• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : التأسيس الدستوري: سيادة القانون بين الشريعة والطبيعة .
                          • الكاتب : محمد الحمّار .

التأسيس الدستوري: سيادة القانون بين الشريعة والطبيعة

من المعلوم عن الشعب العربي والمسلم إجمالا أنه لا يحترم القانون. لست متأكدا من الأسباب لكني أرجح العقلية الانتظارية لدية والناجمة عن تعلق دفين بفكرة قيام الدولة الإسلامية أو دولة الخلافة في يوم ما، كواحة من العوارض الدالة على وجود مشكلة تتعلق بالقانون وبسيادته وبمبررات احترامه أو عدم احترامه.
إلا أني أفضل تجاوز طرح المشكلة من المنظور التاريخي والسياسي لأحاول تسليط الضوء على المشهد المنطوي على المشكلة في وضعه الميداني الراهن، في تونس. من هذا المنطلق أعتقد لو كل واحد من التونسيين، وكل واحد من الشعب العربي المَعني إلى حد هذه الساعة بالانتقال الديمقراطي وبتأسيس دستور جديد للبلاد، توفرت لديه شروط مُعينة لاحترمَ القانون المعمول به الآن ولَطبّقهُ، لنال رضاء نفسه ورضاء الناس أجمعين عليه ورضاء الله عليه. وتطبيق القانون، حتى وإن كان هذا الأخير موضوعا بواسطة البشر، طريق مفتوح أمام تطبيق الشريعة الإسلامية، مفخرة الإسلام والمسلمين كافة. لكن في أية شروط بإمكان ذلك أن يتحقق؟
إنّ تطبيق القانون الوضعي، لمّا ينضاف إليه الالتزام الديني المصحوب بإرادة المتديّن التواق إلى مرضاة الله جلّ وعلا، عبارة على عهد يقطعه المرء على نفسه، وعبارة على ميثاق شرف يوقعه مع الجماعة ومع المجتمع لتجسيد الانسجام المطلوب من أجل تحقيق عيشة تكون هادئة لكنها في الوقت نفسه مُولدة لأسباب الارتقاء بجودة القانون نحو الأفضل، نحو أعلى درجات الفضيلة والأفضلية: الشريعة الإلهية. فليكن هذا الصنف من التمشي تطبيقا للقانون بروح شريعتية.
لكن هنالك مشكلة خفية تُعدّ من المبطلات الأساسية لتطبيق القانون بروح شريعتية. ولا تكمن المشكلة في التشديد من طرف بعض أطياف الإسلام السياسي على تطبيق الشريعة السمحاء، ولا في معارضة العلمانيين واليساريين لهم وللتمشي الذي أطرحُه، ولا في إقصاء الملحدين وغير المسلمين من بين سكان البلد المسلم لفكرة مثل هذه، و بصفة لامشروطة، وإنما تكمن المشكلة في عدم ثقة المواطن في المجتمع المسلم مهما كان دينه وطيفه وحساسيته ومذهبه بالمُشرع البشري كمصدر للقانون.
 أما المتسبب في هذه العلاقة الجدّ متوترة فهو على ما يبدو انقطاع الأواصر الشرعية، والشريعتية القديمة التي كانت تربط بين الراعي والرعية في بلاد المسلمين قاطبة. وقد نتجت عن الانقطاع نقلةٌ لسُلطة التشريع، من أيدي المُشرّع ذي المرجعية الدينية إلى أيدي المُشرّع ذي المرجعية الفردانية، الكليانية، الاستبدادية: الحكم الدكتاتوري في العصر الحديث.
ما العمل لتصحيح العلاقة التي مازالت فاسدة بين الحاكم والمحكوم بسبب انعدام الوفاق حول الشرعية التشريعية، وكيف يمكن أن يتحول الحدث الثوري إلى عامل ترسيخ لمفهوم القانون كضابط فعال للسلوك لدى المواطن في المجتمع الديمقراطي؟ في الواقع يكفي أن يكون العقل المجتمعي أو من ينُوبه من النخب المثقفة  مُدركا أنّ نقطة التحول المركزية إنما هي بالتحديد الإحاطة بالديكتاتورية، لا فقط كنظام للحكم بل كمصدر للتشريع، وأنّ بالإمكان توليد مبررات التجذير القانوني من صُلب هذا المعطى الحيوي، وأن لا مجال لترك الفرصة تفوت دون تحقيق المبتغى.
بالإضافة إلى ذلك، ليس حدث الإحاطة بالدكتاتورية، صانعة الرذيلة التشريعية، فقط مَدعاة للاهتمام الشديد وللاستغلال الأقصى في مجال التشريع البشري من طرف الناس أجمعين وبقيادة النخب، لكن حريّ بهذه الأخيرة أن تقوم بالتحويل اللازم، في العقول، لِحدثِ سقوط الديكتاتورية، من مجرد آلية سانحة لتغيير مؤسسات الدولة ولتطعيم المجتمع بالمؤسسات غير الحكومية ولتبديل الشخصيات العمومية الفاعلة بأخرى، إلى حدث للحرية. فالحرية، إذا ما حظيت بالتزكية والممارسة الضروريتين من طرف كل فرد في المجتمع، فإنها تصبح المدخل الطبيعي لسيادة القانون، علما وأنّ هذه الأخيرة هي عبارة على المحرك الأخلاقي للنظام الديمقراطي.
فالمجتمع التونسي بالخصوص، و العربي عموما، الملتزم اليوم بالانتقال الديمقراطي، مُطالب من باب أولى وأحرى بإنجاز النقلة النوعية في مجال التشريع البشري المميز للمجتمع المسلم، والتي من دونها لن يكون الانتقال إلى الديمقراطية إلا صوريا، لا سيما أنّ المؤسسة التي يُعلق عليها الشعب كل آماله الآن (قبل ثلاثة اشهر من موعد الانتخابات المقررة ليوم 24-7- 2011، في تونس)، المجلس التأسيسي، هي تلك التي أنيط بعُهدتها صياغة دستور جديد للبلاد، رمز القانون ومضمونه. فلنتصوّر لمدة هنيهة أنّ مجلسا تأسيسيا منتخبا يكون، لا قدر الله، غير مستبطِنٍ للبعد التحرري في مجال صلاحياته التأسيسية، والتي غنمه الشعب بأكمله بما فيه من سيمثله في المجلس، بفضل الثورة. سوف لن يكون هنالك طائلا من وراء عملِ هذا المجلس، في مثل تلك الظروف المرتبكة، سوى إعادة إنتاج مبررات الدكتاتورية، وبواسطة القانون؛ الاستبداد القانوني والدستوري بأمّ عينه.
وعلى عكس ذلك، إن أُحكِمت المراقبة على التمشي الذي تتوخاه حاليا الهيئات المكلفة بإعداد مجلة انتخابية لغرض انتخاب أعضاء المجلس التأسيسي، وعلى رأسها الحكومة والإعلام، سيكون بالإمكان، وهذا ما أتمناه، تدارك الخطأ المتمثل في تبجيل المنحى الإجرائي والأداتي على المنحى التحرري في التعامل مع المسألة التشريعية وفلسفة التشريع. وأعني بالمنحى التحرري مرة أخرى و بكل بساطة تكريس المفاهيم الناجمة عن المفهوم الأم الذي غنمه الشعب من الثورة: الحرية.
فالحرية هي القيمة الأولى للثورة العربية، ولكل ثورة. وهي القيمة التي من المفترض أن يستفيد منها الشعب الثائر ضد الدكتاتورية. فالحرية أبجل من الديمقراطية. وما الديمقراطية إلا الوصيفة الإجرائية والأداتية لحرية الفرد المسلم والمجتمع المسلم. لذا المطلوب تحقيقه الآن، من جهة، انفتاح الديمقراطية على المجتمع المسلم؛ ولن يكون هذا ممكنا إلاّ  في حال انفتاح المسلم، من الجهة المقابلة، على الديمقراطية بنفس القدر الذي يرغب أن تنفتح هي عليه؛ وبصفة تفاعلية وتبادلية.
لكنك في الوضعية الراهنة، في فترة ما قبل انتخاب المجلس التأسيسي، ترى الإعلام مُنفلتا (على غرار انفلات قطاعات مختلفة أخرى) عمّا يجول بخاطر أبناء الشعب وعمّا هو دفين في أعماق الضمير والعقل المجتمعيين، ومُغال في الإسهام، بقسط وافر، في حشو الأدمغة بالمادة القانونية الخام و الجافة، لا تستشف من أية سلطة أو من أي طرف أبسط المؤشرات على تشريك الشعب في الحدث التحرري.
 وأمام وضع يتسم أيضا بعقلية نخبوية تتصارعُ بمقتضاها الفئات الإيديولوجية على البقاء، أكثر من صراعها ضد أية قوة تريد معاودة الدكتاتورية، مُكافِحة من أجل الإحراز على صوت لفائدتها وكرسيّ تتلذذ فيه بالصوت المكتسب، أكثر من كفاحها من أجل تكريس الحريات بشتى أنواعها، لا تستقيم لديك أية رؤية حول إمكانية أن يكون لتونس مجلسا تأسيسيا متشكلا من أهل الثقة الذين يشترطهم تمشٍّ تأصيلي يكون مُفضيا إلى إرساء سيادة القانون، وبالتالي مُسفرا عن القبول، عن طواعية، بالإذعان لاحترام القانون بروح إيمانية وشريعتية.
في ضوء هذه الصعوبات، التي ليست بالهينة، هل من اقتراح غير توجيه النداء إلى كل القوى الحية بالبلاد بأن تشرع على التوّ في العمل على تجسيد المبدأ الأولي الذي أهداه الشعب لنفسه، بفضل ثورته على الاستبداد: تكريس الحريات؟ وهل تُكرَّسُ الحريات بمجرد السماح للجماعات أن تناقش ما طاب لها من مواضيع بغير إرشاد من النخب المعنية، أم تُكرَّسُ الحريات بفك اللجام عن أفواه المثقفين؟ لكي يُبيّنوا للشعب أنّ الحرية واحدة، سواء أكانت ذات مصدر طبيعي وإنساني أو ذات مصدر ديني وشريعتي.
محمد الحمّار
الاجتهاد الجديد

 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=5179
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 04 / 23
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 16