• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : ابن تيمية في (السياسة الشرعية)(1) .
                          • الكاتب : داود السلمان .

ابن تيمية في (السياسة الشرعية)(1)

مقدمة :
    يعتبر ابن تيمية الحراني(661- 728هجرية) أحد أئمة التطرف والمؤسس الاول للمذهب الوهابي ، الذي سار على منهجه وبنى افكاره المذهبية والفقهية والسياسية وغيرها محمد بن عبد الوهاب مؤسس الوهابية ، المذهب الرسمي للسعودية اليوم ، ولأبن تيمية آراء جريئة على الحكام والخلفاء خالف بيها عدد كبير من الفقهاء ، سواء من الذين عاصروه أو من الذين سبقوه في هذا المعترك ، وإن اغلب آراءه تدعو الى التطرف والعنف ، ولا نستشف منا التسامح والعفو والتغاضي التي يدعو اليها الاسلام ، الامر الذي حدى بأبن يتمية أن يودع السجن ويموت فيه . وما داعش اليوم الا هم شطحة من شطحات هذا الرجل ، اذ هم يطبقون فتاواه وآراءه الفقهية والسياسية ، وقد رأيناهم بأم اعيننا ما فعلوا ، من جرائم يندى لها جبين الانسانية .
    ولأبن تيمية كتب كثير في الفقه والسياسة والتاريخ والعقائد والفتاوى وغير ذلك ، ومنها هذا الكتاب الذي بين ايدينا الذي اسماه (السياسة الشرعية في اصلاح الراعي والرعية) تحقيق علي بن محمد العمران ، دار عالم الفوائد ، بدون ذكر سنة الطبع) .
البداية :-
    يطرح ابن تيمية في كتابه هذا عدة مفاهيم وآراء يؤكد من خلالها على شرعية السياسة في الاسلام وإنها مدعومة ومؤيده من الكتاب والسنة ، وكيف يكون عمل الامير اوالرئيس (رئيس الدولة) من خلال آيات قرآنية واحاديث منسوبة للنبي يؤولها بحسب رؤياه ، معتبرا أن ما يطرحه في كتابه ماهو الا رسالة إذ يقول : (فهذه رسالة مختصرة ، فيها جوامع من السياسة الإلهية والإنابة النبوية ، لا يستغني عنها الراعي والرعية ، اقتضاها من أوجب الله نصحه من ولاة الأمور). ويقصد بهم الخلفاء الذين اداروا شؤون الامة الاسلامية منذ توفى النبي ووقع الاختلاف بين الصحابة على يتولى الحكم من بعده الى أن افضى الامر الى ابي بكر بعد شد وجذب بين الانصار والمهاجرين ، في قضية تايخية معروفة .
    ويستشهد ابن تيمية  بقول منسوب الى النبي وهوقوله : (إن الله يرضى لكم ثلاثة: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم) .عادا ذلك اشارة واضحة على أن أطاعة ولاة الامر (الرؤساء - الساسة) أمر شرعي بعد قول النبي هذا معتبره نصا صريحا لا يقبل الشك .
    ويشير الى أن هذه رسالة مبنية على آية الأمراء في القرآن ، التي جاءت مساندة لقول النبي ومدلولها واضح ، بحسب ما يرى ، وهي قوله: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا. يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} .النساء/58-59.
    ويفسر هذا بقوله: أن الآية الأولى في ولاة الأمور، عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، وأما الثانية  فيقول انها نزلت في الرعية من الجيوش وغيرهم ، عليهم أن يطيعوا أولي الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم ، إلا أن يأمروا بمعصية الله ، فإن أمروا بمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، فإن تنازعوا في شيء ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله .
والشيعة ترفض التفسير الذي يذهب الية ابن تيمية وغيره في مسألة اولى الامر لاعلى انهم المقصود بهم الخلفاء والامراء ، ويرون أن المقصود بهم اهل البيت النبوي. يقول الطباطبائي في (الميزان) :(( وبالجملة طاعة اولي الامر مفترضة ، وأن كانوا غير معصومين يجوز عليهم الفسق والخطأ فأن فسقوا فلا طاعة لهم ، وأن أخطأوا وردوا الى الكتاب والسنة إن علم منهم ذلك ، نفذ حكمهم فيما لم يعلم ذلك ، ولا بأس بإنفاذ ما يخالف حكم الله في الواقع دون الظاهر رعاية لمصلحة الاسلام والمسلمين ، وحفاظاً لوحدة الكلمة )) {راجع الميزان ، ج4ص390 ، الطبعة الثالثة 1972 بيروت دار الاعلمي} .
 فالشيعة تشترط في الحاكم (رئيس الدولة) أن يكون معصوما حتى لا يخطأ او يسهو او ينسى وبالتالي يظلم الناس ، ولا يعدل ، ولا سوف يؤدي رسالته بحسب ما تقتضي الحاجة في ذلك . وصاحب هذه السطور لا يميل الى هذا الرأي ، وأن كان قول صاحب الميزان فيه نوع من العقلانية ، ولكن هذا الرأي افلاطوني ولا يمكن أن يتحقق . ومثل هذا قد اشار اليه الفارابي حيث اشترط على الرئيس المفترض في مدينته الفضلة اثنا عشر شرطا يجب أن تتوفر فيه ، ثم اعترف الفارابي نفسه أن هذه الشروط لا يمكن أن تتحقق في شخص بعينه .
    وكلام الطباطبائي في استدلاله على ما تذهب الشيعة في هذا الرأي طويل جدا في ذيل تفسيره للآية ، لكنني لا استطيع أن انقله كله ، فأكتفيت بهذه الاسطر القليلة . وملخص كلام الشيعة إنهم يعتبرون أولي الامر المقصودون في الآية المذكورة هم الامام علي وذريته من اهل البيت ، وهم بذلك يخالفون رأي اهل السنة قاطبة ويخالفون ابن تييمية في كل ما يذهب ، فهو خصمهم وهم خصومه .
    ونعود الى ابن تيمية وقوله وإن لم يفعل ولاة الأمر ذلك ، أطيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله ، لأن ذلك من طاعة الله ورسوله ، وأديت حقوقهم إليهم كما أمر الله ورسوله .
    ويستشهد بالآية التي تقول {وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} المائدة/ 2. ويعتقد أن الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها ، والحكم بالعدل. فيقرر أن هذا هوجماع السياسة العادلة ، والولاية. ويقصد في ذلك أن يتعاونوا فيما بينهم اي عامة الشعب ، الذين اطلق عليهم ابن تيمة بالرعية ، وما بين ولاة الامر الذين هم رجال الدولة وقادة السياسة من الحكام ، فيريد أن يقول أن طاعة هؤلاء واجبة من هذه الناحية حتى لا تتمزق الامة شذر مذر وتضعف شوكتها . بينما المقصود في هذه الآية هو ليس ما ذهب اليه ابن تيمية .
اذ يقول الزمخشري : ((وتعاونوا على البر والتقوى : على العفو والاغضاء ، ولا تعاونوا على الاثم والعدوان : على الانتقام والتشفي ، ويجوز أن يراد العموم لكل بر وتقوى وكل اثم وعدوان فيتناول بعمومه العفو والانتصار)) .
(راجع تفسير الزمخشري ج2ص5مكتبة مصر بالفجالة تحقيق يوسف الحمادي) .
 
ابن تيمية في (السياسة الشرعية) (2)
الفصل الأول :أسس اختيار الولي -الرئيس
*استعمال الأصلح بنظر ابن تيمية
    يقول ابن تيمية إن النبي لما فتح مكة وتسلم مفاتيح الكعبة من بني شيبة طلبها منه العباس ، ليجمع له بين سقاية الحاج ، وسدانة البيت ، فأنزل الله هذه الآية ، { أن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات الى اهلها } النساء58:
يقول ابن تيمية دفع النبي مفاتيح الكعبة إلى بني شيبة .  ويرى أنه يجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين، أصلح من يجده لذلك العمل ، ويدعم قوله بحديث منسوب الى النبي : ( من ولي من أمر المسلمين شيئا، فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين ).
    وفي رواية أخرى يذكرها ابن تيمية ايضا عن النبي : (من قلد رجلا عملا على عصابة (مجموعة) ، وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه ، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين).  ويستشهد ايضا بقول للخليفة عمر بن الخطاب: ((من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا لمودة أو قرابة بينهما ، فقد خان الله ورسوله والمسلمين)) . واعتقد أن الحديث الاول لا يختلف عن الحديث الثاني فهو بنفس المظمون ولعله مستنسخ منه .
ولا ادري ماذا يقول ابن تيمية في الخليفة المغدور بما نقم عيله المسلمون بسبب بعض ما جرى للمسلمين اثناء توليه امور الدولة ، اعني عثمان بن عفان ، فالتاريخ يذكر لنا أنه سلط اقربائه على رقاب المسلمين ، ففعلوا ما فعلوا من امور وقضايا انكرها عليه كبار الصحابة وحاججوه ونصحوه واسدوا له المشورة في ذلك ، فلم يرعوي ، او يستمع نصحهم حتى دفع ثمن ذلك حياته ، ومنهم ابو ذر الغفاري الذي نفاه الى منطقة نائية تبعد كثيرا عن المدينة ، وتدعى هذه المنطق بالربذة ، فمات هناك وحيدا غريبا ، تطبيقا لقول النبي فيه (رحم الله ابا ذر يعيش وحده ويموت وحده ويبحث أمة وحده) . فحدث كل ما قاله النبي فيه ، والاعمال التي ارتكبها وفعلها ولاة الامر الذين عينهم عثمان كثيرة وقد فصلها لنا التاريخ ، وليس هنا موضع ذكرها ، فالذي يريد تفاصيل ذلك عليه مراجعة الطبري وابن الاثير والمسعودي وشرح نهج البلاغة لأبن ابي الحديد المعتزلي وسواهم من المؤرخين والمحدثين .
     وعند تولي الحاكم (الرئيس)الذي تقع عليه زمام الامور ، يقول ابن تيمية وهذا واجب فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات ، ويعتقد الذين تتوافر فيهم شروط الولاية ، من عدالة وحنكة سياسية ، وتدبر ، من نوابه على الأمصار، من الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان ، والقضاة ، ومن أمراء الأجناد ومقدمي العساكر والصغار والكبار، وولاة الأموال من الوزراء والكتاب والشادين والسعاة على الخراج والصدقات ، وغير ذلك من الأموال التي للمسلمين.
    وهؤلاء الذين يعنيهم ابن تيمية هم اركان الدولة وقادتها ، ويعني في عصرنا الحديث هم الوزراء ووكاليه الوزارات، والقادة العسكريين ، والميدانيين ، والامنيين ، والقضاة في مجلس القضاء الاعلى ، وهؤلاء الاخيرين يجب أن يكونوا مستقلين وليسوا مرتبطين بالاحزاب السياسية التي تدير البلاد ، ومنضوية تحت قيادة الدولة وفق ما قرره دستور البلاد . وهذه هي اركان الدولة الاسلامية ، بشرطها وشروطها ، ويعدها ابن تيمية دولة شرعية منزلة من الله عن طريق النبي الذي ابلع ذلك للامة .
    ويضيف ابن تيمية :وعلى كل واحد من هؤلاء، أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده ، وينتهي ذلك إلى أئمة الصلاة والمؤذنين ، والمقرئين، والمعلمين ، وأمير الحاج ، والبرد (جمع بريد) ، والعيون الذين هم القصاد (رجال الامن) ، وخزان الأموال (وزير المالية) ، وحراس الحصون ، (الجيش والشرطة المرابطين على الحدود) والحدادين الذين هم البوابون على الحصون والمدائن ، ونقباء العساكر الكبار والصغار، وعرفاء القبائل والأسواق، ورؤساء القرى الذين هم الدهاقون. فيجب على كل من ولي شيئا من أمر المسلمين، من هؤلاء وغيرهم، أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع ، أصلح من يقدر عليه ، ولا يقدم الرجل لكونه طلب الولاية ، أو يسبق في الطلب بل  ذلك سبب المنع كما يعتقد.
    وهنا يقر ابن تيمية أن يكون كل ذلك منوط بالحاكم ، فهو الذي يعين الولاة والقادة والوزراء والقضاة ، ولا يقر بنظام الانتخابات الديمقراطية ، هذا النظام الذي يجعل الشعب يختار ما يريده أن يرتقي الى قيادة الدولة وفق ما يريده ويختاره الشعب نفسه بنفسه ، وكأن ابن تيمية يقر بالدكتاتورية ونظام الانقلات العسكري ، اذ وفق هذا النظام يتسلط رجل سياسي بانقلاب الحكم ليصبح هو الرئيس الاوحد للبلاد ، فيختار بنفسه الوزاء والقادة وسواهم بالتعيين لا بالانتخاب ومثال على ذلك حكم نظام صدام حسين كنموذج في العراق .
    وهذا النظام الذي يدعو له ابن تيمية لا يصلح ولا يمكن أن يطبق في عصرنا هذا وزماننا هذا ، كونه يغمط حقوق الشعوب ويسلبها حقها في الحياة السياسية والمدنية ، اذ أن الدول الحديثة اليوم أن تكون مدنية لا دينية ، لأن معظم الدول ، وان كان اغلب سكانها مسلمين ، الا ان فيها طبقات أخرى من اديان اخرى ، فكيف والحال هذه ، أن تطبق عليهم احكام هي مخالفة لدينهم ومذاهبهم وما يعتقدونه ، فيكون ذلك ظلما مجحفا بحقهم ، ويخالف مخافة صريحة لحقوقهم ، على اعتبار انهم مواطون من الدرجة الاولى . وهذا ما التفتت اليه الدول الغربية الحديثة ، فاسقطت تسلط رجال الدين من القساوسة ودكتاتورية الكنيسة وابعدتهم عن الحكم نهائبا ، ففصلت الدين عن السياسة وقد نجحت في هذا الامر نجاحا منقطع النظير . فقد بات اليوم فصل الدين السياسة في مجتمعاتنا العربية والاسلامية امرا لا بد منه ، لأن وضع الدول اليوم هو ليس كاوضاع الامس .
    ويدعم ابن تيمية هذا الرأي الذي يذهب اليه بقول ينسبه الى النبي يقول فيه: (أن قوما دخلوا عليه فسألوه الولاية ، فقال: إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه).
    يعني اذا جاء شخصا وطلب من رئيس الدولة ان يجعله لقيادة المنصب الفلاني فلا يقبل او يذعن الىى طلبه ، وأن كان ذلك الشخص تتوافر فيه كل شروط القيادة ، بمعنى آخر هو مرفوض جملة وتفصيلا، فلا يمد للقيادة عنقه أحدا ولا يطمع في ذلك ولا تسول له نفسه ، وكل ذلك يعود الى الحاكم رئيس الدولة ، لأن هذا الحاكم ، برأي ابن تيمية هو منصب من الله وبأمر الله ، وهو نفس ما تقول فيه الشيعة في امر الائمة المعصومين الذين عددهم اثناعشر اماما آخرهم غائب ، مخفي عن الانظار ! ، اذ تعتقد أن الله هو الذي نصبهم عن طريق النبي ولا يجوز للمسلمين  اختيارهم . فما اعتقد أن ثمة فارقا ما بين رأي ابن تيمية هذا ورأي الشيعة هذا ، فكلاهما يصب في اطار واحد من حيث الشرعية والتنصيب من الله لا من البشر .
    لكن الذين عناهم ابن تيمية قد وصلوا الى سدة الحكم وحكموا الناس وقادوا الدولة ، الا أن ائمة الشيعة لم ينالوا ذلك ، و الشيعة اعتبروا ان المسلمين  قد قصروا في  ذلك وخالفوا امر النبي بعدم توليهم الائمة مناصبهم الالهية ، فضلوا واضلوا!.
     وينقل ابن تيمية نموذج على ما يعتقده وهو  قول النبي لعبد الرحمن بن سمرة: (يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة ، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها ، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليه).  وقول آخر للنبي ينقله ابن تيمية: (من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه ومن لم يطلب القضاء ولم يستعن عليه ، أنزل الله إليه ملكا يسدده)  وهنا مربط الفرس .
    ففي رأي ابن تيمية أن هذا الشخص المعني بعدما اسندت اليه المهام ، وأنه عجز عن ذلك ولم يتمكن ، لسبب او لآخر ، ما كان من الله الا أن يبعث له ملكا يسدد رأيه ويعينه على فعل الحق والصواب ! .
لماذا؟ ، لأنه مخول من الله عن طريق النبي ، فالله كيف يخذل نبيه بخذل من رضيه النبي أن يقود الامة الاسلامية نحو الصلاح والاصلاح ، هكذا يرى ابن تيمية في نظريته السياسية هذه . وهو بهذا يلتمس العذر للحكام والسلاطين يضفي لهم هالة قدسية شرعية يسندها الى الله والى النبي .
    ويستمر في دعم نظريته قائلا فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره ، لأجل قرابة بينهما ، أو ولاء عتاقة أو صداقة ، أو موافقة في بلد  أو مذهب أو طريقة أو جنس ، كالعربية والفارسية والتركية والرومية ، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة، أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن في قلبه على الأحق، أو عداوة بينهما ، فهو بهذا كما يرى ابن تيمية قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، ودخل فيما نهي عنه .مع علمه بذلك .
مستعينا بالآية التي تقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}الانفال:27. كذلك الآية: {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة ، وأن الله عنده أجر عظيم} الانفال: 28. ويعلق على  ذلك بقوله إن الرجل لحبه لولده ، أو لعتيقه ، قد يؤثره في بعض الولايات ، أو يعطيه ما لا يستحقه ، فيكون قد خان أمانته ، كذلك قد يؤثره زيادة  في ماله أو حفظه ، بأخذ ما لا يستحقه ، أو محاباة من يداهنه في بعض الولايات ، وهو ما نعبر عنه اليوم بالفساد الاداري والمالي ، فيكون قد خان الله ورسوله ، وخان أمانته.
    وابن تيمية ، هنا يعترف بأن ثمة ولاة ، لحبهم ابنائم يميلون اليهم فيسندون لهم مناصب حكومية في الدولة ضمن صلاحيات هي ليست ممنوحة لهم ، ومثل هذا قد حدثت كثير ، وقد قرأنا في سيرة خلفاء بنو امية ومن بعدهم بنو العباس . فهؤلاء بحسب نظرية  ابن تيمية خانوا الله ورسوله وخانوا الامانة ، لولايتهم ولاة فسقة سلطوهم على رقاب الناس ، لكنه لا يقول بكفرهم وضلالهم وانحرافهم ، وهذه تُعد ازدواجية عجيبة في معايير ابن تيمية ، سواء التفت أو لم يلتفت اليها .
    ويستطرد في كلامه الى أن يقول ثم إن المؤدي للأمانة مع مخالفة هواه، يثبته الله فيحفظه في أهله وماله بعده ، والمطيع لهواه يعاقبه الله بنقيض قصده فيذل أهله ، ويذهب ماله.
وابن تيمية لم يضرب لنا مثلا فيما يذهب اليه من هذا القول ، بل الصحيح أن الخلفاء والامراء والولات قد ماتوا وخلفوا ثروات كبيرة من بعدهم ، ومثال ذلك ما رواه المسعودي :((وكان عثمان في نهاية الجود والكرم والسماحة والبذل في القريب والبعيد. فسلك عمالُه وكثير من أهل عصره طريقته ، وتأسَّوْا به في فعله. وبنى فيداره في المدينة وشيدها بالحجر والكِلْس، وجعل أبوابها من الساج والعَرْعَر واقتنى أموالاً وجناناً وعيوناً بالمدينة.
ثروته
وذكر عبد الله بن عتبة أن عثمان يوم قتل كان له عند خازنه من المال خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم، وقيمة ضياعه بوادي القُرَى وحُنَيْن وغيرهما مائة ألف دينار، وخلف خَيْلاً كثيراً وإبلاً.
ثروة الزبير بن العوام
وفي أيام عثمان اقتنى جماعة من الصحابة الضِّيَاعَ والحور: منهم الزبير بن العوام، بنى داره بالبصرة، وهي الكوفة في هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة - نزلها التجار وأرباب الأموال وأصحاب الجهاز من البحريين وغيرهم، وابتنى أيضاً دوراً بمصر والكوفة والإسكندرية، وما ذكرنا من دوره وضياعه فمعلوم غير مجهول إلى هذه الغاية.
وبلغ مال الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار، وخلف الزبير ألف فرس، وألف عبد وأمة، وخططاً بحيث ذكرنا من الأمصار.
ثروة طلحة بن عبيد اللّه
وكذلك طلحة بن عبيد اللّه التيمي : ابتنى داره بالكوفة المشهورة به هذا الوقت ، المعروفة بالكُنَاسة بدار الطلحيين ، وكان غلته من العراق كل يوم ألف دينار، وقيل أكثر من ذلك، وبناحية الشراة أكثر مما ذكرنا ، وشيد داره بالمدينة وبناها بالآجرِّ والجِصِّ والساج.
ثروة عبد الرحمن بن عوف
وكذلك عبد الرحمن بن عوف الزهري: ابتنى داره ووسعها، وكان على مربطه مائة فرس، وله ألف بعير، وعشرة آلاف شاة من الغنم، وبلغ بعد وفاته رُبُعُ ثمنِ مالِهِ أربعةً وثمانين ألفاً.
ثروة قوم من الصحابة
وابتنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق، فرفع سمكها، ووسع فضاءها، وجعل أعلاها شُرُفَاتِ.
وقد ذكر سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت حين مات خلف الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس، غير ما خلف من الأموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار.
وابتنى المقداد داره بالمدينة في الموضع المعروف بالجرف على أميال من المدينة وجعل أعلاها شرفات، وجعلها مجصَّصة الظاهر والباطن.
ومات يعلى بن منية ، وخلف خمسمائة ألف دينار، وديوناً علم الناس ، وعقارات ، وغير ذلك من التركة ما قيمته ثلاثمائة ألف دينار.
وهذا باب يتسع ذكره ويكثر وصفه ، فيمن تملك من الأموال في أيأمه ، ولم يكن مثل ذلك في عصر عمر بن الخطاب، بل كانت جادة واضحة وطريقة بينة.
وحج عمر فأنفق في ذهابه ومجيئه إلى المدينة ستة عشر ديناراً ، وقال لولده عبد اللّه: لقد أسرفنا في نفقتنا في سفرنا هذا)).
(المسعودي ، مروج الذهب ، ج2ص334-335 الطبعة الرابعة 1981 دار الاندلس بيروت بتحقيق يوسف اسعد داغر) .
    فأين حقيقة ما يراه ابن تيمية وما يذهب اليه من قول خالف فيه الواقع والعقل والمنطق ؟ .

 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=70432
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 11 / 20
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28