• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : دبلوماسية المتخاذلين.. الى أين؟ .
                          • الكاتب : عباس البغدادي .

دبلوماسية المتخاذلين.. الى أين؟

انطوت السنوات الماضية ومنذ 2003 على اعتلال في الجهود الدبلوماسية العراقية، حيث لم تراعَ لا الأسس والقواعد الأكاديمية في النشاط الدبلوماسي، ولا معايير الكفاءة في التعيينات، كما لم تنشط تلك الدبلوماسية في محطات وملفات تتطلب حضوراً فاعلاً، والأهم عدم أخذها في نظر الاعتبار تطلعات وآراء الغالبية النيابية والشعبية في تناولها لملفات مرتبطة بتثبيت سيادة العراق وصون حقوقه وأمنه ومصالحه!
يبدو ان إشارات تفاؤل البعض وتطلعاته في تولي السيد إبراهيم الجعفري لحقيبة الخارجية أخذت في الانكماش بفعل ما يرشح من مواقف أو تصريحات للسيد الوزير منذ توليه المنصب، وجاء في هذا السياق وضمن تصريحاته الأخيرة في أثناء زيارته الأخيرة للكويت: بأن "بغداد مرتبطة مع السعودية بـمصالح كبيرة، معنوية واستثمارية"! وحول العلاقات مع تركيا (نفى) الجعفري توجيه اتهام إلى أنقرة بشأن مساندة الإرهاب!
جاء كلام الجعفري الآنف محبطاً للأغلبية التي تطلعت بعد تشكيل الحكومة الجديدة بأن يتم تجاوز ما سلف من وهن واعتلال في السياسة الخارجية، وما يمثلها من جهد دبلوماسي، بينما الواقع يكشف عن حاجة ماسة لتقويم السياسة الخارجية بما يتناسب وجسامة المهام في المرحلة الراهنة؛ وحساسية الظروف في ظل الحرب الضروس التي يجتازها العراق، والتي تفرض على الحكومة العراقية أن تصيخ السمع بدقة لنبض الشارع العراقي، بأغلبيته العازمة على دحر الارهاب رغم ما تتطلبه من تضحيات جسام، فليس من المنطق والمروءة بشيء، ولا من الوطنية بمكان، تجاوز هذا النبض وهذه التضحيات إرضاءً او مجاملة لهذا الطرف الإقليمي أو ذاك الدولي (مهما كانت الدوافع والمبررات)، أو ترجيح الإجتهادات الشخصية على المطالب الوطنية والشعبية، التي تتوقع الكثير، ومن هذا الكثير (أو قل أيسره) عدم مكافأة من وقف -ويقف- بالضد من أمن وسلامة العراق والعراقيين، وأوغل في دعم أعدائه ومناوئيه، ومكّن داعش ومشتقاتها مع ذيول الإجرام البعثي في جعل العراق بلداً للحرائق والمجازر المروعة، ومرتعاً للإرهاب الوهابي التكفيري.
اذا لم يكن ممكناً -وفق تقييم الوزير الجعفري- الإفصاح عن الحقائق بدون مواربة، والتي تُجرّم السياستين الخارجية للسعودية وتركيا، بذريعة (حساسية الظروف)، فعلى أقل تقدير يكون السكوت أهون الشرّين، لا الإشادة المجانية (تلميحاً أو تصريحاً) بالحكومتين، كمكافأة لما يقترفانه بحق العراق وشعبه!
المواطن العراقي قادر على استحضار حزمة ضخمة من المواقف العدائية للحكومتين المذكورتين ضد العراق والعراقيين طيلة السنوات الماضية، ولم يتراجعا قيد أنملة عن تلك المواقف؛ بل ويطالبان العراق -المعتدى عليه- أن يتنازل مرة تلو الأخرى! وليت الأمر يتوقف على التصريحين المذكورين للجعفري؛ بل هو نهج عهدناه وتجرعناه منذ 2003، اذ كان وزير الخارجية السابق هوشيار زيباري لا يبخل على أعداء العراق بمثل هذه التصريحات والمواقف المحبطة والمتخاذلة، فكانت -ولا زالت- مورد امتعاض واستنكار من الغالبية العظمى في العراق! 
* * *
يسوِّق البعض فزّاعة (العزلة) الإقليمية أو الدولية حينما يجنح الى رغبته في رؤية الدبلوماسية العراقية منبطحة لهذا الطرف الإقليمي أو ذاك الدولي، والحال ان هذه المقاربة القسرية كسيحة ومعتلة، اذ ما الذي يجنيه البلد من (الانفتاح) أو (كسر العزلة) اذا كان ثمنها امتهان سيادة العراق وكرامته، خصوصاً اذا كانت الاثمان لـ(كسر العزلة) هذه واضحة، ولا يتردد الطرف الآخر في (المطالبة) بها مصحوبة بالاشتراطات؟! اذن، المفترق واضح؛ اما ان تتحول تلك الدبلوماسية الى متلقٍ مطيع و(موافج) على بياض في العلاقة مع الآخر، أو أن تواظب وتنشط في الذود عن مصالح البلد وسيادته وصون كرامته، بما تملك من أوراق قوية (منها العوامل الجيوسياسية، والتجارة البينية المؤثرة في اقتصاديات المنطقة، وتحريك ملفات مختلفة يتحاشاها الطرف الآخر اذا استدعت الضرورة)، بما يمكّن تلك الدبلوماسية من استغلال نقاط ضعف الطرف المقابل..
يجافي الحقيقة من يظن بأن الإصرار والتمسك بالثوابت الوطنية، وصون سيادة وكرامة ومصالح البلد تفضي -بالضرورة- الى (العزلة) في الميدان الدبلوماسي والسياسة الخارجية، اذ لو كان هذا المنطق صائباً، فمعناه ان أغلب دول العالم -بما فيها المؤثرة دولياً- هي غارقة في (عزلة) بالضرورة!
تعتبر العلاقات الدبلوماسية في تمثيلها للسياسة الخارجية لأية دولة عبارة عن كفتي ميزان يتقاسمها طرفا أية علاقة دولية، وأي اختلال في ترجيح الكفتين لطرف دون آخر يعبّر عن اختلال في العلاقة، وسيتضرر أحد الطرفين منها قطعاً. ثم تأتي نوايا الطرفين وإرادتهما في مراعاة هذا التوازن، وليس المطلوب أن يسعى أحد الطرفين برغبة ايجابية في تمتين الأواصر والتعامل وفق الأعراف الدبلوماسية الدولية، ثم يواجه ما يعاكسها تماماً من الطرف الآخر، وكأن المطلوب أن يستمر أحدهما بتقديم التنازلات تلو التنازلات حتى لا يوصم بأنه (معزول)، أو انه قد فشلَ في تشييد (علاقات مثمرة وايجابية)! هذا التصور غير واقعي في عالم السياسة، واختلال الموازين لا ينتج الاّ طرفاً مهيمناً (ربما ليس لقوة ذاتية يملكها)، وآخر في المقابل مستسلماً وعديم الحيلة (ليس بالضرورة لضعف ذاتي؛ بل ربما لسوء الإدارة)!
لقد أنهكت (فوبيا) إغضاب أو إزعاج أو إحراج هذا الطرف الخارجي أو ذاك الدبلوماسية العراقية الممثلة للسياسة الخارجية للبلد، بحيث استساغ البعض بأن على هذه الدبلوماسية أن تكون جاهزة دوماً لإرضاء الآخرين و(تطمينهم) وعدم إزعاجهم أو مواجهة (عبثهم وتدخلاتهم المدمرة في الشأن العراقي بما في ذلك مساسهم بأمن البلد وإدخاله في دوامة الأزمات والحروب).. وكانت هناك دائماً أطرافاً داخلية (عدا الطابور الخامس؛ بل ربما أشد وطأة وضرراً منه) تنفخ في هذه (الفوبيا) خدمة لمصالحها الضيقة وأجنداتها التي تلتقي مع مخططات وأجندات أطراف خارجية، والأنكى ان ذات الأطراف تعيب على الحريصين من المسؤولين أو الرأي العام حينما يُرجعون الكثير من الأزمات الداخلية الى التحريض والدعم الخارجي، بزعم ان ذلك يُعدّ (تهرباً من المسؤولية)، أما الهدف غير المعلن لأولئك النافخين في تلك (الفوبيا) هو إبعاد التهم عن الأدوار الخارجية المفضوحة.. فكانت تضغط من مواقعها النيابية أو الحكومية باتجاه (الانبطاح) و(بلع الموس) بذريعة تجنب التصعيد مع الآخرين ودَرء (العزلة)، وما الى ذلك من ذرائع أثبتت تهافتها بالتجارب التي دفع ثمنها العراق والعراقيون.. بينما تُثبّت المادة الثامنة من الدستور العراقي حق تعامل العراق (كدولة) بالمثل في العلاقة مع الآخرين: "..ويقيم علاقاته على أساس المصالح المشتركة والتعامل بالمثل".
لقد تم التعويل في السابق على خطوات بروتوكولية معينة، وسُجّلت كأنها (انتصارات دبلوماسية) لذر الرماد في العيون، ولكن الواقع أثبت انها لا تتعدى كونها (احتفاليات) متداولة لا يُعوّل على حصادها الكثير، مثل لقاءات القِمم العربية وما شاكلها؛ بل ان المجاملات والمداراة تطغى في مثل هذه (الاحتفاليات)، مثلما كان نبيل العربي (أمين عام الجامعة العربية) يصرّح دائماً بالضد من العراق وحكومته، ولكن حينما يحضر الى بغداد يغيّر لهجته ويصرّح عكس ما يتبناه، فهل يُرتجى كسباً دبلوماسياً من مثل هذه النماذج، وهذه المجاملات، وما أكثرها؟!
ان الأوضاع الخطيرة التي يمر بها العراق تستدعي -فيما تستدعي- دوراً حيوياً للدبلوماسية العراقية، بواقع ان العدوان ليس داخلياً فقط، وأن محاور إقليمية كانت ولا زالت تمدّ هذا العدوان بسبُل البقاء، مباشرة أو غير مباشرة، وينبغي أن يكون ذلك الدور موازياً في صلابته وتأهبه لما يبديه العراقيون الشرفاء بقواتهم المسلحة والحشد الشعبي من صلابة وعزم في دحر الارهاب، وأن تأخذ الجهود الدبلوماسية في الاعتبار ثقل المهام، والتضحيات الجسام التي يقدمها العراقيون منذ سنوات، لا أن تقدم المجاملات والمداراة والتنازلات لهذا الطرف أو ذاك! فلقد أثبتت المواقف والوقائع للأطراف المعنية بالأزمة العراقية، بأن بعضها ما زال سادراً في تورطه في دعم الارهاب، كالسعودية وتركيا وقطر والأردن، ولم يتزحزحوا سوى بمقدار ما يغلّف ذلك التورط ببراقع مهلهلة، مادتها (كليشيهات) التصريحات الدبلوماسية المنزوعة الدسم، والتي لا تخرج عن إطار المجاملات؛ بل وان الطرفين التركي والسعودي بالذات لم نلمس منهما ومنذ سقوط الموصل سوى تصريحات عائمة مواربة، بينما الأفعال تصب في رفد الارهاب، فلم توقف تركيا -مثلا- تدفق قطعان الارهابيين عبر حدودها مع سوريا، ولم يتوقف سماسرتها ووسطائها عن شراء النفط العراقي والسوري المنهوب بواسطة الدواعش، وغير ذلك كثير.. كما لم تكشف السعودية عن أية معلومات لديها يمكن أن تساعد السلطات العراقية في حربها ضد الارهاب التكفيري، ولم يردع النظام السعودي أي من قادة الحواضن التكفيرية التي تمد الدواعش وجبهة النصرة بالمال والرجال طيلة السنوات الماضية، وما يتقنه هذا النظام الآن هو (الإدعاء) فقط بمحاربة الارهاب عبر سطور البيانات والديباجات الرسمية التي لا تردع داعشياً ولا تعيد ضحايا الارهاب الى ذويهم..!
ولا حاجة للتذكير بالسياسة التركية الخارجية التي تعاملت مع العراق منذ 2003 كبلد لم يبلغ سن الرشد، ومنقوص السيادة، وبالتالي (غير جدير) باحترام سيادته وتطبيق الأعراف والبروتوكولات الدولية في التعامل معه، وفي هذا السياق كانت تركيا تتعامل مع الإقليم (لمصالح حيوية وسياسة دق الأسافين) وكأنه دولة قائمة بذاتها، دون الرجوع -غالباً- الى القنوات الدبلوماسية لبغداد، كما أمضت عقوداً ومعاهدات تجارية ونفطية كبيرة من غير المرور على حكومة المركز، مع إدراكها التام بما يمثله ذلك من تجاوز فاضح على سيادة العراق. ويبدو ان سياسة الحكومة الأردوغانية وأحلام إحياء السلطنة العثمانية كانت المحرك لكثير من التدخلات الكارثية التركية في شؤون بلدان المنطقة؛ بل تعدتها الى الشمال الأفريقي (مصر وليبيا، ودعم الإخوان والسلفيين)، وشهد الجميع كارثية الدور التركي في سوريا، والدعم العلني والواسع للتكفيريين والسلفيين، الذين استفادوا منه في تحشيد إرهابهم وتوجيهه نحو العراق تحت مظلة داعش، فما الذي تغير بين ليلة وضحاها حتى نثق (وعلى بياض) بالدور التركي الذي لم يثبت عملياً (تراجعه أو توبته) عن دعم الارهاب، سوى إطلاق تصريحات معسولة لا تنتج إلزاماً للحكومة التركية ولا تقطع وعداً بوقف الدعم القائم أساساً للإرهاب وقطعانه؟ كما ان اشتراك تركيا في التحالف الدولي أصبح مشروطاً بالإطاحة بالنظام السوري، مثلما أعلن رئيس وزرائها داوود أوغلو، أي أفصحت عن أجندتها، وكأنها تشترط هذا المطلب كشرط لـ(وقف) دعمها لداعش والارهاب التكفيري..
والأنكى هو ما فاجأنا به السيد الجعفري في تصريحه - تقدّم ذكره- لينفي توجيه تهمة الارهاب الى الحكومة التركية، بما يوازي منحها صك البراءة، الذي تنتظره طبعاً في أجواء تقمصها دور المحارب للإرهاب.
وحتى الزيارة الأخيرة التي قام بها الجعفري الى أنقرة جاءت كـ(هدية) الى الحكومة التركية، التي تعيش ضغوطات افتضاح أدوارها بدعم الارهاب، وكأنها تردّ على أولئك بتصريح الجعفري المبرّئ لها؛ بأن العراق المكتوي الأول بنار الارهاب التكفيري لا يرى غضاضة من التقرب لتركيا في هذه الظروف! وهو ما (ينظّف) صورة الحكومة التركية التي علق بها سخام التورط في الارهاب.. وحتى بروتوكولياً، كانت الإجراءات التركية المصاحبة لزيارة الجعفري الأخيرة (ذات دلالة)، اذ وبما انها الزيارة الأولى للوزير، ولـ(أهميتها) حسب بيانات الطرفين، لم يستقبل وزير الخارجية التركي نظيره العراقي في المطار، بل استقبله مسؤول من الخارجية التركية (نبحث عن الأهمية)!
لم يكتفِ السيد الجعفري بتبرئة النظام التركي من دعم الارهاب؛ بل صرّح في المؤتمر الصحفي في زيارته الأخيرة لأنقرة: "التجربة السياسيّة التركية محط احترامنا، وتقديرنا، وأعتز بعلاقتي بالسيد أردوغان".. هكذا دفعة واحدة! فأية تجربة يحترمها ويقدرها الجعفري هي المعنية؟ هل تجربة دعم الإرهاب وزرع الفتن الطائفية والتدخل السافر في شؤون البلدان الأخرى؟ وأية علاقة (يعتز) بها مع أردوغان الذي أوغل في توجيه سهامه للحكومة العراقية في كل مناسبة يغتنمها، ونفخ في نار الطائفية والمذهبية المقيتة حتى تقطعت أنفاسه؟
من أين يأتي التفاؤل بدبلوماسيتنا، وهي (تقاتل) من أجلنا كعراقيين، عبر (احترام وتقدير) سياسات الحكومات الداعمة للإرهاب المسفر عن همجيته، وعبر (الاعتزاز) برمز عثماني لا يتراجع عن دعم (إخوانه) من الإخوانجية والسلفيين ورعايا (الخلافة) الداعشية..؟!  
 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=53403
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 11 / 07
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29