• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : غياب الحكومة عن الناس .
                          • الكاتب : عدي عدنان البلداوي .

غياب الحكومة عن الناس

منذ زمن بعيد والمجتمع العراقي يعيش تصدعاً في علاقته بالسلطة ، من حيث هي علاقة تقوم على اخضاع الناس لقوانينها وقراراتها وان كانت لا تمثل تطلعاتهم ولا تحفظ لهم حقوقهم في ممارسة عاداتهم ومعتقداتهم ، وبدا ذلك التصدع واضحاً في عهد الدولة العثمانية يوم كانت حكومة العراق موالية لاسطنبول التي تعتمد المذهب السني ، بينما اغلب سكان العراق من الشيعة ، وكان الوالي في بغداد يمنع الأهالي من اقامة مجالس العزاء الحسيني ، فكان الناس يقيمون مجالسهم في سراديب بيوتهم كي لا يسمع صوتهم بعد ان يضعوا في باحة الدار من يدير الرحى خلال مدّة اقامة المجلس .. واسهم تشيع ايران في مد جسور التواصل بين المجتمع الايراني والمجتمع العراقي ، تواصلا تقوم دعاماته على وجود مراقد ائمة اهل البيت عليهم السلام والمدارس الدينية والحوزات العلمية بين البلدين ، وانعكس تصادم الدولتين الصفوية والعثمانية على المجتمع العراقي ، بحيث اخذ الناس يلجأون الى قوة العضلة وكثرة العدد للحفاظ على ارواحهم وممتلكاتهم ،ويصف عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي ذلك بقوله:(يلجأون الى العصبية القبلية والقيم البدوية من اجل المحافظة على ارواحهم واموالهم، كما اضطرت العشائر الصغيرة الى التكتل او الانضمام الى اتحادات قبلية كبيرة لكي تكون اقدر على تنازع البقاء)، واستمرت هذه الفكرة مدة زمنية ليست بالقليلة ، واخذت تسيطر حتى على تشكيلات الاحزاب السياسية في العراق المعاصر بعد الاحتلال الامريكي في 2003م ، بحيث انتقلت فكرة التكتل واعتماد قوة العضلة من المجتمع الى احزاب السلطة التي جاءت من الغرب تحمل التخصصات العلمية والشهادات العليا ، ولم تطرح مشروع وعي المجتمع ، أو طرح بشكل خجول ، فكان الدور في اغلبه للطائفية ، في مجتمع  تتعايش فيه اديان ومذاهب مختلفة ، وهذا يشكل خطراً كبيراً او يتسبب في صناعة ازمات كثيرة مستمرة ، وهو ما نعيشه في العراق منذ اكثر من عشر سنوات ، كما ان دعوة امريكا الى المحاصصة والشراكة ، لم تكن اكثر منها زياً معاصراً تريده للشخصية العراقية التي اصدر لها الإستعمار القديم هوية طائفية غير نافذة المفعول ، فرأيناها تخرج من (جراوية) العراقي ايام زمان لتحل في البدلة الأنيقة وربطة العنق الملونة ، ولأن كثيراً من الناس لم يكونوا يتوقعون ذلك ، تفاجأوا وهم يسمعون عن نائب اكاديمي يحمل شهادة الدكتوراه يفخخ السيارات في بيته وآخر يدير شبكة ارهابية من مكتبه الرسمي ..
كانت الدول الكبرى في العالم ترى تصدّع العلاقة بين الحكومة والناس في العراق ، ولما انتهت فترة الإستعمار العسكري ودخلت مفاهيم حقوق الإنسان وحرية الشعوب في تقرير المصير ، ودخلت اجيال من الشباب الى الجامعات ، وظهرت كتب عن القانون وحرية الرأي وتنوع الثقافات ، واقتضت التوجهات الإقتصادية الغربية إعتماد اسواق واسعة مفتوحة لتصدير بضائعها من أجل دعم اقتصادها وصولاً الى الإمبريالية وسيطرة الغرب على القرار السياسي العالمي أو وجوده كفاعل مؤثر في صناعته في دول الشرق حيث تمثل سوقاً رائجة لتلك الصناعات ، فدخلت التقنيات الحديثة والتقليعات المستوردة وأجهزة الموبايل والإنترنت لتغلف شخصية الفرد في المجتمع فيبدو متمدناً متحضراً او كما يسميه الناس مثقفاً ، دون ان تتأثر طريقة تفكيره بالإتجاه الإيجابي المنتج ، يقول الدكتور علي الوردي ( ان الشخص ((العامي)) قد يكون ذا شهادة علمية عالية ولكن علمه ليس سوى مجموعة من المعلومات حفظها حفظاً دون ان تؤثر في نمط تفكيره. انه يبقى ((عامياً)) في تفكيره مهما تعلم ، وهو لا يختلف عن ((العامي)) غير المتعلم الا بمظهره الخارجي أو بما يتحذلق به من افانين الكلام وترديد المصطلحات العلمية)، وبهذا الصدد اذكر
في عام 2000 كنت متوجهاً من مطار طرابلس الليبي الى دمشق.. وفي المطار نودي على الركاب للتوجه الى صالة انتظار الطائرة .. كان اغلب الركاب من العراقيين المتعاقدين في ليبيا ، ما بين طبيب ومهندس واستاذ جامعي ومدرّس، وبينما نحن في صالة الإنتظار، فتحت البوابة المؤدية الى الطائرة واذا باولئك المثقفين ببدلاتهم الأنيقة وربطات العنق والحقائب الدبلوماسية ونظاراتهم يتزاحمون على البوابة ، في الوقت الذي يحمل كل واحد منهم تذكرة سفر مدّون عليها رقم مقعده في الطائرة ..!!
سابقاً عندما اخذت الدولة العثمانية تضعف ، لجأت الدول الكبرى الى دعمها واسنادها ريثما تكتمل عندهم صورة الشرق بعد انهيار الدولة العثمانية ، وفي العراق تفاجأت امريكا بانتفاضة الجماهير في 1991م وسيطرتهم على اغلب المحافظات ، فلجأت الى دعم نظام صدّام ، ريثما يتم الإعداد غربياً لعراق ما بعد صدّام ، فقمعت الإنتفاضة واعدم الآلاف ، حتى نضج المشروع الغربي في 2003م واطيح بالنظام الحاكم وجيئ ببعض العراقيين اللاجئين في امريكا واوربا وبعض البلدان الأخرى ليكونوا نواة الحكومة الجديدة .. وتفاجأت امريكا بوجود قيادة روحية فاعلة مؤثرة تتمثل في مرجعية النجف الأشرف التي املت على الأمريكان اللجوء الى صناديق الإقتراع التي افرزت الأغلبية الشيعية في العراق ، والتي طالبت بكتابة دستور غير تلك المسّودة الأمريكية التي جاء بها برايمر .. ثم تفاجأت الدول الكبرى بفتوى (الجهاد الكفائي) وتفاجأت بالزخم الروحي والمعنوي الذي يحمله الناس حين حفزتهم دعوة المرجعية على حمل السلاح ومقاتلة داعش..
ان كل ما نمرّ به من ازمات منذ القدم وحتى يومنا هذا يقع تحت هيمنة الفكر الغربي الداعم لقوة واقتصاد الدول الكبرى في العالم ، فكان الغرب سابقاً يحرص على جعلنا مزارعين في ارضنا التي يملكها الإقطاع حتى وصلوا بنا الى الإمبريالية ، بينما الناس مغيبون ينوب عنهم بعض الوجاهات والأسماء المعروفة والشخصيات المتأثرة بالغرب ، حتى في مرحلة التصويت وحرية الرأي ، ويبدو هذا واضحاً في خروج قيادات فاشلة وفاسدة من صناديق الإقتراع ، لأنه لم يكن للوعي الجماعي مكانه بين ابناء العشائر ، الا ذلك النفر القليل من المثقفين ، واسميهم المثقفين الحقيقيين تمييزاً لهم ، بسبب تعميم مصطلح المثقف على كل حامل شهادة او متحذلق ببعض المصطلحات العلمية كما يقول عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي ، الذين لا يؤثرون ولا يصنعون قرار العشيرة ، وعنددما ضعفت الدولة العراقية الجديدة بسبب الطائفية والتدخلات الخارجية وقلة وعي الناس وضعف الإحساس بالمسؤولية لدى القيادات والأحزاب والتيارات ، لجأت الحكومة الى العشائر لمساعدتها في فرض الأمن وصناعة حلول الأزمات ، وبقي الأكاديمي والمثقف الحقيقي في حدود الجامعة ونشر المقال وبعض اللقاءات التلفزيونية والندوات التي لم يبد لها اي أثر في تغيير أو تطوير طريقة تفكير القادة في البلاد ..
اختلفت معادلة الحكومة والناس عن السابق .. قديماً كانت الأنظمة الدكتاتورية تعتمد طريقة صلب المعارضين او المذنبين وتعليق جثثهم لعدة ايام في الطرقات ، ثم طريق (السحل في الشوارع) .. واليوم تغض الأنظمة الديمقراطية ، النظر عن الفاسدين والمجرمين في الدولة وتوفر الرعاية للإرهابيين المدانيين في سجون مكيفة وصحية ، حيث يرفض رئيس الجمهورية المنتخب التوقيع على احكام اعدامهم على الرغم من اطلاعه على الجرائم التي ترتكب بحق المدنيين .. في كلا نوعي الأنظمة كان الناس هم الضحية ، وهذا ما عمّق فكرة قوة العضلة وتفضيلها على قوة الفكر لدى الناس ، واسهمت الأحزاب السياسية والدينية في ترسيخ هذه المفاهيم القديمة من خلال الخيبة الكبيرة التي الحقتها العمامة والشهادة العالية المسيسة بطموح الجماهير ، فقد تغيرت نظرة الناس كثيراً عن السابق ، ففي عام 2003م رأيت الناس تمشي مغمضة العيون وراء المعمم القادم لادارة امورهم وعندما فتحت باب الإنتخابات فتش الناس بينهم عن الدكتور والمهندس والطبيب والعالم لينتخبوه ، ونجح ذلك المشروع الغربي بعد تغييب فكرة الإحساس بالمواطن ، بالجوع ، بالفقر ، وتعليق الآمال على مظهر المرشح اكثر من جوهره ، وعلى امكاناته المادية والعددية اكثر من امكاناته الفكرية ، وعلى خطاباته الشكلية اكثر من اعماله ، وادخل الجانب العاطفي لإغراء الناس من خلال استعراضات يقوم بها هذا المرشح أو ذلك الحزب أو المسؤول ، ووجود مفوضية مستقلة للانتخابات لا تشترط في المرشح اكثر من العمر والمؤهل الدراسي ، الى ان تفاجأ الناس بتزوير النائب المنتخب لشهادته والماضي السيء أو السلبي  لنائب آخر، والهدر الكبير في المال العام على حمايات النؤّاب ورواتب الرئاسات وقرطاسية ونثريات مكاتب المسؤولين المبالغ فيها ، امام جوع سبعة ملايين عراقي ، واكثر من 70% من البطالة في صفوف شريحة الشباب المهمة جداً في تكوين بنية المجتمع ، وملايين الأيتام والأرامل وذوي الشهداء وضحايا الارهاب والعنف .
والآن ، اذا نظرنا الى البلاد بعد 25 عاماً مثلاً ، وتساءلنا: هل هناك مستقبل ينتظرنا ..؟ بالتاكيد نعم .. ولكن السؤال الأهم ما هو شكل ذلك المستقبل ؟ اننا وعلى الرغم من كثرة الإخفاقات والإحباطات والتراكم المتواصل للفشل في مفاصل البلاد منذ عشر سنوات أو اكثر الا اننا اليوم نمتلك فرصة التغيير بعد أن جاد الزمان علينا من خلال مرجعية النجف الأشرف بفتوى (الجهاد الكفائي) حيث اصبنا قوة شبابية عقائدية اثبتت جدارتها ، ومضت بتوجيهات المرجعية في طريق استعادة التوازن لصالح البلاد والناس ، ولكن هذا لوحده لا يعني ان مشروع الغرب في العراق سيتوقف ، لذا علينا ان نحذر اي تحوير او تطوير لمشروع الغرب في البلاد والذي لا استبعد ان تكون مرجعية النجف هدفه القادم ..
ولكن كيف نحذر ..؟
يجب ان يرافق البناء العسكري لقوى الحشد الشعبي ، وعي يحث الناس على تشكيل طبقة مثقفة أو متعلمة تملك الإحساس بنبض الشارع ، لتكون مرجعاً اميناً لهم وقت الأزمات ، كي يصل الناس الى مرحلة صناعة قادتهم ، ليتجاوزوا مرحلة فرض القادة بالإنقلابات العسكرية ، أومرحلة استيرادهم بالديمقراطية الغربية .. ولعل الناس قد بدأوا يستوعبون مغزى دعوة المرجعية الى اختيار الأفضل والاكفأ ، ولو بعد سنين من المعاناة ، وسقوط الأقنعة عن وجوه ظل الناس مخدوعين بها لسنوات ، واتضاح اهداف الدول الكبرى في  البلاد والتي ستبقى تدعم مشروع العالمية التي يقول عنها الدكتور علي شريعتي ( العالمية اليوم كذبة يراد بها محو الشخصية الثقافية الحقيقية للجميع)..
على الرغم من وجود قيادات حقيقية مفكرة في العصر الحديث، تمتلك الإحساس بالثورة كالشهيد المفكر السيد محمد باقر الصدر الا انه تعذر علينا ان نمتلك الاحساس بالنهضة والثورة والتغيير، لأننا نفتقر الى ثنائية الوعي والإحساس معاً ، فلم ينجح  حزب الدعوة الإسلامية عندما صعد الى الحكم في العراق على الرغم من حضور فكر الشهيد محمد باقر الصدر في احاديث وخطب قيادات الحزب ، لكنهم فشلوا عملياً ، لأنهم يفتقرون الى آلية تفعيل وإعمال الفكر ، أو انهم لم يكونوا معنيين بهذا الجانب ، بينما نجد نجاح تجارب مماثلة في بلدان اسلامية اخرى مثل ايران.. ان صناعة الثورة فقط لا يكفي لإضفاء عامل الإستمرارية لها ، مالم يرافقها اشخاص كفوئين أو تلاميذ حقيقيين لحمل فكر المؤسس ، يمتلكون قدرة النهوض بذلك الفكر وادارة البلاد به من حيث لا ينضب او يتحول الى مجرد رمز او ذكرى كما هو الحال في العراق، حيث يحمل حزب الدعوة الاسلامية اسم الشهيد الصدر بينما فكره تحوّل الى ذكرى سنوية يحييها الحزب الذي كشفت الأيام عن تورط كثير من رجالاته بالفساد والفشل الإداري .. ولم يقدم للناس حلولاً جذرية لمعاناتهم في الوقت الذي اعتمد فكر الشهيد ذلك ..
لكي ننهض بواقع مجتمعنا ، لا بدّ ان يكون لنا وعينا الخاص ، وعي مستقل نستقيه من تجاربنا وتراثنا وحاجاتنا وظروفنا ، لا بصمة فيه لسياسات خارجية وثقافات مستوردة .. وعي نستقيه من قيم تاريخنا الاسلامي ، وهذا الوقت مناسب جداً لصناعة هذا الوعي في الناس ، لأن وجود الوعي مع العقيدة يعني صناعة مجتمع قوي يصعب اختراقه والتحايل عليه .. وعدا ذلك ، اما ان تتحول بطولات الحشد الشعبي الى ذكريات اذا ما تمكنت مشاريع الدول الكبرى منه ، واما اننا سنتفاجأ غداً بقيادات جديدة لا تختلف في منهجها عن منهج السابقين ..
قديماً جرّب الاستعمار تغيير طباع الناس وعاداتهم وطريقة تفكيرهم واكلهم ولبسهم ، لكنه اصطدم بالعصبية العربية للعقيدة والعادات .. الا انه لم يترك الأمور عند حد الإصطدام ، بل أخذ يفكر بالطريقة التي يُخضع بها البلد المحتل الى ارادته حدَّ تحكمه بطريقة ونوع تفكير الناس ، فوجد ان الدخول اليهم من خلال العقيدة يعطي النتائج المرجوّة ، ومضت الآلة الغربية في تحركها صوب شخصية العربي المسلم ، الذي اصبح بعيداً عن تراثه وقيمه ، قريباً من حضارة الغرب وصناعاته المتطورة الجذابة ، ويوماً بعد آخر اتسعت الفجوة بينه وبين قيمه وتراثه ، فأصبح متعلقاً بالصناعة الغربية الحديثة منهمكاً في اقتنائها لأنها تسد عنده ثلمة في شخصيته ، يراها كلما وقف أمام بلاده ، يتامل وجهه العربي المتغربن الذي اصبح ضائعاً بعد حضارة عمرها آلاف السنين ، وأمياً بعد مئات السنين على وجود المدارس الدينية ، وجاهلاً بعد عشرات السنين من عمر الجامعات والدراسات الكاديمية..
هكذا ضاع الانسان .. وهكذا يمكن ان نجده ، من خلال تزامن العقيدة والمعرفة بها معرفة واعية، مع رغبة الناس بالوصول الى غد افضل.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=66713
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 09 / 02
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29