• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : وداعاً طرابيشي .
                          • الكاتب : د . رائد جبار كاظم .

وداعاً طرابيشي

 في الوقت الذي تزداد فيه خطوب الدهر، ومدلهمات الزمن، وضنك العيش والحياة، من كل مكان على الانسان العربي، جراء سوء الممارسة السياسية، والفشل الاداري للحكومات والاحزاب والتيارات، وضياع الثروات، وغياب الخطط والاستراتيجيات الاقتصادية والامنية والادارية في كثير من الدول العربية، وسيطرة الحركات والجماعات الارهابية والتكفيرية المتطرفة على بنية الفكر السياسي والاجتماعي والحياتي لبعض الدول والمجتمعات والافراد، وتسيير عقول كثير من الناس نحو التطرف والعنف والكراهية، والشحن الطائفي والعرقي والمذهبي المتزايد، ودخول مجتمعاتنا في عصر التدهور والانحطاط والتخلف، من جراء تلك الممارسات، وغياب أي نور او تنوير في الافق، في الوقت الذي يشهد فيه العالم باسره لحظة تحول كبير في مجالات الحياة والثقافة والعلم والفكر، في هذا الوقت العصي العصيب الذي اشد ما نكون نحن بامس الحاجة اليه الى مفكر تنويري، او الى جماعة من المفكرين التنويرين، لتغيير نسق ونمط الافكار المشوهة والكريهة المنتشرة في عالمنا اليوم، وقد كان المفكر جورج طرابيشي، الذي رحل عن عالمنا بتاريخ 16/3/2016، احد اعلام الفكر العربي المعاصر، الذي سعى من خلال فكره التنويري الى التواصل من خلال ما طرحه من مشروع فكري الى تغيير ذلك النمط الراكد والمتخلف من طرق التفكير والحياة في عالمنا العربي، وقد تمثل ذلك من خلال ما نشره من افكار وطروحات نقدية وتحليلية جريئة وفاعلة في الوسط الفكري والثقافي والاجتماعي العربي المعاصر، وتجسد ذلك المشروع الفكري التنويري في مؤلفاته وكتاباته وترجماته، الفلسفية والفكرية والادبية والنقدية، التي انتشرت في الاوساط الفكرية والثقافية العربية منذ زمن طويل، وما يقارب النصف قرن من الزمان.
لقد عاش طرابيشي مدة زمنية حرجة من تاريخ العالم عموماً والعالم العربي خصوصاً، اذ كانت ولادته في العام 1939 وهو العام الذي بدأت فيه الحرب العالمية الثانية، والتي تخلل العالم منذ اندلاع هذه الحرب الى يومنا هذا مجموعة كبيرة من الاحداث والصراعات والتصدعات، على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي والفكري سواء العالمي منه او العربي، كما ان تلك الحقبة الزمنية كانت صاخبة بالافكار والتيارات الثقافية والفلسفية والادبية والفنية، الى جانب الاحداث السياسية والاجتماعية الكبرى التي حدثت في العالم، وكان الحراك الثقافي والفكري على اوجه في العالم العربي، الذي خرج من حقب تاريخية مظلمة وجمود فكري مهول، في ظل سيطرة الاحتلال العسكري المتوالي على الدول العربية، مشرقاً ومغرباً، تمثل بالسيطرة العثمانية الطويلة على مجتمعاتنا، وبالسيطرة الاوربية ايضاً، واللذين شكلا لمدة طويلة من الزمن عائقاً وسوراً كبيراً للفساد والتخلف والانحطاط على العقل العربي، ولكن بفضل عقول تنويرية واصلاحية ناهضة وفاعلة حاولت ان تنقل العقل والانسان العربي من الظلمة والانحطاط الى النور والتقدم، وخاصة بعد ان احتك هؤلاء المفكرين بالعالم والعلم الغربي المتطور، والذي قضى فيه الفكر الغربي شوطاً كبيراً في محاربة التخلف والهمجية والانحطاط الذي مر به العقل والانسان الغربي، والذي تغير نحو الافضل والاحسن والارقى بفضل عقول وافكار وفلسفات مجموعة كبيرة من العلماء والفلاسفة والادباء، الذين غيروا وجه العالم الغربي ونقلوه من شكل الى آخر، وذلك بفضل ثورة العقل والعلم والنهضة التي قاموا بها ضد الجهل والتخلف والهمجية السياسية والفكرية والدينية والاجتماعية، التي عانى منها الفرد والمجتمع الغربي لحقب مظلمة طويلة، راح ضحيتها خيرة العلماء والفلاسفة والادباء في تلك المدة، ولكنه تم القضاء عليها بفضل ثورة العقل، التي اجتاحت اوربا بالكامل.
تلك الانوار والافكار والفلسفات لم يحجبها شيء من ان تصل الى العالم العربي، وانما حاول الكثير من المفكرين والمثقفين والمصلحين ممن تأثر بأفكار الغرب ومنجزات تلك الحضارة من محاكاتها وترجمتها والسعي لنقلها الى العالم العربي وتغيير نمط الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية نحو الافضل، ولكنهم اصطدموا بحواجز وسواتر كثيرة اعاقت مشاريعهم الفكرية من الانتشار واحداث عملية الوعي وتغيير نمط التفكير، كما ان هناك فرقاً كبيراً في طبيعة تفكير وحياة وسلوك الفرد والمجتمع العربي عن الفرد والمجتمع الغربي، وقد كان هذا السبب عاملاً معيقاً في احداث عملية التغيير الكبرى في طريقة تفكير ووعي الفرد العربي، مما شكل خيبة امل وعائقاً كبيراً في مشروع أي مفكر يقوم به. فضلاً عن الولاءات الايدلوجية الضيقة التي ينتمي لها هؤلاء الافراد والتي يصعب عليهم مغادرتها نحو عوالم ثقافية وفكرية ارحب، انهم قد ألفوا ماهم عليه من تقليد وجمود وعبودية، فضلاً عن عامل التجهيل الذي تقوم به سلطات سياسية ودينية مستبدة ومنحرفة عن جادة الصواب مستفيدة من استمرار الافراد والمجتمعات بغرقها في بحر الجهل والتخلف والظلمات.
في تلك الحقب التاريخية الصاخبة والمثيرة على كافة المجالات، عاش طرابيشي، سيما وان البيئة الشامية، وسوريا تحديداً مسقط رأسه، كانت تمر باحداث وتيارات فكرية وثقافية وادبية عديدة، نشط في ظلها طرابيشي، طالباً للعلم ودارساً ومثقفاً واستاذاً ومفكراً واديباً وناقداً ومترجماً، وقد غادرها الى لبنان مدة من الزمن، ثم سافر الى فرنسا وبقى فيها حتى وافته المنية في باريس في السادس عشر من آذار.
مشروع طرابيشي الفكري مشروع كبير، وذو طابع نقدي بامتياز، وقد كان جل دراسته واهتمامه ونقده منصباً على العقل العربي، وعلى مصادره المعرفية التراثية التاريخية، التي استقى هذا العقل جل معارفه وثقافته وعلومه منها واستند عليها في بناء منظومته الفكرية والثقافية والاجتماعية والدينية، وقد تجسد ذلك المشروع الفكري الهائل لطرابيشي من خلال مؤلفاته وكتاباته التي حملت الكثير من الهموم والطروحات والافكار التي عالجها، وقد حملت تلك الكتابات روح كل حقبة زمنية مر بها طرابيشي من مراحل فكره المتعددة، من نزعة قومية وتوجه نحو الفلسفة الوجودية، الى الغوص في مدرسة التحليل النفسي ومدرسة فرويد النفسية، الى الفلسفة الماركسية، الى كتاباته الادبية والنقدية، الى قراءته النقدية للتراث العربي ومحاولة تخليصه من نزعته الصنمية وعبوديته الطويلة للاستبداد، وايقاض العقل العربي من سباته الدوغمائي وايقاضه من استقالته وتحقيق استقلاله، والوصول به الى مديات ارحب واوسع في هذا العالم الساعي نحو التقدم في كل خطوة يخطوها، فمتى يصل الانسان العربي الى مصاف العقل الغربي الذي قطع اشواطاً طويلة نحو العقل والعقلانية وتصحيح مساراته الفكرية والاجتماعية والحياتية، من خلال انصاته لصوت العقل والعلم والقانون، وسعيه الدؤوب نحو انسنة كل شيء من خلال تعاملاته اليومية والاجتماعية والثقافية.
لقد اطل علينا طرابيشي بطروحاته الفكرية الجادة من خلال مجموعة كبيرة من كتاباته تمثلت في: 
1ـ نظرية العقل العربي: نقد نقد العقل العربي ج1.
2ـ إشكاليات العقل العربي: نقد نقد العقل العربي ج2.
3ـ وحدة العقل العربي: نقد نقد العقل العربي ج3.
4ـ العقل المستقيل في الإسلام: نقد نقد العقل العربي ج4.
5ـ مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة.
6ـ مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام.
7ـ من النهضة إلى الردّة: تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة.
8ـ المثقفون العرب والتراث، التحليل النفسي لعصاب جماعي.
9ـ من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث.
10ـ المعجزة أو سبات العقل في الإسلام.
11ـ هرطقات 1: عن الديموقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية.
12ـ هرطقات 2: العلمانية كإشكالية إسلامية- إسلامية. 
هذا بالاضافة الى العشرات من الكتابات والدراسات والترجمات الادبية والنفسية والفلسفية التي علت المكتبة العربية.
لقد غادرنا طرابيشي ونحن بأمس الحاجة اليه والى المئات من المفكرين الذين ترنو عيوننا صوب فكرهم وطرواحاتهم، لانقاذنا من نزعتنا الشريرة، والسير بنا نحو صلاحنا وخيرنا، والعمل على احياء نزعتنا الانسانية، وتطليق كل نزعة تسير بنا نحو الشر والعنف والتطرف والكراهية.
لقد غادرنا طرابيشي وعينه ترنو على سوريا وشعبها الممزق والمسحوق تحت لهيب العنف والحروب والكراهية، وهو الذي غادرها ومات بعيداً عنها في بلاد الغرب والغربة.
لقد غادرنا طرابيشي وهو ممزق الاوصال على الوضع العربي، ذلك الوضع المأساوي الذي تصنعه ايادي ملطخة بالدماء وتنم عن فكرٍ تكفيري عنفي متطرف، حكام وقادة وملوك ورؤوساء يشعلون حرباً بعد حرب، ويقتلون شعوبهم وشعوب الدول العربية بدمٍ بارد، تحت مرأى ومسمع الكثيرين، ودون رادع او ناه.
وداعاً طرابيشي وانت تودع هذا العالم المأزوم الممزق المتشدد، الذي اغدقت عليه من فكرك وانوارك وفلسفتك وادبك لتخرجه من الظلمات الى النور، فهل نحن نحث الخطى نحو تلك الافكار والانوار لنكون كما تريد، فهذا ما ستثبته الايام والسنين، وهو ما نتمناه من تلك المسيرة الطويلة، وان كانت تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، ولكن عسى ان تكون ايامنا القادمة ومستقبلنا افضل بكثير من حاضرنا وماضينا، وان غبت عنا ياطرابيشي جسداً فهذا فكرك وعطاؤك حي خالد بيننا لم ولن يغب يوماً ما، ولن تطاله يد المنية.  
 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=76002
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 03 / 19
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18