• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : القدر الأيديولوجي للمعرفة .. .
                          • الكاتب : ادريس هاني .

القدر الأيديولوجي للمعرفة ..


الإنسان ذلك الكائن الأيديولوجي..يمكننا أن نتصور إنسانا بلا علم لكن أنّى لنا تصوره من دون أيديولوجيا..إنّ نهاية الأيديولوجيا معناه نهاية العالم، نهاية الإنسان..تجريد العلم عن الأيديولوجيا وهم آخر ينضاف إلى وهم الموضوعية الخالصة..فالأيديولوجيا تلتصق بالعلم لصوق الميكروبات في الكائنات الحيّة..وعملية تنظيف العلم من آثارها عمل مستحيل..وقصارى ما يملك المرء أمام هذه العلقة أن يخفف من غلواء الهيمنة الأيديولوجية على العلم..وهذا ما يجعل الحاجة ماسة للنقد..لأنّ عملية تفكيك الأيديولوجيات لا يتحقق إلاّ بالنقد المستدام..ولقد بلغ الغرور بالعلمويين ودعاة الموضوعية المطلقة إلى أن زعموا قدرتهم على التخلص من تبعات الأيديولوجيا..ولقد اتضح بعد حين أن عصر العلمويات هو نفسه العصر الذي أمكننا وصفه بعصر الأيديولوجيات الكبرى..ولعلّ النظرة المثالية للعلم هي التي أدّت إلى هذا المنظور اللاّواقعي لوضعية العلم والأيديولوجيا في العالم..تاريخ العلم يؤكّد على أنّه هو نفسه تاريخ تجاوز لأخطاء العلم وقصوره..أي هو تاريخ خروج من أيديولوجيات زائفة إلى أيديولوجيات جديدة أكثر قربا من الواقع والحقيقة..وبما أنّ الموضوعية هي الأخرى ضرب من الخرافة كان لا بدّ من الإقرار بحدّ أدنى ضروري للأيديولوجيا حيث تتعايش مع العلم..ولقد حاول العلمويون أن يسخروا من الأيديولوجية حين اعتبروها فكرا زائفا لا يعكس الواقع بقدر ما يحرفه وليس فقط ممكن الاستغناء عنها بل ضرورة عدم وجودها كمشوّش على مسيرة العلم..وقسم من هذا صحيح لأنّ وظيفة الأيديولوجية مزدوجة..ولكن يظل الخيار للحامل الاجتماعي للأيديولوجيا..إنّ الجانب الحقيقي للأيديولوجيا حتى في مستوى انحرافها عن الواقع هي كونها مرتبطة بالإنسان والخيال وهي تسغى أن تنعتقد من قلق الواقع ولو بالتزييف..في كلّ مشاريع الإنسان الصائبة أو الخاطئة توجد الأيديولوجيا..فحركة التحرر تحتاج إلى أيديولوجيا وكذا الاستعمار يحتاج إلى أيديولوجيا..تصبح الأيديولوجيا مزعجة حينما تفقد وظيفتها أو يتجاوزها الواقع أو تصبح غير مقنعة..حتى الحديث عن نهاية الأيديولوجيا جاء في لحظة هجوم التبسيط على العقل السياسي الكوني لما هيمنت جماعة جورج بوش الإبن على العالم وبدؤوا يتهيّؤون لتغيير العقل العالمي وثقافته السياسية..كانت أيديولوجيا النهايات أشبه بحقائق كرتونية تغري الأطفال..في الوقت الذي كانت أيديولوجيا اختطاف الإنسان واختزاله وإعادة تأهيله ليدخل دورة الاستعمال المتوحّش لعولمة كانت تعمل في البداية على القطع مع جميع مكتسبات الإنسان في الوعي والثقافة والحقوق..مع كل نوبة أيديولوجية يدخل العلم تجربة أخرى..لكن الأيديولوجيا تملك من تقنيات الاختراق ما يجعلها تفرض نفسها كقيمة علمية وتقتحم حرم العلم من داخل أطره الباريغمية..إننا لم ندرس حتى اليوم كيف أمكن للأيديولوجيا أن تؤطّر العلم وتساهم في استفزازه بتساؤلاتها تعبوية..تدخل الأيديولوجيا في العلم لتحوله إلى برنامج عملي..وعليها أن تكون أيديولوجيا متصالحة مع العلم لتنجح في مهمتها..وقد تخفق وتحصل الكارثة..وتدخل الأيديولوجيا في الدين لتحوله إلى برنامج عملي، ويحصل ما يحصل في علاقتها بالعلم..ولذا لم يكن كافيا أن يقول شريعتي بضرورة وجود أيديولوجيا دينية، لأنّ القيد الأساسي هنا هو عن أي شكل من أشكال الأيديولوجيا نتحدّث..فتحريف الدين لا ينحل بأيديولوجيا زائفة تضيف التحريف على التحريف..وتدخل الأيديولوجيا في الاقتصاد فتصنع الأطروحة ونقيضها..ساعة تمنح الحق لمنتج الثروة بذكائه ومعلوماته بوصفها رأسمالا لعله أهم حتى من الرأسمال المادي، فضلا عن منحها الحق للرأسمال في إنتاج الثروة، وبين من لا يرى أي قيمة للرأسمال في صناعة الثروة والقيمة المضافة..وتدخل الأيديولوجيا في السياسة فتبعد بين اليمين واليسار تارة وتقرب بينهما تارة وقد تصبح السياسة بفعل هيمنة الأيديولوجيات الرثة إلى سياسوية نكراء..ولا يقال هنا أن الأيديولوجيا غابت بل نقول أنها استبدلت بأيديولوجيات ضحلة وتافهة وعاجزة عن الإقناع..وتدخل الأيديولوجيا في الثقافة فتغير قيم الجمال وتغير مراكز الثقافة إلى هوامش والعكس صحيح وتحدث تزييفا في الوعي وشللا في الإرادة وتصبح الثقافة غير مغرية شأنها شأن السياسة..وتدخل الأيديولوجيا حتى في الرياضة فتجعل أسوأ أنواعها أكثر إنتاجا للثروة وأكثر إلفاتا للنظر..وتدخل الأيديولوجيا في الصحافة فتقدم أسوأ مأدبة من الحقيقة وتفسد الرأي العام وتنقل ما يطلبه الممولون أو ما يطلبه جمهور فقد وعيه..وهكذا لا يخل مجال من الأيديولوجيا.
الأيديولوجيا ليس أمرا جانبيا للاستئناس، بل هي ضرورة في المبدأ تتعلق بكيفية وجود واستمرار الإنسان في المجتمع..إن الأيديولوجيا مثل الهواء الذي نتنفّسه..فالعالم لا يستغني عن أوهامه وزيفه صعودا ونزولا..ندرك أثر الأيديولوجيا في نهاية المطاف من خلال آثارها ولا يمكن أن نرصدها في حينها بالأحرى أن نستشرفها في المستقبل..إننا لا ندري ما شكل الأيديولوجيا التي تتكون اليوم بين ظهرانينا..إنّ الأيديولوجيا آية من آيات الله في خلقه..

 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=70970
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 12 / 03
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 20