• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : ابن خلدون رائد الفلسفة الواقعية .
                          • الكاتب : حسين جويد الكندي .

ابن خلدون رائد الفلسفة الواقعية

ربما لم يحظى احد من الفلاسفة بالاهتمام الذي حظي به ابن خلدون , خاصة تلك الدراسات التي تتعلق بمقدمته المشهورة , والتي أولى علماء الاجتماع والسياسة عنايتهم الفائقة عليها وركزوا جل دراساتهم فيها , فأكثروا من تناول موضوعاتها بحثاً وتمحيصاً .

   وعلى الرغم من ضخامة العمل الذي أنجزه ابن خلدون , حيث يعود له الفضل في اكتشاف علم جديد عرف عند الأوربيين بعده بنحو ستة قرون بـ ( علم الاجتماع ) إلا إن أحدا لم يلتفت إلى ماقام به حتى جاء " دربلوا " صاحب كتاب ـ المكتبة الشرقية ـ الصادر سنة 1697 م ليُضَمِن كتابه هذا مقالا عن ابن خلدون وبعض المقاطع من مقدمته / علي عبد الواحد وافي ( مقدمة ابن خلدون ) ص 167 ـ 177 .

    إلا إن الاهتمام الفعلي بنظرية ابن خلدون وبعلمه الجديد وطريقته في دراسة المجتمع ووضعه لأسس نظرية اجتماعية عامة وتمكنه من موائمة الجزئيات الحياتية المعاشة مع الأسس والمنطلقات العلمية   , لم تظهر في أوروبا إلا في أوائل القرن التاسع عشر عندما نوه شولتز الألماني عام 1812 م إلى أصالة بحوث ابن خلدون الاجتماعية في رسالة بالألمانية  , ومقالاً بالفرنسية في المجلة الآسيوية عام 1822 م , وسماه بـ ( مونتسكيو العرب )  ومنذ ذلك الحين بدأ اهتمام الأوربيين بابن خلدون يأخذ طابعاً علمياً , وحيث احتل الفرنسيين قصب السبق إلى هذا الميدان , ففي عام 1835 م  أخرج ( اوجست كونت ) كتابا ابتكر فيه اسما لعلم الاجتماع ( sociologi ) , ثم ظهرت بعد ذلك مقدمة ابن خلدون مترجمة إلى الفرنسية وبثلاثة أجزاء عام 1862 ـ 1868 م .

   ومن هنا فقد اختلفت الآراء حول من أسس علم الاجتماع الحديث ابن خلدون أم البروفسور كونت ؟ , وهل اطلع الثاني على النتاج المعرفي للأول ؟ , وهل هناك تأثير في النظرية الاجتماعية الكونتية لآراء ومعتقدات ابن خلدون في علم المعاشرة ؟ , بقيت هذه الأسئلة وسواها تتداول في الأوساط العلمية الأوربية , مما أوجد نوعاً من الاهتمام بالدراسات الخلدونية في عموم أوروبا بحيث ترجمت المقدمة عدة مرات وبلغات متعددة , والثابت أن شخصية علمية كالبروفسور كونت لايمكن لها ألا أن تَطََلع على الآراء والنظريات التي تتناول موضوع العلم الذي تدعي اكتشافه , وعلى فرض معرفته بالعلم الجديد الذي تناوله ابن خلدون في مقدمته , إلا إن تأثيرها لايبدوا قويا وفعالا على الصياغة النظرية أو الإطار الفكري الذي تُهيكِل نظرية كونت بداخله , فقد تأثرت نظريته الاجتماعية بالتراث الفكري السائد في أوروبا حيث النمط الغربي المختلف في ملامحه وخطوطه عن علم الاجتماع الخلدوني .

    أما في البلاد العربية فقد جاء إليها الاهتمام بابن خلدون ونظرياته الاجتماعية مستورداً من البلاد الأوربية شانها شأن الصادرات الكثيرة والموضات المتعددة التي تحل علينا هنا في شرق العالم , وكان ذلك في البواكير الأولى من القرن العشرين .

   استُغِلت الدراسات الاجتماعية الخلدونية عبر تاريخها من قبل الاوربين بالدرجة الأساس في تحقيق المآرب السياسية ومعرفة المجتمعات الشرقية التي تهيمن عليها القوى الكونيالية فـ ( من العوامل التي جعلت الفرنسيين أكثر من غيرهم اهتماما بابن خلدون هو أن فرنسا كانت في ذلك الحين تستحوذ على الجزائر وتطمح في الاستحواذ على بقية ألأقطار المغربية , ولما كان تاريخ ابن خلدون ومقدمته أول بحث مسهب من نوعه في تاريخ المغرب ووصف مجتمعه فلا غرابة إذن في أن يكون ابن خلدون موضع اهتمام الفرنسيين ) الدكتور علي الوردي / منطق ابن خلدون ـ ص 234 .

   أما في البلاد العربية فقد بدى التأثر بالنظرية الاجتماعية الجديدة لأبن خلدون باهتاً وغير ذي أهمية حتى في الأوساط العلمية , ويكفي للدلالة على هذا المعنى مايحكى في هذا الصدد أن الشيخ محمد عبده وبعد عودته من المنفى عام 1888 م حاول أن يقنع الانبابي شيخ الأزهر بتدريس المقدمة فيه , إلا أن الانبابي أجابه بان العادة لم تجر بذلك , والسبب في ذلك يعود إلى أن العرب والى بدايات القرن العشرين كانوا يعيشون بنفس العقلية بل وحتـى الكيفية الاجتماعية تقـــــــريباً للعقلية والكيفية التي كتب ابن خلدون فيها مقدمته .

 ومن هنا فلا غرابة أن نجد في العرب قبل سبعين عاما ليس أكثر ممن يقرأ مقدمة ابن خلدون ويصفها بالتافهة , فأنها لاتعدوا أن تكون وصفاً وشرحاً لأمور اعتيادية كما في عادات البدو والحضر وما شابهها وهي أمور يشاهدونها يومياً في حياتهم .

   إلا إن التحول الجديد في الحياة العلمية العربية جاء بعد ذلك , عندما بدأ الاهتمام بالدراسات التراثية يأخذ بعدا قومياً نتيجة الاستعمار والهيمنة الغربية الذي كانت تعاني منه الأراضي العربية من الشام ِ .... لتطوان ِ , وتوجه المفكرين العرب الى إيجاد مساحة ما للهوية العربية التي كانت تعاني الضياع وسط الخور والعجز الذي المَ بالدولة العثمانية التي ألغت الهوية القومية العربية تحت ذريعة الخلافة الإسلامية .

   حيث تناولتها الدراسات العربية باهتمام كبير ولكن هذا الاهتمام جاء وهو يصطبغ بالبعد السياسي حينا والاجتماعي حيناً آخر تبعاً للظرف المرحلي الذي تنشأ فيه , ومن هنا احتلت نظرية ابن خلدون الفلسفية مكانا بارزاً في الفكر السياسي والاجتماعي العربي الحديث  , فكانت التعبير عن طموحات النخبة العربية في إقامة دولة ذات هوية قومية تستند في وجودها وديمومتها على روح القوانين والأنظمة التي تحكم وجود وحركة المجتمع العربي والتي فطن إليها ابن خلدون عند تأسيسه لمذهبه الواقعي في الفلسفة الاجتماعية , وهذا محور نظرية ابن خلدون عند الدكتور طه حسين حيث تركزت المشكلة لديه في ( أن ابن خلدون يقرر أن هناك قوانين تسير الحركة الاجتماعية وانه يجب البحث عن تلك القوانين بدرس المجتمع في ذاته ) د: سامية الساعاتي / ابن خلدون مبدع علم المعاشرة .

    أي هناك من القوانين الموجودة في المنظومة الفكرية والسلوكية العملية لأي مجتمع , تأهله عند خضوعه لها لتكوين دولة تستند في وجودها إلى القوة التي تجعل من تلك المفاهيم قوانين يصعب تبدلها , فيكون عند ذلك القانون المستند إلى الأيدلوجية الفكرية التي يؤمن بها المجتمع , الركن الأساسي لوجود الدولة العصرية , وهذا التفسير للنظرية الخلدونية وكما هو واضح يستند إلى البعد السياسي , حيث لم يستطع الدكتور طه حسين أن يتخلص من نطاق المرحلة الفكرية التي كان العرب يمرون بها , والتي تجذرت في الأدبيات العربية بعد ذلك لتؤسس للأحزاب والتيارات القومية التي ظهرت على الساحة العربية بعد الحرب العالمية الأولى .

   ومرة أخرى يعود الفكر العربي الحديث إلى استثارة نظرية ابن خلدون عندما وجد نفسه محاطاً بعصبية أخرى لاتقل أهمية من العصبيات القبلية التي كانت سائدة أيام ابن خلدون أو حتى العصبيات المذهبية التي كانت أيام العثمانيين , وهذه المرة تتمثل بالعصبية القومية التي أدت في نهاية المطاف إلى ظهور الدكتاتوريات العسكرية التي حكمت أجزاء واسعة ومهمة من الوطن العربي , وهو مادعى العلامة ساطع الحصري إلى تركيز عمله على ( البحوث التي تدرس ظواهر هذا الاجتماع ) المصدر السابق , تلك الظواهر التي تجسدت للحصري بهيئة العصبية السياسية التي أشار إليها ابن خلدون ضمناً في مقدمته .

   وبعد ذلك جاء الدكتور علي الوردي ليحول الأنظار إلى الدراسات الخلدونية مرة أخرى عندما تحدث عن تأثير البداوة وقيمها في التكوين الاجتماعي للمدن الحضرية في الفترة التي أصبحت فيها التحولات الاجتماعية في الوطن العربي تمثل حلقة في سلسلة النهضة بمعناها الفكري والقيمي والمفاهيمي , حيث عالج الوردي وفي ضوء نظرية ابن خلدون تأثير الطفرة أو التحول المفاجئ من البداوة وما تختزن من قيم وعلاقات اجتماعية وأعراف إلى التحضر وانعكاسات ذلك على مستويات الحاضرة أو المدنية السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية وغيرها .

   تمحورت عناية الباحثين في الدراسات الحديثة حول النظرية الاجتماعية لأبن خلدون لتأخذ كل منها بعداً خاصا يتلاءم مع الطرح الفكري ونطاق المرحلة السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي التي تمر بها المجتمعات العربية منذ قرن من الآن , تماما كما حدث عندما كان الأتراك مهتمين جداً بمقدمة ابن خلدون بحيث ( ترجمة المقدمة إلى اللغة التركية قبل ترجمة الفرنسيين بمدة تزيد على القرن ) ساطع الحصري / دراسات في مقدمة ابن خلدون ـ ص140 ـ 141 .

    وما ذلك منهم حُباً في التراث العربي ولا لسواد عيون ابن خلدون وإنما لرأيهِ في الخلافة الذي خالف به إجماع الفقهاء حيث يذهب إلى إن ( النسب القرشي ليس ضرورياً للخليفة )الوردي / منطق ابن خلدون ـ ص 231 , ومن المعلوم أن العثمانيين حكموا البلاد بقوة العصبية والسيف والمعروف عن سلاطين العثمانيين أنهم ادعوا الخلافة لأنفسهم على الرغم من كونهم غير قرشيين , فكان موكداً أن تنعم مقدمته باحترام أفندينا  في الأستانة وغيرها من أقاليم السلطنة , وهو تسخير للنظرية العلمية في سبيل تحقيق مأرب سياسي كما هو واضح .

   ومن هنا فان فلسفة ابن خلدون الاجتماعية استوعبت خلال القرون الماضية معظم المناهج البحثية فيما يخص علمي الاجتماع والسياسة , والرأي عندي إن محور دراسة المنهج الفكري لابن خلدون يجب أن يكون ليس باعتباره سياسياً شاطره الملوك والسلاطين وجهات النظر , حتى نال احترام وتقدير تيمورلنك عند لقائهما في القاهرة ,  ولا باعتباره فقيهاً مالكياً يُدرس الموطأ وأحاديثه الثلاثمائة , بل يجب دراسة ابن خلدون باعتباره فيلسوف الواقعية الاجتماعية الرائد والذي يدين له الفكر الفلسفي العربي لأحداثه التحول المنهجي الكبير في البنية الفلسفية لعلم الاجتماع أو كما يسميها هو ( علم المعاشرة ) .

    إن التغيير الجذري الذي أحدثه ابن خلدون في الصورة النمطية المتعارفة عند العامة عن الفلاسفة , تتمثل في كونه قام بنقلة نوعية نهضة بالفلسفة من التصور الطوباوي إلى الواقعية المجردة لوجود وحركة الإنسان والمجتمع .

   ولعل السبب في عدم دراسة فكر ابن خلدون باعتباره فيلسوفا واقعيا يعود إلى عدة أسباب منها ما يتعلق به حيث تجنب وطيلة فترة حياته أن يحسب على الفلاسفة حتى أن بعض دارسي حياته يعده من بين فقهاء المالكية المتزمتين الذين لاشان لهم بالأدلة العقلية , لقد تولد لدى ابن خلدون هذا التعتيم على منهجه الفلسفي من آثار المتصدين للفلسفة في مغرب العالم الإسلامي ولم ينسى ما الم بابن رشد عندما اصدر أبو يوسف المنصور بيانا يحذر فيه من الفلسفة وهو طويل نقتطف منه ( فلما وقفنا منهم على ماهو قذى في جفن الدين ودكنة سوداء في صفحة النور المبين نبذناهم في الله نبذ النواة وأقصيناهم حيث يقصى السفهاء من الغواة وأبغضناهم في الله ) محمد غلاب / الفلسفة الإسلامية في المغرب ـ ص 63 ـ 66 .

    ولعل السبب الذي ساقته الدكتورة سامية الساعاتي حول كونه ( فقيهاً ولا يريد أن تثار من حوله الأقاويل فيساء فهمه ) ليس تاما من جهته السببية باعتبار شخص ابن خلدون  وإنما تمامه من غير جهته , فاتخاذه ذريعة الفقيه جاءت من جهة التقية من سلاطين زمانه والفقهاء والعامة  لاحُباً بالفقه  , وعلى كل حال فاكتشاف الفقيه لعلم ( مستحدث الصنعة غريب النزعة ) لايثير حوله الشكوك مالم يكن مشتغلا بالفلسفة في ذلك الوقت ( والله العالم ) .

    ومنها مايتعلق بالظرف الاجتماعي والسياسي المحيطين به  , التي لم تكن لتسمح بالخروج عن المعتاد في أمر الأعراف والتقاليد وعدم مراعاة ماعليه السلف وأئمة الدين , ذلك المنهج الذي أدى في نهاية المطاف إلى جمود المذاهب العلمية  , على صيغة مبتدعيها ومؤسسيها , وهو ماعانى منه ابن خلدون وجاهد في نقده وتحليله فهو يقول واصفاً ذلك الحال ( لايمكنه ــ أي الفيلسوف ــ مخالفة سلفه في ذلك إذ العوائد حينئذ تمنعه وتقبح غلبة مرتكبه ولو فعله لرمي بالجنون والوسواس في الخروج عن العوائد ) , حتى انه تمادى في نقد الفلسفة في مقدمة التاريخ وبين كيف أنها تؤدي إلى الكفر .

    والرأي الغالب  انه كان يمر بمرحلة التقية المكثفة التي أخفى من خلالها نزعته الفلسفية في علم الاجتماع وهو من ألف فيها التصانيف الجليلة بعد أن درس الفلسفة التقليدية وألف كتاب " المنطق " وآخر في " تلخيص فلسفة ابن رشد "  وآخر لخص كتاب " المحصل "  لفخر الدين الرازي وأورد عليه ردا مستمدا من نصير الدين الطوسي ( وقد ضاعت هذه الكتب ولم يبق منها إلا الكتاب الأخير وهو الآن محفوظ في مكتبة الاسكورال قرب مدريد ومكتوب بخط ابن خلدون نفسه وفيه نجد ابن خلدون يصف الطوسي بالإمام الكبير ) /عبد الرحمن بدوي ـ مؤلفات ابن خلدون ص 67ـ 70 .

   لم يكن نصير الدين الطوسي وحده الذي تأثر بفلسفته ابن خلدون ومن الممكن القول إن لقرب الفترة بينهما جعلت من وجهات نظر كل منهما لبعض القضايا متشابهه ,  خاصة وان كل منهما أمتحن برفقة السلاطين وتبوء المناصب الحكومية بالإضافة إلى مكانته العلمية , ابن رشد كذلك كان له الأثر البين على نتاجه , ولا ننسى أثر عبارات الفارابي على مقدمة ابن خلدون , ولا تفاؤل ابن سينا في الكون والوجود , ويكاد رأيه يتطابق مع نظرية إخوان الصفا في الدولة , وفي المقابل فان تأثير فقيه المدينة لايكاد يلاحظ في الفكر الخلدوني , إلا اللهم تدريسه للموطأ في القاهرة , وبعد كل ذلك لا يبقى لسؤال بعض الباحثين ( هل كان ابن خلدون فيلسوفا ؟ ) معنى يذكر .   




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=63241
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 06 / 18
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29