• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : العرب و الانسحاب الاستراتيجي من الحداثة .
                          • الكاتب : ادريس هاني .

العرب و الانسحاب الاستراتيجي من الحداثة

    لا يشذّ مظهر من مظاهر التّخلف في دنيا العرب عن السؤال الإشكالي حول الحداثة والتحديث..ومع أنّ البعض قد لا يرى أهمية للتّحديث في التّقدم بأسئلة الحداثة فإننا نرى أنّ أسئلة الحداثة تقتضي أيضا جغرافيا حديثة..لا يمكن أن نفجر سؤال الحداثة في هدوء الصحراء وخارج صخب المدنية..الإجابة عن التحديات التي يفرضها التحديث تشكل تراكما طبيعيا للحداثة نفسها..هذا هو الجدل الواقعي بين الحداثة والتحديث..بين البناء الفوقي والتحتي للحداثة نفسها..وكلّما ابتعدت السّلطة والمجتمع العربيين عن الحداثة كلّما عانقا أسوأ مظاهر التقليدانية والانحطاط..وكأنّهما لا يحسنان حتى في مقام الانتقاء أن يختارا الأجود من التراث والأزود من الحداثة..وتحت قهر الفشل والعجز عن أن تكتسب لها موقعا في الكون الحديث تعود لتثأر بتبنيها لأسوأ ما في التراث..إعادة تأسيس التخلّف كابتزاز أو انتقام أو هروب أو تعويض من الإخفاق في التحديث والتنمية..وما يظهر اليوم من صور التّخلف والظلامية والرجعية المنتشرة والتي اكتسبت لها سلطة السياسة والرّيع إن هو إلاّ ردّ فعل بدائي على هذا الإخفاق..ولقد اختفت أسئلة النّهضة من دنيا العرب وحلّ محلّها سؤال: من نحن، ومن نكون؟ يتجه الفكر السائد اليوم إلى تبسيط ما كان محل استشكال..بل يتّجه إلى توفير المناخ لما كان سماه مالك بن نبي بالقابلية للاستعمار..في لاوعي كل كائن من جيل الهزيمة يوجد شعور بالإلتحاق بالغرب وكأنّ مشكلة النهضة ليس بتحقيق التقدم الجماعي في المجال بل بالهروب الفردي والنجاة الشخصية..لا فرق بين استدعاء الغرب كاحتلال أو الهروب إليه ولو بقتل النّفس والانتحار..سؤال التّطرف والظلامية هو جزء من إشكالية الحداثة في المجال العربي..التهميش يصنع ردود فعل حتى داخل المجال الأوربي حيث بات مصدّرا ومصنّعا لتخلفنا من باب بضاعتكم ردّت إليكم..العجز عن التكيف والاندماج في ظروف مأساوية ودخول الريع الرجعي كمنقذ من ضلال التهميش..يعود المهمشون في الديار الأوربية من مهاجري العرب لاكتشاف هويتهم من جديد..وهي هوية هشّة ممزقة تجد تبريرها وتعويضها في تصعيد نبرة العنف والانتحار..إنها الشكل من الانتحار المغري مقابل الانتحار الرّخيص..وهذه الظواهر هي رغم مظهرها الموحي بالتقليدانية هي مظاهر الحداثة السياسية في أفقها الجيوستراتيجي حيث خطوتان إلى الوراء قد تفيد في إعادة الفوضى للهامش بعيدا عن الهامش بقرون من الزمان..التطرف المحلي المصنّع في المهاجر الغربية هو أداة لضبط التوازن بين المركز والهامش بالمعايير التنموية للعبارة..وداخل هذه الفوضى التي تفرز أشكالا ومستويات متناسخة من الظلامية والتّطرف لم يعد سؤال الحداثة محط أنظار..لقد خربوا ما بناه الاستعمار نفسه في هذه البلدان..أنهكوا مكتسبات التحديث بردم البنى التحتية عبر أشكال من الحروب تخريبية ليس لها مثيل من قبل..كما قضوا على جدوى أسئلة التحديث وأفقدوا المجال العربي الثّقة في كل شيء حتى في الديمقراطية بعد أن حوّلوها إلى لعبة لاختراق مناعة الدّول وذلك يتم بنفارقة عجيبة بتواطؤ مع الرجعية التي تنتمي إلى ما قبل التّاريخ السياسي الحديث..نريد هنا أن نؤكّد على أنّ الحداثة اليوم تحوّلت من سؤال ملحّ إلى موضوع للعبة الأمم..إلى ابتزاز وخداع..ويوم أصبحت خداعا وليست سؤالا بات أكثر المتمثّل لها في مواقع البوليميك السياسي هم طليعة الرّجعية في البلاد العربية..تأخذ الظلامية اليوم في البلاد العربية صورة سوريالية تذكّرنا بمفارقات ما بعد الحداثة..وكم يبدو سهلاالمسافة التي تقطعها الرجعية بينها وبين ما بعد الحداثة..وقد تجدها مسافة أقرب حتى من الحداثة..لأنّ ما بعد الحداثة هنا هي نكوص وعودة غير شرعية إلى ما قبل الحداثة..إذا كان سؤال الحداثة يقدحه عقل يعيش تحت طائلة الإلحاح فإنّ التّخلف اليوم ليس هو ما قبل مركزية الحداثة بل هو خروج من العصر..خروج من الحداثة بمركزها وهامشها..هو الخروج الذي يجعل المجال عبارة عن فوضى تقتضيها لعبة المراكز الحداثية اليوم...لعبة تجعلنا نستعيد هوية فوضوية وغاضبة وملعونة..انسحاب استراتيجي من الكون الحديث بعد أن ظنت أنه انسحاب تكتيكي..إنّ عقودا من التفكير والتساؤل والنقاش حول الحداثة أوصلنا في زمن الارتداد العقلي إلى إعلان دولة ما قبل الحداثة، دولة لا تاريخ لها ولا مستقبل..دولة موت العقل والدين والإنسان العربي...



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=67238
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 09 / 13
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19