• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : رهاب احتجاز .
                          • الكاتب : ميسون زيادة .

رهاب احتجاز

 جلس أمام البحر يتأمّل اتساع المنظر الذي أخذ يتضاءل حتّى اصبح بحجم كفِّ يده الذي يمدُّه مبسوطاً أمام عينيه وروحه تختلج وسط أضلعه وتصرخ:

- كفى....
وتحوّل لون الشمس ساعة إشراقها للونٍ أحمر يؤكِّد الغروب، هُيِّئ له أنّ قرص الشمس أصبح كخارطةٍ تنزف وطناً يسيل ليملأ البحر وتنفد كلّ الألوان من العالم إلّا الأحمر وتختلط كلّ الطعوم مع بعضها ليصبح سيّدها المالح.
مذ كان صغيراً ونظره لا يغادر الأفق، وحلمه لا يغادر عقله، بأنّ ما وراء الأفق عالمٌ يستحقّ أن يُرى، وأمّه تصرخ أنّه لازال صغيراً على الأحلام، من أقنع الأمّهات أنّ أحلام أطفالهن مستحيلة لأنّهم أطفال؟!!!.
صراخ أمّه يصمّ أذنيه ويغادره رجلاً  ليوقظه كابوس الوطن النازف الذي يملأ البحر، يشعر أنّ أطرافه ثقيلة، يفرك يديه ببعضهما، ويُدلِّك قدمه برؤوس أصابع الأخرى وينهض:
- يا الله... يومٌ جديد اجعله خيراً من قبله.. واجعلنا نفهم خيره.
لم تكن الجملة الأخيرة موجودة في دعائه   قبل المصائب التي اجتاحت عالمه مؤخّراً، ولكنّ كلّ تجربةٍ تضيف إلى دعائنا جملةً جديدة كم نتمنّى عندها لو أنّنا امتلكنا حكمة الدعاء أولاً لدَرَأنا المصيبة.
وقف يغسل وجهه ويحلق ذقنه، وبينما هو غارق بالتفكير كيف سينجو بيومه من متطلبات أولاده؟، طعامهم، حاجيات المدارس، حذاء جديد لابنه لأنّه كبر كما كان يدعو له دوماً، كانت خيالات أبنائه تمر في المرآة المعلّقة أمامه، هذا يرتدي ثياب المدرسة وذاك يصرخ باحثاً عن كتاب، وزوجته تغلق النوافذ لأنّ الانفجار الذي هدّم بناء جيرانهم قد خلّف الكثير من رائحة البارود الممزوجة بالدم، وتترك نافذة واحدة نصف مفتوحة لتصلهم بالعالم أو تحسّباً من انفجارٍ آخر.
تأتي زوجته لتطلب منه أن يخرج من الحمّام لأنّ ابنته الصغيرة لا تستطيع الانتظار حتّى ينتهي من حلاقة ذقنه، يصفق وجهه بالماء فيدخل بأنفه وفمه، يشعر أنّه يكاد يختنق أو يغرق.
يخرج غاضباً ليجد على طاولة الطعام إفطاراً غريباً، هل جُنّت زوجته لتحضِّر الدجاج المحشي بالأرّز على الإفطار؟!!
يلتفت لصوت انفجارٍ جديد ليس بعيداً عنهم، ويعود بنظره لطاولة الطعام ليرى عظام الدجاج مرميّة في الصحون، يكاد يُجنّ، هل استيقظ من كابوس الليل إلى كابوس النّهار؟، يصرخ:
- من أكل طعام أبنائي؟؟؟!!!
ينزل درج البناء بلباس النوم وذقن نصف حليقة، وهو يسبّ ويشتم، لماذا طموحه ليس بحجم نخوة وكرم البشر؟، هو يحلم فقط بحياةٍ كريمة لأبنائه ولكن بعض الطامعين صادروا حقوق الحالمين وبنوا بها بوابات وقصوراً تزيد البعد عن تحقيق الحلم.
نزل إلى شارع نصف أبنيته مهدّمة والناس تبكي، أشدّ الأصوات ألماً صوت الناس تبكي الخراب، هو وحده واقف على قدميه يُمثّل القوّة ولكنّ داخله يبكي تأقلم الناس مع البكاء، ويشعر أنّه محتجز داخل جسده المليء بالبكاء حتّى أنّ طعمه المالح قد ملأ كلّ حواسه.
اقترب من محلِّ جاره الحلّاق على رأس الشارع فرأى فيه شخصاً يشبه جاره بملامح غريبة، أذهلته أسعار البضائع تراه ماذا يبيع بهذا الثمن؟ يمدّ رأسه وراء إعلانات البيع ليرى المحلّ مليئا بالأطفال، هل يبيع جاره الأطفال؟!!!، يتمنى لو يستطيع سؤاله ولكن عليه أن يذهب إلى وظيفته إضافة لكونه ابتلع الكلمات لمّا واجهته نظرة عيني جاره القاسية الذي على ما يبدو لا يتوانى عن بتر ونزع الأعضاء بنفس السهولة التي كان يقصّ بها الشعر.
يركب الحافلة ليتّجه إلى وظيفته، بملابسه الغريبة وذقنه التي لم يعد يفكّر بالبحث عمن يساعده على إتمام حلاقتها، على كلّ حال لا أحد يراه ليستغرب منظره الخارجي فكلّ ركّاب الحافلة بعيونهم الجامدة المقل محتجزون في أفكارهم هم الآخرون، يبحثون عن طريقة للاستمرار وسط هذا الضياع كلّه، ويفكّرون بالبحث عن عمل إضافي يؤمن طعام يوم إضافي، وعندما تقف الحافلة عند إشارة المرور تتراكم الأفكار السيئة في عقله، هل سيصل لعمله بهدوء أم ستنسفه عدّة كيلوغرامات من المتفجرات وضعها عقل مريض في قلب النبض اليومي لشوارع مدينته، ويتأمّل الركّاب معه في الحافلة، ويشعر بالمحبّة تجاههم مع أنّه لا يعرفهم فهم أصدقاء محنة واحدة، يربطهم مصير واحد ولو لدقائق حتّى يعلن صوت أبواق السيارات لحظة انعتاقٍ من الاحتجاز.
تسير الحافلة ويستمر تدفّق الأفكار برأسه، أخبروه أنّ الناجين إلى رحمة الله من قوارب الموت أكثر من النّاجين إلى أرض الحلم المنفى، ولكنّه يؤمن بعودة الحمام الذي كان يُطعمه فتات الخبز لسنواتٍ خلت، وبقي يأتي لنافذته كلّ يومٍ حتّى الآن .. حتّى بعد أن أصبح يأكل هو وأولاده فتات الخبز، ربّما تفرض غريزة البقاء الإيمان بنجاح أمور وإن نجحت مرة في كلّ مائة مرّة.
لا يسمع صوت تحطّم الحافلة ولكنّ النّاس يتجمعون حوله يضربون وجهه كي يستيقظ، أحدهم ينتشله من الماء، يبصق الماء المالح من فمه، يفتح عينيه يرى غروب الشمس ولون الأفق بلون الدّم حتّى يكاد يصبغ كلّ مياه البحر..
يفاجئه صوت خفر السواحل بلغة غريبة  يفهم من إيماءات وجوههم أنّ أحداً لم ينجُ من مركب الموت سواه.
كم كان شجاعاً حين كان محتجزاً هناك في وطنه يبكي الخراب أو يبكي تأقلمه معه، كان يبكي من الخارج والداخل معاً حتّى يغمر روحه وجسده بالبكاء ، الآن كلّما أراد البكاء  يطفو الطعم المالح من عمق ذاكرته حتّى يختنق.. كما أرادوا له أن يكون .. هنا، أو هناك.. محتجزاً داخل جسدٍ وأفكار.



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=71589
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 12 / 16
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29