• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : عايش في العراق رغم الإحن .
                          • الكاتب : حيدر الحد راوي .

عايش في العراق رغم الإحن

عايش في العراق رغم الإحن , رغم ظلامات الزمن , رغم توالي المحن , فأنا ابن الوطن , في كل صباح , احمل خشبتي وصفيحتي , فأتوسط السوق , لاقف بين البائعة المتجولين , فأضع الصفيحة وفوقها خشبة العرض , وأملئها بالسكائر , كعادتي في عرض بضاعتي , التفت هنا وهناك باحثا عن مشتري , او مترقبا يقظا لصولات اعضاء حزب البعث ودوريات الشرطة او الانضباط العسكري او حتى شرطة المرور والبلدية كعادة الباعة المتجولين .
لم يمض وقت طويل , حتى وصل البعثيون , هذه المرة برفقتهم باص , يبدو بأنه باص السخرة ,  حاولت التملص , فلم افلح , فقد أحاطوا السوق , وسدوا كل الثغرات , لا مناص من الهرب , وقعت في الفخ هذه المرة , انطلق الباص بعد ان امتلئ , يبدو انه متوجه نحو مركز تدريب جيش القدس , ترجلنا بعد ان وقف الباص امام البوابة , تجمع هناك خلق كثير , تولى البعثيون بالتعاون مع الجيش تنظيم تلك الاعداد الغفيرة , كأنهم كلاب الراعي تعوي على القطيع , وقفنا على شكل طابور طويل بغية تسجيل اسمائنا , وعندما وصل دوري اخبرني الكاتب بأن مواليدي غير مشمولة بجيش القدس , لا يمكن ان اصف فرحتي , رجعت الى المدينة برفقة عدة اشخاص , اضطررنا الى السير على الاقدام , فلم تكن هناك سيارات اجرة , المنطقة عسكرية , لذا كان لزاما علينا السير لمسافة عشرة كيلو متر , وصلنا مدينة الناصرية بشق الانفس , عندما افترقنا رجعت للسوق لعلي اجد بضاعتي , فلم اجدها واخبرني بعض البائعة انهم صادروها , وقفت محزونا مهموم مغموم , بماذا سأعود لبيتي , خالي الوفاض , حتى من خشبتي وصفيحتي , عدت للبيت على كل حال , استقبلني اطفالي فرحين بعودتي , ينظرون حولي ويسألوني , ماذا جلبت لنا ؟ , اين الخشبة والصفيحة والبضاعة ؟ , وقد هزني سؤال احدهم , اين العشاء ؟ , نظرت الى زوجتي , اخبرتني انها لا تملك شيئا للعشاء , كاد عقلي ان يذهب , ورأسي ان ينفجر .
خرجت من البيت , وتسكعت في الاسواق لعلي اجد من يقرضني , لقد كثرت ديوني , وقلت حيلتي , وقفت على باب المطعم , حدقت بالرجل الطيب صاحب المطعم , وقلت بصوت مسموع , ( الى متى يبقى الدب على التل ؟ ) , فأبتسم عندما فهم , وقال لي :
-    بعده دبك على التل ؟ .... ليش ما ينزل ؟ !
-    والله لو نزل ... جان الخير تبده .
لم يفهم احد من الناس سرّ هذا السؤال , فهو اشارة لعدم توفر المال , اتقدم به لدى اصحاب الحال , واخذ صاحب المطعم يلف بعض اللفائف وناولني اياها , واخبرني بأن ديني قد زاد حده , ولا بد من الاتيان بضده  , اخذت اللفائف وانطلقت , حتى اذا وصلت الى دكان قريب , توقفت لدى الباب , ورفعت صوتي بنفس السؤال , ضحكت البائع وقال :
-    شنو هذا الدب ... لزكه خو  مو  لزكه .... ليمتها راح ينزل؟ !!
-    اذا نزل يقتلني .
-    جا شنو رايك ؟ ... من يبقى الدب على التل انته يكتلك الفقر ... ومن ينزل يقتلك
-    لازم ايطير !
-    شيطيره هذه دبك !
فبادر وناولني بعض الاشياء , ودوّن شيئا في الخفاء , وانصرفت بعد ان طال اللقاء , عدت للبيت , وصحت بالاطفال هـــــا قد اتيت .
    تناولنا العشاء , في سرور ورخاء , اضحك لأولادي واخفي عنهم ما يشغل فكري , ويجعلني في حيرة من امري , الحّ الاولاد عليّ لشراء جهاز تلفاز , وعدتهم  بشرائه ولو كان قديم الطراز , فناموا جميعا , واضطجعت بدوري  , سمعت طرقات على الباب , نهضت باستغراب , فتحت الباب , فأذا انا ارى جارتي العجوز , ما الذي اخرجها من بيتها في هذه الساعة ؟ , ام سعدون تعيش لوحدها في بيت من طين , يبدو ان هذه الليلة لم تمتد اليها ايادي الرحمة , ولو باليسير من لقمة , فأخرجها سلطان الجوع تتعثر بالعتمة , تسأل عن خبزا يدفع اوجاع البطن , ويقويها على شدّ عضلات البدن , رجعت الى زوجتي فأخبرتها بهذا الحال , وجمت ولم تملك مقال , واشارت الى السلة , لعل فيها ريع , يغني من جوع , ويسد رمق المفجوع .     
في الصباح التالي , عدت لعادتي , وعرضت بضاعتي , لكني افتقدت زميلي , فلم يأت كعادته , سألت عنه , فأخبرني احدهم انه قد انتمى لصفوف حزب البعث , فقد سئم من صفوف الباعة المتجولين , لعله يجد ما يغنيه , ولم اللاحظ زميل اخر , قد غاب , سألت عنه , فقيل لي انه ذهب الى الصحراء , ليعمل في الخفاء , في سلب و نهب السيارات , فقد طفح به الكيل , وسئم الجلوس على ما للصبر من جمرات .
بعد اعوام , مرت بسلام , نزل الدب من تلته , ورزح البلد تحت نير الاحتلال , ينظر الشعب لما في سلته , ودخلت الاحزاب , من كل باب , وشرعوا الانتخاب , لعل الخير قد اتى , وزمن الاهات قد انتهى , فبين كرّ وفرّ , وجذب وجرّ , اختلفت السياسات , بين ذاهب و آت , في جحيم وجنات , أما آن للشعب ان يظهر المعجزات ؟ ! .
في الأمس عانينا من الظلم و الاجهاد , واليوم نعاني من الاختلاف والعناد , لا تزال الأيادي على الزناد , لم يتغير حالي , ولم تتبدل احوالي , بل ازدادت سوءا , تحت تهديد الحضارة , والبناء والعمارة , فغير مسموح لبائع الفقر شعاره , ان يفترش الارض , فيملئ الاسواق طولا وعرض , تهش الباعة كما يهش الذباب , و عللوا ذلك بفصل الخطاب .
بعد ان منعت , لملمت بضاعتي وانصرفت , وقفت على باب المطعم ووجمت , لم استطع ان اردد نفس السؤال , فبادر صاحب المطعم في الحال :
-    الدب نزل من التل .
-    بس هالمرة هواي دبب صعدت على التل !!!! .




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=5650
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 05 / 12
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19