• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : بحوث ودراسات .
                    • الموضوع : الصلاحيات المالية في التشريع الإسلامي .
                          • الكاتب : د . رزاق مخور الغراوي .

الصلاحيات المالية في التشريع الإسلامي

تمهيد:

    يحرص التشريع الإسلامي على حفظ الأموال وصيانتها ،لا لأجل المال نفسه و إنما لتحقيق أهداف النظام الاقتصادي الإسلامي المتمثلة بتحقيق التوازن الاجتماعي ،فهناك علاقة قوية بين تحديد الصلاحيات المالية للموظفين المسئولين عن الصرف وتحقيق التوازن الاجتماعي،فالالتزام بالصلاحيات الممنوحة والمحددة من قبل الشارع المقدس يعني صرف هذه الأموال في المواضع المخصصة لها وذلك يعني السير خطوات في اتجاه تحقيق التوازن الاجتماعي ،من حيث عدم الإسراف وتبذير الأموال أو هدرها واختلاسها أو سوء استخدامها،يقول الإمام علي (ع) :" ألا وان إعطاء هذا المال في غير حقه تبذير وإسراف" (غرر الحكم، 1366 هـ.ش[1]:359)،إن أي خطا أو تجاوز في الالتزامات والصلاحيات المالية سواء أكان متعمدا أم غير متعمد فانه سيؤدي لا محالة إلى نتائج سلبية يمتد أثرها على المصلحة العامة للمجتمع بأسره. يقول الله تعالى:" إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها" (النساء،58)، والأمانة بمعنى القيام بما تقتضيه الوظيفة من أعباء ومهمات من إنجاز الأعمال المطلوبة على وجه الدقة والإتقان ،فإن الأعمال الموكولة إلى الموظف الإداري – كسائر الموظفين هي مصالح الناس التي أوكلتها الحكومة إليه ،فهي باعتبار أمانة للحكومة وباعتبار آخر أمانة للناس،ومقتضى الآية وجوب الأداء ولا يتحقق الأداء إلا بالعمل الكامل من حيث ساعات العمل والكيفية وبالإتقان(شمس الدين، 1421: 357). فالأموال والثروات والمناصب والمسؤوليات والمهام والرساميل الإنسانية والثقافات والتراث والمخلفات التاريخية كلها أمانات إلهية سلمت بأيدي أشخاص مختلفين في المجتمع والجميع مكلفون أن يحفظوا هذه الأمانات ويجتهدوا في تسليمها إلى أصحابها الأصليين ولا يخونوا فيها أبدا،لقد ورد تأكيد كبير على مسالة الأمانة في المصادر الإسلامية إلى درجة إننا قلما نجد مثله في مورد غيره من الأحكام والمسائل وذلك لأهمية هذه المسالة وخطورة النتائج المترتبة على عدم الالتزام بها(الشيرازي، 1413هـ: 250 )،يقول النبي(ص):" آية المنافق ثلاث :إذا حدث كذب وإذا وعد اخلف وإذا ائتمن خان"،ويقول الإمام الصادق(ع):" لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده ،فان ذلك شيء اعتاده فلو تركه استوحش ،ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته"( الشيرازي، 1413هـ: 250)، وقد عبر الإمام علي(ع) عن المسؤولية الوظيفية بأنها أمانة ،وقال في خطابه لأحد عماله :" وإن عملك أمانة وليس لك بطعمة"(شمس الدين، 1421: 357).

     لقد عني الإسلام بالصلاحيات والمسؤوليات عناية بالغة بهدف وضع الشخص المناسب في المكان المناسب ، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الإسلام يؤكد على المحتويات الشخصية للإنسان وتكامل العناصر المختلفة فيه للعمل المنوط به، إضافة إلى ما يلم به كل شخص من علم ومعرفة بالأمر الذي يتم تكليفه به بحيث يكون صالحاً لأدائه من كافة الجوانب الشخصية والعلمية حيث يؤكد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله "من ولي أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح منه للمسلمين فقد خان الله ورسوله"، وعلى هذا الأساس فقد استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم اثنين وأربعين كاتباً وقسم الأعمال بينهم وحدد اختصاصات لكل منهم ، فهنالك كتاب الوحي، وكتاب العهود ، وكتاب الأموال (المحاسبين) (يحيى وأيوب، 1427هـ)[2].

     فضلا عن ذلك فقد كان هناك اهتماماً بالتقسيمات الإدارية للشؤون المالية في الدولة الإسلامية ، حيث كانت مالية الدولة الإسلامية مقسمة على ثلاثة أقسام لكل قسم أبواب للدخل وأخرى للصرف ولا يجوز الجمع بين قسم وآخر، ولا ينبغي أن يجمع مال الخراج إلى مال الصدقات والعشور ، كما لا يجوز أن يصرف إيراد أحد الأقسام في مصاريف الأخر ومن أهم الوظائف العامة التي كانت لها علاقة بالأموال ما يأتي: وكيل الإمام عن الشؤون المالية ، صاحب السوق (المحتسب) ، الوزان ، الكيال صاحب الجزية ، صاحب الأعشار ، مستوفي خراج الأرضين ، صاحب المساحة (خاص بالأراضي الزراعية) ، العامل على الزكاة ، العامل على الصدقات ، الخارص (مقدر المال بين طرفين) ، صاحب المواريث (ورث من لا وارث له) ، المستوفي (قابض المال لنقله إلى بيت المال) ، المشرف (مراجع حسابات المال) ، صاحب بيت المال (خازن النقدية) ، صاحب بيت المال (خازن الأنعام) ، صاحب بيت المال (خازن الثمار) ، صاحب مراعي الزكاة ، صاحب دار الضيافة (نشأ في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم) ، صاحب دور الفقراء (عائل من ليس لهم أهل – في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم) ، صاحب دور المارستان (دور علاج المرضى) ، صاحب الزوايا والتكايا (نشأت من دور الفقراء) (يحيى وأيوب، 1427هـ)[3].

  وإذا أردنا أن نعرف طبيعة الصلاحيات المالية التي كانت مطبقة في عهد الدولة الإسلامية ،فإننا نلاحظ إن" نظام إدارة الأقطار الإسلامية نظام لامركزي كامل في شؤون الإدارة ترك للوالي حرية التصرف في شؤون الولاية يساعده رؤساء الدواوين المختلفة وهو مقيد بأحكام الشريعة وأوامر الخليفة ،فالولاية كانت سلطة محلية مستقلة فيها تشكيلات كاملة ،وبيت مال مستقل "(القرشي،1966: 389). ففي مقابل الصلاحيات الممنوحة للوالي يشرف الإمام إشرافا كاملا على ولاته ،يحاسبهم في كل صغيرة وكبيرة ،وهذا أمر طبيعي بل وضروري في النظام اللامركزي حيث يحصل الوالي على تفويض كامل ،فقد بعث الإمام علي(ع) إلى بعض عماله يقول:" أما بعد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك وعصيت إمامك ،وأخزيت أمانتك .. بلغني انك جردت الأرض فأخذت ما تحت قدميك أكلت ما تحت يديك ،فارفع إلي حسابك ،واعلم إن حساب الله أعظم من حساب الناس" (الموسوي،1998: 168)

   وهذا يعني إن أمر الصلاحيات المالية التي هي أحد شؤون الإدارة تكون مقيدة بأحكام الشريعة وأوامر الخليفة(الإمام)،فنرى إن من أهم الأمور التي كان يعني بها الإمام (ع)  المحافظة على أموال المسلمين وصرفها على صالحهم ،فلم يجز أن يستأثر رجال الحكم بأي شيء منها ،وكتب (ع) لزياد بن أبيه وهو خليفة لعامله عبدالله بن عباس وقد بلغه عنه شيء من الأثرة بأموال المسلمين فكتب إليه" و أني اقسم بالله قسما صادقا لئن بلغني انك خنت فيء المسلمين شيئا صغيرا أو كبيرا لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر ثقيل الظهر ضئيل الأمر" ،كما أوصى عماله بالتجنب عن الإسراف وبالاقتصاد، فقد جاء في بعض كتبه إلى بعض عماله:" فدع الإسراف مقتصدا واذكر في اليوم إذا ،وامسك من المال بقدر ضرورتك وقدم الفضل ليوم حاجتك ، أترجو إن يعطيك الله اجر المتواضعين ،وأنت عنده من المتكبرين  ،وتطمع وأنت متمرغ في النعيم تمنعه الضعيف والأرملة إن يوجب لك ثواب المتصدقين وإنما المرء مجزي بما أسلف وقادم على ما قدم" ،إن الإمام (ع) أهم ما يعنيه الاحتياط على أموال المسلمين وإنفاقها على مصالحهم ،وإعالة ضعيفهم و محرومهم ،وليس للجهاز الحاكم أن يصطفي منها أو ينفق أي شيء على مصالحه وتدعيم حكمه أو منصبه(القرشي،1966: 232-233)،كما انه (ع) حذر عماله الماليين من الخيانة ،و أوصاهم بحفظ الأمانة :" ومن استهان بالأمانة ورتع في الخيانة ،ولم ينزه نفسه ودينه عنها فقد احل بنفسه الذل و الخزي في الدنيا وهو في الآخرة أذل و أخزى" (الموسوي،1998: 171). ومما سبق نرى إن قاعدة الصلاحيات الإدارية والمالية كانت مطبقة في عهد الدولة الإسلامية ،فهي كانت تطبق وفقا لأحكام الشريعة وأوامر الإمام ولم تقتصر التعليمات المتعلقة بهذه الصلاحيات على تحديد مجالها فحسب بل اشتملت تلك الأحكام عقوبة من لا يلتزم بها دنيويا وأخرويا.

    يستخلص من الفقرة السابقة المتعلقة بمحاولة تأصيل المعايير المحاسبية الحكومية المحلية على وفق النظام الاقتصادي الإسلامي ، أن تلك المعايير لها ما يؤيدها ويثبت وجودها مفاهيم ومبادئ وأسس ومعايير في التشريع الإسلامي.

    فقد وردت عدة معايير محلية تحدد بعض المفاهيم والمصطلحات العامة المتعلقة بالوحدة المحاسبية الحكومية وأهمية العمل المحاسبي عامة والعمل المحاسبي الحكومي خاصة ، وما يرتبط بذلك من تحديد لطبيعة نشاط الوحدات الحكومية ونطاق عملها ونوعية المحاسبة فيها والتقارير المطلوبة منها.

    و لاحظنا أن معظم المبادئ والمفاهيم المرتبطة بتلك المعايير موجودة في التشريع الإسلامي ، ابتداءً بتحديد أهمية الكتابة والزمن والعمل المحاسبي في تنظيم جوانب عديدة في حياة الإنسان خاصة فيما يرتبط بحفظ الحقوق المالية وصيانتها ، ومرورا باستخدام الوسائل والأساليب الكفيلة بحفظ  هذه الحقوق وكيفية صيانتها والرقابة عليها، وذلك يؤكد اهتمام الشارع المقدس بإيجاد نظام محاسبي متقن يحفظ أموال الناس عامة عن الضياع، ويرفع التنازع والخصومات التي قد تنشأ بسبب تلك الأموال ، وهذا يعني وجود نظام محاسبي (أي هيكل وأسس ومقومات وقواعد وإجراءات ونحوها) في الإسلام يضمن تحقيق الأهداف المطلوبة منه في المجتمع الإسلامي.

     وقد أقر التشريع الإسلامي بضرورة استخدام الكتب والتقارير (التحريرية) وسيلة فعالة في إيصال المعلومات اللازمة والمتعلقة بكل جوانب حياة الإنسان اليومية ، ويصبح الأمر لازما وحيويا فيما يرتبط بالجوانب المالية والاقتصادية منها حفظا للحقوق المالية وتحقيقا للمصالح العامة والأمن والاستقرار الاجتماعي بين الناس، وتبعا لذلك استخدمت أنواعا معينة من التقارير والقوائم المالية التي تعبر عن ظروف وأحداث ذلك العصر وتفي بمتطلبات واحتياجات قارئيها( مستخدميها) آنذاك.

    ومن الأساليب والإجراءات الفعالة في حفظ الحقوق المالية وصيانتها التي تم تطبيقها في الدولة الإسلامية هي تحديد الصلاحيات والمسؤوليات المالية للموظفين والعاملين في بيت مال المسلمين والجهات التابعة له ، وبينا أن التشريع قد اعتبر هذا العمل بمثابة حفظ الأمانة وصيانتها وأن التفريط بها أو خيانتها هو من الكبائر والأعمال المحرمة في الإسلام.

    من جهة أخرى وجدنا إن التشريع الإسلامي يبيح استخدام كل ما لا ينافي العقل والمنطق السليم اللازم لحفظ الحقوق المالية ووفقا لأحكام الشريعة السمحاء، فكل ما لا يخالف الأحكام والقواعد الشرعية يمكن استخدامه أساسا للقياس والعمل والتنظيم المحاسبي ، فقد استخدم الأساس النقدي منذ بداية تأسيس الدولة الإسلامية ، ومع تغير وتطور الظروف الاقتصادية للدولة الإسلامية ، واتساع رقعتها الجغرافية وكثرة وتنوع الأموال الواردة إليها ، نقول إن ذلك استدعى استخدام أسس أخرى أكثر ملائمة لهذه الظروف، فتم استخدام أساس الاستحقاق وأسس معدلة أخرى منه، إن ذلك يثبت أمرين في الوقت ذاته ، أولهما: إن معظم أسس القياس المحاسبي المعاصرة موجودة في النظام الاقتصادي الإسلامي وهي ذات جذور إسلامية ، وثانيهما : أن النظام الاقتصادي الإسلامي يتميز بالمرونة والاتساع بحيث يتكيف النظام المحاسبي وفقا لاحتياجات ومتطلبات العصر (ولكل زمان ومكان) ، وتبين لنا ذلك من خلال استخدام أسس متعددة للقياس وتبعا للتطور الاقتصادي الذي مرت به الدولة الإسلامية آنذاك.

     وفي نهاية هذا المطلب نكون قد توصلنا من خلال الدراسة التحليلية للمعايير المحاسبية الحكومية المعاصرة المطبقة على المستوى الدولي،والأمريكي و المحلي(العراقي)  إلى أن معظم هذه المعايير لها جذور إسلامية ولها ما يناظرها ويشابهها من مفاهيم ومبادئ وأسس في النظام الاقتصادي الإسلامي، بل إننا قد وجدنا أن بعضها موجود بصورة أحكام وقواعد شرعية محددة بشكل قاطع في التشريع الإسلامي.

   وعليه يمكن القول إنه يمكن استخدام النظام الاقتصادي الإسلامي لبناء معايير محاسبية ملائمة للظروف والمتطلبات الاقتصادية والاجتماعية لكل عصر وفي كل زمان ومكان ،  كما يمكن القول إن النظام الاقتصادي الإسلامي  نظام مستقل بذاته له أسسه ومبادئه وقواعده المتينة الراسخة المستمدة من المصادر الأساسية للتشريع الإسلامي المقدس ، وبالتالي عند بناء معيار معين فإنه يتعين الرجوع في ذلك إلى مفاهيم ومبادئ وأسس الاقتصاد الإسلامي باعتباره أحد المصادر العلمية الأساسية لبناء وصياغة مثل تلك المعايير ،والرجوع إلى التشريع الإسلامي في بناء وصياغة وتطبيق المعايير المحاسبية هو لأجل الاستفادة وتحقيقا للمصلحة العامة باعتبار التشريع المقدس مصدر علمي وعملي مهم وأساس عادل  في هذا الاتجاه. 

وسيكون المطلب التالي عبارة عن ملخصا لأهم المفاهيم والمبادئ والأسس الاقتصادية الإسلامية المستخلصة من المطلب الحالي مع محاولة لاستنباط  معايير محاسبية حكومية إسلامية من هذه المفاهيم والمبادئ الإسلامية.

 

[1] يقصد به التقويم الهجري الشمسي.

[2] مسحوبة من الانترنت.

[3] مسحوبة من الانترنت.

 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=57679
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 02 / 11
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29