• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : طين .
                          • الكاتب : حيدر الحد راوي .

طين

اليوم , توقف هطول المطر , بعد ان استمر ثلاثة ايام متتالية , أرسلت الشمس اشعتها الذهبية , ناشرة الضوء .. الدفء , كأم رؤوم  , تحتضن الارض والسماء , الشجر والماء , البشر وسائر الاحياء .

 خرجت من البيت كي العب او لعلي التقي بأصدقائي الاطفال , فنلعب سويا , لم يك هناك احد سوى الكبار , بعضهم يصلح مبازل ماء المطر من البيوت الى الشارع , واخرون هرعوا الى الاسواق , اثناء ذلك سمعت صوت صديقي عبيس واخته بنبن يلعبان في حديقة منزلهما , استرقت النظر الى الحديقة , اكتشفت انهما يلعبان بالطين , رغم البرد .. وبرودة الطين , كادت اناملهما ان تتجمد , لكنهما كانا يلعبان بمرح وحبور , لم يعيرا لذلك أي اهمية . 

لم يك يهمني عبيس ولا لعبته , بل كنت مهتما جدا بالتقرب من بنبن .. اخته , وقفت بالقرب منهما , اقرب ما اكون اليها , ناظرا الى ما يعملان .. يصنعان في الطين , فقد صنع عبيس بيتا مسورا بسياج صغير , داخله رجل وكلب حراسة وعدة شويهات , بهرني ذلك , قد صنعها بدقة كأنه نحات ماهر , وكان يشرح قصة البيت والرجل والكلب والشويهات , يروي عنهما العجائب , ثم صنع ذئبا يسترق النظر من خارج السياج , ينتظر ان تحين اللحظة المناسبة لينقض على الشويهات او احداها . 

تركته والتفت الى بنبن , التي صنعت عدة دجاجات وديك , وبيت صغير زعمت انه قنهن , اثناء ذلك تروي الكثير من الروايات عن دجاجاتها وديكها , بدت انها مقتنعة تماما بحقيقة تماثيلها , بهرني صنعها , وادهشتني حكاياتها , غازل انفي رياحين أريج عطر مسك طيب عبق نسيم طيناتها , اسكرني فعلها , حتى اني صدقت كل كلامها , وبدت لي التماثيل ذواتا حقيقية .   

قررت ان اصنع كما صنعا , وابحث لي عن قصة ارويها عما اصنعه , اتخذت لي مكانا مقابلا لها , اكتشفت اني لست بارعا في صنع التماثيل ولا حتى في حكاية القصص عنها , مرّ وقت طويل ولم افلح بصنع رجل واحد , وبالكاد صنعته , ثم قطعت عودا صغيرا جعلت منه انفا له , انفجر عبيس ضاحكا على انف تمثالي , تبعته بنبن بضحكاتها الخافتة الخجولة , لم يك لتهمني ضحكات عبيس , لكني فرحت كثيرا لأني تمكنت ان اجذب انظارها الي . 

خيّم الصمت قليلا لانشغال كلا بطيناته , او مستغرقا في تفكيره بحثا عن قصة يرويها عنها , وبشكل مفاجئ اصدر عبيس ضحكات شريرة , التفت اليه , فأشار الى تمثاله "الرجل" , نظرت اليه , اكتشفت انه قد استعار فكرتي  فقطع عودا صغيرا , لكنه لم يضعه كأنف للرجل , بل وضعه في مكان الجهاز التناسلي , عبست بنبن واسرعت نحو البيت , انزعجت وغضبت بدوري لذهابها , لمته ووبخته لذلك , لم يك همي ما صنع , بل تركز همي وغضبي لما تسبب بذهابها , لم يبال عبيس لذلك واستمر بضحكاته الشريرة , يا لسوء حظي ! , لكنها لم تلبث طويلا حتى خرجت بصحبة والدتها مغضوضبة , حاملة بيمينها عصا غليظة صارخة :         

- سوف ألقنك درسا لن تنساه يا عبيس بن هديرس ! .  

كانت هيئتها مكفهرة , مرعبة , لاذ عبيس بالفرار , قال لي انه سيعود للبيت حين تهدأ ثورة غضبها , جفلت ساكنا في مكاني , متفرجا عليها وهي تحطم كل التماثيل التي صنعناها , بعد ذاك اخذت بيد بنبن وعادتا الى البيت . 

بقيت وحيدا مع تماثيل الطين , التي فقدت ذواتها .. حكاياتها .. عطر نسيمها , وربما قيمتها , رغم ان اثار اصابع بنبن لا زالت على بعضها , وعادت الى كينونتها .. مجرد طين ! .   




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=58133
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 02 / 22
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19