان لها الفضل الكبير في التحولات الوطنية والقومية التي شهدتها مصر والوطن العربي. 
وبالرغم من عدم توفر الفرص الرحبة التي كانت ستمكن الثورة من تحقيق جميع الشعارات والأهداف التي رفعتها وحددتها وبالأخص في مجال ديمقراطية المؤسسات والفرد لاعتبارات كانت خارج إرادتها وإرادة قائدها أبرزها قصر عمريهما وتكالب القوى العربية المضادة والأجنبية الاستعمارية – الاستيطانية عليهما، إلا أنه كان لها ولقائدها الفضل الكبير في التحولات الوطنية والقومية التي شهدتها مصر والوطن العربي على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والروحية، خاصة خلال عقدي الخمسينات والستينات من القرن العشرين، حيث عرف المد القومي زخمه وأوج مجده.
ولعل من الإنصاف أن نسجل لثورة يوليو/تموز وقائدها نجاحهما في إعلان الجمهورية وإعادة السلطة لأصحابها الحقيقيين وتحقيق الجلاء وإرساء دعائم الاستقلال وتطبيق الإصلاح الزراعي وتقوية الجيش وتسليحه وإقامة الصناعة الحربية وتأميم قناة السويس وتحقيق الوحدة بين مصر وسوريا وبناء السد العالي وإدخال مصر معركة التصنيع وتوفير التعليم المجاني وضمان حقوق العمال والضمانات الصحية والنهضة العمرانية. ولاشك أن هذه منجزات كبيرة جدا، إذا ما قيست بالمسافة الزمنية العمرية القصيرة للثورة وقائدها وحجم المؤامرات التي تعرضا لها. فالتجربة الثورية الناصرية لم تكن بعد قد بلغت الثامنة عشر من عمرها يوم اختطف الموت قائدها وهو يؤدي دوره القومي دفاعا عن الشعب الفلسطيني وقضيته وثورته. إلا أنها وبرغم ذلك، استطاعت أن تفرض ذاتها على الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج من خلال طرحها مشروعا نهضويا قوميا عربيا حقيقيا، لطالما حلمت به هذه الجماهير وأحست بحاجتها الماسة إليه، ومن خلال حمل قائدها أعباء قضايا الأمة والتعبير عن آمالها وشجونها حتى اللحظات الأخيرة من حياته.
لقد مثلت ثورة 23 يوليو/تموز 1952 نتاج مرحلة تاريخية بالغة التعقيد عرفت جملة من المتغيرات الإقليمية والدولية التي فرضتها نتائج الحرب العالمية الثانية، مثل بروز الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي (الذي كانت تشكل روسيا الحالية الجزء الأهم منه والأكثر تأثيراً فيه) كقوتين عظميين، ومثل حدوث نكبة فلسطين وولادة الكيان الصهيوني العنصري في قلب الوطن العربي. لذا كان بديهيا أن تتشكل مع الثورة الحالة النهضوية القومية الوحدوية البديلة للواقع العربي القطري المفكك والمشرذم. وكان بديهيا أن تتشكل معها الحالة الثورية الوطنية التقدمية البديلة لحالة التخلف والإقطاع والاستبداد والرأسمالية الغربية والشيوعية الشرقية، من خلال بروز عبد الناصر كواحد من الأقطاب العالميين للمثلث الذي أسهم في ولادة معسكر الحياد الإيجابي الذي تمثل بمجموعة دول عدم الإنحياز.
فعلى مدار 46 عاما أعقبت رحيل عبد الناصر، منيت جميع التجارب الفكرية والسياسية العربية بالفشل الذريع، لأنها لم تستطع تشكيل البديل الذي يحظى بثقة الجماهير العربية وتأييدها، بل على العكس من ذلك قادت الأمة إلى العديد من الخيبات المؤلمة. وقد أخذ على تلك التجارب منفردة ومجتمعة أنها بدل أن تتناول التجربة الناصرية بوضعيتها الثورية وشخصية قائدها الفذة بالتقييم المنطقي المجرد والنقد الموضوعي والبناء على ضوء نجاحاتها وإخفاقاتها والظروف الداخلية والإقليمية والدولية لغرض تصحيحها والبناء عليها، إختارت مواجهة الجماهير بمفاهيم جديدة إتسمت بروحية إنقلابية تصادمية وتغيرية، الأمر الذي أدى إلى لفظ الجماهير لتلك المفاهيم والعمل على إسقاطها وبقائها على وفائها للثورة وتجربتها وقائدها.
أليوم ونحن ننظر بحزن وألم إلى ما آلت إليه الأوضاع العربية بفضل الخريف العربي الذي لم تزل رياحه المدمرة تعصف بالعديد من البلدان العربية، أجدد طرح السؤال الذي لطالما طرحته من قبل: 
ترى ألم تحن لحظة الحقيقة التي يفترض معها أن يعترف المصريون والعرب بحالة التميز التي شكلتها ثورة 23 يوليو/تموز 1952، بتجربتها وشخص قائدها، والتي يمكن أن يخطوا معها خطوات إلى الأمام تحفزهم على تقييمها ونقدها بشكل بناء وموضوعي لأخذ العبر من نجاحاتها وتصحيح إخفاقاتها ووضعها موضع التطبيق العملي والبناء عليها، والعمل الجدي لوقف تدمير الوطن العربي بدعاوي الديمقراطية المزيفة و"الربيع العربي" الكاذب وإخراجه مما هو عليه من تفكك ووهن وضعف واستكانة، وتحقيق الربيع العربي الحقيقي الذي لطالما انتظرناه !!
 
يوليو/تموز 2016
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك
kawashmahmoud@yahoo.co.uk

 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=81224
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 07 / 21
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29