• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : هذه فلسفتي 11 .
                          • الكاتب : ادريس هاني .

هذه فلسفتي 11

 أيتها الفلسفة التي تبدل جهدا مضنيا فيما لا يستحق العناء لإعادة نظم وجود تدلّى حدّ اللاّمعنى..رويدك..فما قد تدلّى من الوجود حدّ المعيش هو محض شهقة من وجود أكبر لا زال الحنين يطلبنا لمعانقة بعض من إشراقاته..وتماما كالشعر حينما يصف صوت الحوافر والمارّة فإنّ فلسفة الوجود إن كانت ستهيم في تفسير تجشّؤ (متواجد)، وهو اللفظ الذي أطلقه على مفتعل لقلق وجودي بلا موضوع، أو تفكيك مركّب هشّ من الألفاظ، فإنّها ستصبح شاهد زور على انحطاط الوجود والموجود..ولا غرو أنّ بدأ الانحطاط هو من هنا حيث بلاء الوجود..وأي فعل ونشاط في التفكير والمشاعر إن لم يرم الرّقي الوجودي وبالوجود فهو آيل إلى تكرار الضحالة في الوجود..كما في الشعر الذي لم يبلغ الذائقة الراشدة لخبرة الوجود الأكبر أو الفلسفة التي عانقت السوسيولوجيا حتّى باتت تفكيرا في الأطعمة والأشربة لا في ما به يمنح الوجود جدواه..حارت الفلسفة الحديثة في سؤال الوجود ولا أخالها تمكّنت من إبداع ما هو أبعد من الرّغبة بمدلولها السيكولوجي..كان هيدغر بمثابة نهاية تاريخ الفلسفة الوجودية والباقي ما هو إلاّ شروح في متنه الظاهر والخفي .. ولا أخال أنّنا سنجترح أمرا آخر سوى بناء على مكتسبات ما آلت إليه فينومينولوجياه..هذا يعيدنا إلى النزعة الهيغلية في التأريخ العرقي للفلسفة وأنّ هذه الأخيرة بالفعل هي حدث أوربي وتحديدا جرماني..أمّا الفلاسفة الفرنسيون فهم حكاية غريبة، ربما هم أصلح للفضول الإثنولوجي منه للتفكير الفلسفي..دعك من كلّ هذا الرصيد الكبير من التجربة الفلسفية، ولكن الحدث الفلسفي الجرماني ظلّ هو الحاكم على مصير الفلسفة في أوربا..وكما قلنا مرارا إنّ سارتر تلميذ يتقن نقل المتن والتحشية عليه من أستاذه الذي لا قبل له به: مارتن هيدغر..لا أخفي أنّ ثمة إثنان خدعاني: جون بول سارتر، وعبد الرحمن بدوي..ليس خداعا بالمعنى الأخلاقي للعبارة بل لأنّ ذلك هو قدر التفاوت في التجارب والأعمار وقدر التمركز الجيوفلسفي وثقافي..بدا في يوم من الأيام سارتر أيقونة الوجودية قبل أن أكتشف هيدغر لأخلص إلى نتيجة مذهلة، هي أنّ سارتر ليس فقط مدينا في كل عجره وبجره الوجودي لهيدغر، بل لأنّه افتعل تمسرحا فلسفيّا يذكّرني اليوم ، مع الفارق طبعا، ببرنار هنري ليفي..الفارق هو أنّ سارتر لم يكن بإمكانه أن يقدّم عروضا جميلة، كما أنّه مثابر ومطلّع بخلاف الغلام ليفي..ولكننا نتحدث عن شكل من التمسرح الفلسفي الذي يجعل سارتر وكأنه يقدّم أطروحة جديدة غير مسبوقة في فلسفة الوجود..إنها النسخة المعدّلة لوجودانية هيدغر لم يفعل سوى أن أقحم فيها نظرية الفعل ليستدرجها نحو الانحطاط الفرنسي..أما عبد الرحمن بدوي الذي قدم رؤية سماها نظريته في الوجود، فقد كانت ترجمة أمينة لهيدرغر وسارتر..هنا أتساءل حول مدى انسجام هذه المفارقة: أمين في النقل وخائن في النقل..لقد أوهمونا بأنهم أبدعوا جديدا بينما الحقيقة غير ذلك..ولهذا اللون من التكرار والتمحّل والاصطناع أمثلة رائجة في كل أجيال أوربا وكذا العرب..كان الوجود عازفا عن التحقق الزماني..وكان الزمان هاربا من الوجود..حاول هيدغر أن يلتقط الزمان ويعيده إلي بيت الطاعة الوجودي..حسنا فعل..فمن ذا الذي يستطيع أن يستغني عن الوجود ولو كان ذلك هو الزمان نفسه؟..أن أكون أو لا أكون هي أيضا إشكالية متى أكون..وكيف أكون هي متى أكون...إنّ شؤون الوجود على تعددها هي واحدة..بالنسبة لهيدغر الذي ارتقى في فهمه للتاريخ أدرك أنّ الزمان لا يمكن القبض عليه خارج خبرة الوجود نفسها..إنّه هناك..كوجود..وكزمانية أيضا..إن كان سارتر قد خدعنا ، وإن كان عبد الرحمن بدوي قد خدعنا، فلا أخفي أن هيدغر هو الآخر قد خدعنا، ذلك لأنّ فكرة الدازاين نفسها ولدت داخل نصّ يعود إلى القرن السابع عشر الميلادي بقرية كاهك، أي بعد أن دخلنا عصر الحداثة، حين كان الحكيم صدر المتألهين الشيرازي يعاقر ضربا من التفكير الفلسفي متجاوزا فلسفيا لديكارت ، ملهما لفلسفة طبيعية ما بعد نيوتونية..خدعنا هيدغر لأنّه لم يحلنا على مرجعياته الخفية..كان أحرى أن يفعل مثل سلفه نيتشه حينما كتب يوما: هكذا تكلّم زرادشت..أو كما فعل مونتسكيو في: "رسائل فارسية " على الأقل..كان أحرى أن يكتب: هكذا تكلم ملاّ صدرا..غير أنّ من اكتسب شامّة فلسفية سيدرك أنّ اجتماع هذه الأركان المؤسسة للحكمة المتعالية في المتن الهيدغيري فجأة ليس من قبيل الصدفة..وليس فعل تخاطر (Telepathy) بريئ..بل هو فعل سرقة أدبية موصوفة لها أسبابها في النزعة الهيغلية ل للتورخة العرقية للفلسفة..فآخر صيحة في حكمة الوجود خرجت من "الكهك" وليس من "برلين"..وعليه، لا شكّ أنّ لكل فلسفة سياقها التاريخي والإشكالي..والدازاين الهيدغيري يستبعد كل هذا السياق التاريخي والإشكالي..وذلك لأنّ الدازاين الصّدرائي يتسامى بالوجود ويمنح لتاريخيته أصالة من جنس أصالة الوجود الذي بها تنهض ماهيته ومصيره.. هل حقا كان بإمكان هيدغر أن يحترف الموقف الماركسي نفسه حيال هيغل وجدله بحيث يعلن حركة تصحيحية قوامها قلب الدازاين الصدرائي على رجليه بعد أن كان يمشي مكبّا على وجهه؟ لو كان بمقدور هايدغر فعل ذلك لفعله، ولكنّ قدر التاريخانية العرقية الهيغلية التي جعلت الحدث الفلسفي لا يخرج سلبا أو إيجابا عن حدود العقل الجرماني..هنا يتضاءل العقل الفلسفي الجرماني أمام العقل الأصفهاني..مما يستدعي إعادة كتابة تاريخ الفلسفة بعيدا عن النزعة الهيغلية..نحن في حاجة إلى إعادة قراءة الدازاين الصدرائي كمرجعية للدازاين الهيدغيري..تاريخ الفلسفة هو أكثر موضوعا للتحريف من التاريخ السياسي.. في عملية تحيين للدازاين الصدرائي قد نقدّم وصفة جديدة وخلاّقة للدازاين الهيدغيري..لا تجعل منطق التاريخانية يؤثّر عليك وأنت تسمع عن هذه الحقيقة، فالحكمة الصدرائية لا سيما في الوجود هي من يحدّد تاريخها الذي كان من المفترض أن يظلّ زمانا متجدّدا على أصولها التي لا نهاية لتاريخها..فهي ما سيبقى من رمق وجودي حينما تنقرض أوهامنا عن تاريخانية المقولات الشاذّة عن الوجود...
 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=78674
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 05 / 20
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29