• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : أزمة التشجير في مدننا .
                          • الكاتب : لطيف عبد سالم .

أزمة التشجير في مدننا

 تحدد الادارة الحديثة العملية التخطيطية بثلاث مراحل مترابطة. هي وضع الخطة وتنفيذها، ثم متابعتها. وتشير ادبيات التنمية الاقتصادية الى ان مهمة تنفيذ الخطة اصعب بكثير من عملية اعدادها. ومن هنا تتضح لنا اهمية دور المسؤول بمختلف العنوانات في تنظيم مفاصل بيته الوظيفي وتحديد مهماته على وفق المسارات التي تحددها استراتيجية التنمية الوطنية.وهو الأمر الذي يستلزم من القيادات والادارات اشرافاً مباشراً على مختلف مراحل تنفيذ نشاطات منظماتهم وبرامجها ؛ لضمان سلامة اداء اجهزتها التنفيذية والحيلولة دون حصول اختناقات قد تفضي الى شلل خططها وفشل مشروعاتها، فضلاً عن الاساءة الى مصالح البلاد وثرواتها.
ويصح القول ان ضخامة مشكلات البلاد الموروثة من مخاضات المراحل السابقة وتزايد مخاطر تداعياتها في المرحلة الانتقالية التي اعقبت التغيير السياسي الكبير الذي شهده العراق في التاسع من نيسان عام 2003 ، لا تبرر اغفال القيادات الادارية مهمة مطابقة ما ينفذ من مشروعات مع ما مخطط لها. إذ يستوجب حسن تنفيذها ايلاء الادارات مسألة مراقبة اداء تنفيذ كافة مراحلها اهتماماً خاصاً.
ومن جملة الاخفاقات التي ميزت نشاطات بعض الدوائر الحكومية في المدة الماضية التي اعقبت انهيار النظام السابق، والتي خيبت آمال الجمهور الواسعة بتحقيق انجازات عمرانية وخدمية ترتقي بنتائجها الى مستوى طموحات من اكتوى بشظف العيش من ابناء هذاالشعب الصابر هو النشاط الخاص بزراعة فسائل النخيل والاشجار والشجيرات في حدائق البلاد العامة وساحاتها وجزرات طرقها الوسطية ومداخل المدن وشوارعها وواجهات الدوائر والبنايات الحكوميةوغيرها من المواقع. إذ اقتصر هذا النشاط في اغلب المساحات التي جرى تشجيرها على فعالية غرس النباتات من دون ايلاء الاهتمام بالمتطلبات الاساسية التي تؤمن المناخ الملائم لنموها وتكاثرها بشكل سليم. وفي مقدمة ذلك اخفاق الجهات المعنية ، وبخاصة الدوائر البلدية باعداد وتهيئة الترب الملائمة لاقامة هذه المشروعات، وفشلها بمهمة انتخاب اصناف النباتات التي بمقدورها مواجهة قساوة الظروف المناخية، فضلاً عن تنامي مشكلة الارواء التي تعد اكثر العوامل فعالية في الاطاحة بالنتائج المفترض تحقيقها من جراء اقامة فعاليات هذا النشاط  الحيوي بعد ان تسببت بمواجهة النباتات لقدرها في ظل الجفاف الذي سلبها عنصر الحياة . وهو الأمر الذي افضى الى الحيلولة دون تحقيق نتائج ايجابية مؤثرة على صعيد التوسع باقامة المناطق الخضراء فلا غرو ان تتحول النباتات بعد ايام من غرسها الى شواخص محطمة الاغصان تهز مشاعر ناظرها وتثير استيائه.
وليس ادل على بشاعة هذه الظاهرة التي شكلت حضوراً واسعاً بمختلف مناطق البلاد من فشل مشروع تشجير مدخل مدينة بغداد من جهة محافظة واسط على الرغم من الجهود والاموال ومختلف الامكانيات التي جرى توظيفها لتحقيق هذه المهمة التي كان مخططاً لها الاسهام بتطوير مدخل العاصمة الجنوبي وجعله واحة خضراء تليق بمكانة حاضرة الدنيا التي توصف مجازاً باسم (ام العراق) 
بغداد لا اهوى سواك مدينة                                              ومالي عن ام العراق بديل
وعلى وفق النتائج العملية التي افرزها مشروع تشجير وتطوير مدخل مدينة بغداد الجنوبي ،يمكن القول ان ما استنزف من جهود بشرية ومادية وفنية لم تحقق سوى مساحات جرداء تنتصب في اجزاء منها كتل خرسانية زرقاء اللون تشبه الى حد بعيد المغتسلات يعتقد انها نافورات ماء ، فضلاً عن تقييد الجزرات الوسطية باسيجة حديدية كان لعشوائية تشكيلها نصيباً كبيراً في عدم اهليتها لعكس اية صورة جمالية او ملامح تراثية تعبر عن حضارة العراق وتأريخه ، فضلاً عن التشوهات التي اصابت هذه الاسيجة بفعل حوادث السيارات والاهمال. وبصورة عامة لم تفض هذه التجربة الى تجميل الفضاء بلوحات خضراء زاهية تلونها ما اكتنزت ثمار نخيلها واشجارها وشجيراتها.
ولا يخامرنا شك في ان الامكانيات التي تطلبها اقامة هذا المشروع كان بالامكان استثمارها بصورة اكثر واقعية في تحقيق برامج ومشروعات بوسعها الاسهام في التخفيف من تداعيات الازمات التي تفشت في البلاد والتي اتسعت مدياتها الى حدود شكلت تهديداً لامن المجتمع واستقراره في بلد ارهقت الحرب وتداعياتها ومختلف صور العنف بناه التحتية وانسانه على السواء ، فاصبحت مقومات بنائه خاوية تستلزم الحرص في استثمار الموارد المادية والبشرية والفنية والتقنية التي من شأنها تعزيز مسيرة البناء الاجتماعي والاقتصادي وترسيخ مقوماته التي تضررت بفعل المحن التي شهدتها البلاد، وبخاصة الحصار الاقتصادي الذي استمر اكثر من عقد من الزمان والذي اسهم بانهاك مقومات الدولة العصرية وعزل البلاد عن محيطيها الاقليمي والدولي.
وتصديقاً لما ذهبنا اليه ، فإن ما غرس من نخيل وشجر وشجيرات على طول مسافة مدخل العاصمة الجنوبي يعبر بصمت عن حزن عميق ومحنة تدمي القلوب وتوقف الاحساس بالحياة.إذ لم تعد الاشجار ظلاً لمن يلوذ بها هرباً من حر الصيف الفائض ولون اغصانها لم يكن عنواناً للحياة ، وعمتنا النخلة التي اتعبتها مشكلات البلاد في العقدين الاخيرين من القرن الماضي لم يكن بوسعها الشموخ مثلما كانت باسقة بعد ان تسببت شحة الماء بالضغط على عروقها والاخلال بنموها.
ولعل من المضحكات المبكيات ان يكون الماء سبب موت هذه الكائنات الحية الضعيفة المسالمة في بلد يعني اسمه شاطئ الماء، فضلاً عن اشارة المؤرخين له بأسم أرض السواد.
لقد اخفقت الجهات المعنية بارواء ما زرع من نخيل واشجار وشجيرات في فضاء بوابة بغداد الجنوبية التي شكل موقعها القريب من نهر ديالى خطاً موازياً لدجلة الخالد، فأسهمت بصيرورتها جذوعاً وسيقاناً جرداء خاوية لا تملك ادنى مقومات الصمود بوجه الظروف المناخية ، فاحد ودب اغلبها ولم تعد تملك ما يؤهلها للنفوذ بعمق في صميم الانسان المتعطش لاستلهام ما تميز من صور الحياة . واكاد اجزم انه لو قدر للسياب ان يطلع على نخيل مدخل بغداد الجنوبي لما انشدت قريحته عيناك غابتا نخيل ساعة السحر.
ومن المهم الاشارة هنا  الى ان ما جرى احصائه من نخيل ميت في فضاء مدخل بغداد الجنوبي عبر نافذة السيارة تجاوز الاربعمائة نخلة من النوع الذي جرى قلعه من اماكن اخرى ونقله الى هذا الموقع. وليس من شك في ان هذا الواقع يشكل خسارة كبيرة لاحدى ترواتنا الوطنية في وقت تسعى فيه ادارة القطاع الزراعي لاكثار نخيلنا والمحافظة على اصنافه النادرة والمميزة وتجهد للحيلولة دون اختزال اعداده ، فضلاً عن تضييع فرصة ثمينة لتجميل مدننا وشوارعنا والاسهام بالمحافظة على بيئتنا التي تزايدت مصادر تلويثها.
واذا سلمنا بحقيقة ان مدن البلاد وبخاصة مراكزها لم تكن كما كانت عليه في ستينيات القرن الماضي ، حيث كان نخيلها وسدرها وتوتها يفئ على من يمر بشوارعها وأزقتها،وورود حدائقها تبعث اريجاً يتسلل بعذوبة الى صدور مريديها،فان اطلال كثير مما اقيم من مساحات خضراء بمختلف مناطق البلاد  ومنها موضوع بحثنا شكلت مشهداً  يجرد الحياة من قيمها وجماليتها واسانيتها.
وعلى وفق ما تقدم ،فان الجهات المعنية ملزمة بمراجعة خططها بالاستناد على النتائج المتحققة من تنفيذ برامجها ومشروعاتها لتدارك الاخفاقات التي سيجري بحثها من اجل تلافيها في برامجها المستقبلية......
باحث وكاتب 
 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=8082
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 07 / 27
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28