• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : هذه فلسفتي 14 .
                          • الكاتب : ادريس هاني .

هذه فلسفتي 14

تبدأ جريمة قتل الأب بمحاولة قتل الطفل في ذواتنا..الطفل الذي يمثّل الأب الروحي الحقيقي لكهولتنا..الطفل الذي يعني مرجعية كل شيء مختلف في حياتنا..مختلف وخارج الرتابة التي يفرضها العقد الاجتماعي للكبار..العقد الاجتماعي الذي يقتل فينا اللعب..المرح..البراءة..ويولّد في داخل كل كائن رصيدا هائلا من النفاق..بقاء الطفل متربّصا خلف خدعة الرشد هو ضامن استمرار الحياة..فمن دون الطفل لا يمكن ان نحافظ على جدّية اللعب..لن نستطيع أن نثور..لأنّ الثورة تحتاج إلى روح الطفولة..لأنّ تغيير نظام الكلمات والأشياء يتطلّب شجاعة بحجم الطفولة ..الأمم التي لا تعرف كيف تدبّر صيرورة الطفولة المندمجة في حياة المجتمعات والأفراد تساهم في مسخ الموارد البشرية..فالإبداع نفسه يتطلب قدرا من روح الطفولة..والحضارات مدينة لروح الطفولة..فالطفل هو صانع الحضارات..والكهول هم مخربوها..بعض أسئلتنا الفلسفية يجب أن تتحلّى بروح الطفولة..كم يضحكني حال ذلك الكهل الذي يضع رجلا على رجل ويزعم أنه أتى من رشد التفكير ما مكنه من إبداع مقولات جديدة..يضحكني أكثر من يعتبر أنّ مرحلة الرشد الفكري هي القطع مع روح الطفولة..ربما نستعمل ذلك مجازا وما أكثر مجازاتنا الكاذبة حينما تقارعها طبائع الأشياء، ولكن أسئلة الطفولة هي الأعمق والأقوى دائما.. وحده الطفل في عالمنا يتساءل ويمعن في السؤال..بينما الكهول يشعرون بالإشباع ويلتهون في الأجوبة البائسة..الفيلسوف الحقيقي يبدأ مشواره قبل بلوغ النضج..النضج بالمعنى البيولوجي للعبارة..من ديكارت إلى كانط إلى نظائرهما ستكتشف أنّهم قدموا روائعهم في بداية العشرين أو قبل العشرين..قبل العشرين في 16 و17 سنة وهو السن الذي يعتبر في تصنيف الأمم المتحدة اليوم بأنه عمر الأطفال....وتأمّل ما فعل ابن عربي بابن رشد في حكاية الطبيب مداوي الكلوم..من يا ترى يريد أن يمحق روح الطفولة من عالمنا؟..من خبراتنا؟..ذلك الكائن الأول الذي أسّس لمغامراتنا في الوجود ولا يزال يراقب عهدنا له بالبراءة والشجاعة من أجل الوجود..من يا ترى هذا "الكهلوفوني" الذي يزعم أنه برطانته تحرر من روح الطفولة ثم يكذب على الرأي العام باسم البراءة والجدّية؟ أصلا ليس العقد الاجتماعي هو الضامن لبقاء المجتمعات وتطور الحياة الجماعية، بل إنّ روح الطفولة بتمردها المستدام هي التي تخرم المنظومة القاحلة للعقد الفاوستي الجبان لتغدّي الحياة بكثير من الروح والطراوة والتمرد.. حتى في الأديان، لن يدخل ملكوت الرّب عبوس قمطرير متصبّر أو أفعى رقطاء..لن يدخلها إلاّ من أدرك الفطرة وهي هنا لها مصداق في روح الطفولة والبراءة..إنّ الطفل في الشرع نفسه مكلّف..ولا تكليف من دون عقل..في القسم الأول من حياة الأطفال يرفع القلم عن كائن في طور تجربة الوجود الأولى، لكن في القسم الثاني من طفولته هو مكلّف نحو تكليف..تماما كما المرأة مكلفة مثل الرجل مما يؤكّد على تساوي العقل الذي به تثبت المسؤولية....فالذي يكبر فينا ليس طفولتنا بل المفروض أن الذي يجب أن يكبر فينا هي تجاربنا..والتجارب تنمّي الطفل وتجعله مفرطا في طفولته، أي في تساؤلاته وتمرده وعنفوانه..ليست التجارب فرصة لقتل الطفل فينا بل هي فرصة لجعله يكبر فينا ومعنا..أليس يسوع المسيح من قال:(وقال الحق أقول لكم أن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السماوات. فمن وضع نفسه مثل هذا الولد فهو الأعظم في ملكوت السماوات)..إنّ الجانب الذي تمثله الباترياركية في مجالنا العربي هو حينما كانت قامعة لعنصرين: الطفل والمرأة..يتكرر في نصوص القدامى طرّا من أفلاطون إلى ابن سينا إلى ملا صدرا حتى غوستاف لوبون حكم مسبق عن الشرائح الأقل تعقّلا ويذكرون في صيغة تكاد تكون مكررة: كالأطفال والنساء والمجانين...والحقيقة أنّ هذا التصنيف هو تاريخي وله علاقة بالمسارات السوسيو ثقافية التي قطعتها المجتمعات حيث يختزلون العقل في الخبرة..ومن الطبيعي حين تفتقد المرأة الخبرة لأسباب تتعلق بأنماط الانتاج والثقافة فلن تحسن غير التفكير كالأطفال وكالمجانين..غير أنّ العقل ومع حاجته القصوى للخبرة هو أوسع من تصنيف القدامى..الباترياركية تقصي الطفولة والمرأة..مع أنّ الطفولة والمرأة معا يسخران من الجنون الأكبر الذي تمثّله الباترياركية باعتبارها ذكورة متوحّشة وأبوية متسلّطة..لا منقذ للعالم غير فعل التطفيل والتأنيث ..ولكنه تطفيل حقيقي يذكيه فعل التّمرد الأقصى على الرتابة، وأيضا تأنيث لا يتم عبر تواطؤ بين مستخنثي الرجال أو مستذكري النساء في عقد حيو_فاوستي لحضارة أدمنت الكذب والتفاهة، بل هو تواطؤ بريئ بين الطفولة والأنثى في مفصل تاريخي للبراءة..الرجل الحقيقي من لم يغتال طفولته أو من يحاول أن يحول الحياة إلى مسرحية كاذبة وليس لعبة جادّة محاطة بروج الطفولة ونضالها النّقي..إنّ الطفولة هي الشيء الأكثر عصمة في حياة البشر، لو أنهم أدركوا معناها العريق في تاريخ لا زالت تزيّفه مسوخ الكائنات التي تتظاهر بالرشد وما هي بواصلة إلى مداركه..إنّ المخرج التاريخي من ورطة النّوع هو محاولة إعادة اكتشاف لروح الطفولة في عالم أفقدته شيخوخته الأمل في الحياة..
 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=78843
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 05 / 24
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28