• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : يومَ تمخّضَ الجبلُ .
                          • الكاتب : محمد الهجابي .

يومَ تمخّضَ الجبلُ

  يومَ الجمعة 25 نونبر جرت الانتخابات التشريعية. غبّ ثلاثة أيامٍ بالضبط، منْ هذا التاريخ، جاءني صديقي السي محمد إلى المكتب. وعندما أعلمتني الكاتبة بحضوره تركتُ ما كنتُ بصدده، وانتقلتُ مباشرةً إلى الباب لاستقباله. في الواقع، سبق للرجل أن أشعرني برغبته في زيارتي بالإدارة. ليس منْ دأبه أن يلحّ على زيارتي بالمكتب. العادةُ جرت أن نلتقي ببار أوتيل معمورة أو بمقهى ميتربول. لا نلتقي كلّ يوم. ليس بمقدورنا أن نفعل، فلكلٍّ التزاماته المهنية والعائلية. لكن احتفظنا بقدر من إمكانات التواصل. ومنها احتساء بيرات بالبار أو شرب قهوة بالمقهى. نلتقي مساء كلّ خميس منَ الأسبوع. نشربُ، فيما نحن نتذاكرُ ونتسارُّ ونضحكُ. 
بيد أنّ صديقي، هذه المرّة، أفتى بغير المألوف منْ عوائدنا، وأبى إلاّ أن يخرقَ القاعدة. وكان له ما أراد. بالأحضان اقتبلته. وبابتسامة رائقة عانقني وهو يطبطبُ على ظهري. طلبتُ فنجانيْ قهوة منْ غير أن آخذ رأيه. ولم يحر ْرداً، منْ جهته. أزعمُ أنّني أدرى برغباته. أزعمُ ولا أقطعُ. ارتشفَ الرشفة الأولى ووضعَ الفنجان جانباً. ثمّ تثبّتني ملياً، وسألَ إنْ كنتُ سمعتُ بالخبر النشاز. قوّستُ حاجبي مستوضحاً دون أنْ أنبسَ بلفظٍ. أعرفُ حركة الحاجبين منْ  تكشيرة فمي. لحظتها فقط، حكى ما حكى.
أقسمَ السي محمد أنّ ما جرى دوّخه تماماً. والسي محمد هذا لا يلقي الكلام على عواهنه، وكيفما اتفق. أنا جرّبته. لذا، أخذتُ تصريحه على محملّ الجدّ. هو صديقي ما في ذلك منْ شك. وحقاً، ليس بالصديق الحميم، لكن تجمعني وإيّاه علاقة مخادنة ضاربة في عقدها الأول؛ وهو ما يسمح لنا، بموجب ذلك، بتبادل أحاديث، هي أقرب إلى الحميمة. غير أنّ صديقي هو صديق الرجل الذي هو محلّ هذه الزيارة. والأحكم أنّه صاحبه كما سيظهر لي في ما بعدُ.
في الواقع، تقومُ بين الرجلين أواصر الانتساب إلى المنطقة نفسها. لنقلْ إنّهما من أبناء مداشر المنطقة. وهذا عنصرٌ فارزٌ في ما يجمع بيننا ويفرق. في وقتٍ ما تعدّى هذا الانتسابُ القائم بينهما إلى الاشتراك في أعمال بالفيلاج. ومنْ ذلك، أنّهما كانا معاً من الأوائل الذين أشاعوا بين المداشر المحيطة استعمالَ الهاتف المحمول، أو الخلوي كما يحلو للبعض نعتَ هذا الجهاز الصغير؛ الأصغر منْ حجم كفّ اليد، والمدهش بما لا يقاس. وقبلَ ذلك، كانَ لهما السبق في فتح أول تيليبوتيك بالفيلاج. يتذكّر السي محمد ذلك اليوم، فيعلّق بأنّه كان يوماً تاريخياً في حياة السكان. يكادُ يضاهي، في وزنه، عيد الاستقلال، ولربّما أزيد بكثيرٍ. ويخاطبني بنبرةٍ لا تخلو من بعضِ زهوٍ، فيقولُ: وأنتَ إذا ما نزلتَ يوماً إلى الفيلاج، وشاهدتَ أحدَهُم يقبضُ على المحمول لصق أذنه، ويتحدّثُ بصوتٍ عالٍ إلى أحدهِم في الجانب الآخر، فيما هو يشيرُ بيده الأخرى في الهواء، فاعلم أنّ الفضلَ يرجعُ إلينا. هو يسردُ عليَّ هذا القبيل من الوقائع، وأنا أفهمُ، في الحال، أنّ الأمرَ يهمُّ السي محمد وكذا الرجل هذا الذي هو صاحبُ صديقي. والسي محمد دوّخه ما بلغه عن الرجل من أنباء أمس البارحة.
والحدثُ خضخضَ إيقاع الفيلاج. السي محمد يصفُه بزلزالٍ ارتجّ له الجبلُ، الذي يشرف على المداشر منَ النواحي جميعها، ذات اليمين وذات الشمال، كأنّما سكنه في التو بركانٌ فائرٌ ينذرُ بالانفجار العظيم. والجبلُ هذا، الذي قارنَ به صديقي الحدث الطارئ، نبتَ وسط سهلٍ وسيعٍ، ونشأتِ المداشرُ على مداره. تشرقُ الشمسُ على مداشرَ دون غيرها، وتغربُ على مداشرَ دون سواها. أنا زرتُ الجبل، وتحقّقتُ بأمّ عيني منْ موقع المداشر إيّاها.
الحقيقةُ، وأقولُ الحقيقةَ هنا تجاوزاً، لم يطقْ في ذهني أنّ السي محمد سيروي لي تفاصيلَ حولَ كيفَ سقطت نتائج الانتخابات على رؤوس سكان مدشره كما تسّاقط حجارة عرادات على القلاع المحصّنة، فشلخت، وفلعت، وأدمت. ثمّ حكى كيفَ ثارت ثائرةُ السكان، ورأوا أن ينطلقوا في مسيرة للاحتجاج، لا قِبل للمنطقة بها، إلى عمالة الإقليم.
وأنا أدركُ صعوبةَ أن يهضمَ السي محمد صعودَ صاحبه إلى البرلمان. ولعلّه الوحيد الذي يكنَه فصّ الرجل. فهذا الأخيرُ بالكاد حصلَ على شهادة الابتدائي، فيما السي محمد واصلَ تعليمه إلى أن حازَ على الباكلوريا. لكنّ الرجل عوضَ أنْ يجتوي الفيلاج ويهجرَ إلى المدينة، كما فعلَ السي محمد، ظلّ مرابطاً به. ومنْ مقامه ذاك، صنعَ حظوةً بينَ رجال المخزن. وعندما نادى منادٍ بفتح فرع لحزبٍ تولّت الدولة إنشاءه كان هو كاتب أول مكتب محلي له. شاركَ في كلّ الاحتفالات الرسمية، وبعضها كان المشرف الأساس على تنظيمها. وكان من المدافعين، في مكتب الجماعة، على تخصيص تجزئات سكنية بالفيلاج لفائدة موظفي الجماعة ورجال السلطة. ثمّ هو الذي أدخل عملية سقي الأراضي بواسطة "قطرة قطرة"، وتنظيم عمليات الختان الجماعية. وأوّلُ مسجدٍ غُطي سقفه بالقرميد الكورسيكي كان وراءه هذا الرجل. للرجل إذن، قدمٌ راسخةٌ في البلدة.
غضبُ السي محمد هو منْ غضبِ مدشره، لا مشاحة في الأمر. أنا فقهتُ السرَّ منْ كلامه. والمدشرُ كان يحبُّ أن يكونَ السي محمد، وليس خلافه، هو منْ يمثّله بالبرلمان. بيد أنّ السي محمد يلعنُ السياسةَ والسياسيينَ. هو شبيهي على هذا الصعيد، إلى حد ما. أنا أيضاً أكره السياسيينَ. سياسيو البلد خذلونا. ولأنّهم انتهازيون ووصوليون، فقد صرتُ أكرهُهم، ولا أخفي الإعلان عنْ كرهي لهم عبر موقعي الإلكتروني الإخباري وصحيفتي الجهوية.
وكثيراً ما شطّت الكأسُ بالسي محمد في البار، فكان يطلق لسانه منْ عقاله بأشنع النعوت في سيرة منْ تعرّف إليهم منْ أهل التحازُب والسياسة. السي محمد صديقي، وأقدّره. وصديقي هذا عرفَ الاعتقال أثناءما كان تلميذاً داخلياً بالثانوي. بعضُ آثار التعذيب لا يزال يحمله على جلده كالوشم المدبوغ. أعترفُ أنا بأنّه ذكي. لكنّ ما لا أستطيبُه في ردات فعله، هو عنفها الزائد.
والآن، وهو بالمكتب، وفي ضيافتي فضلاً عنْ ذلك، لم يتورّع في الإشارة بألفاظٍ قاذعةٍ في حقّ شخص صاحبه. سألته عمّا يطلبه منّي، والحالة هذه، فلمْ يتردّد في طلب إفراد أعمدةٍ بكاملها منَ الصحيفة والموقع الإلكتروني الإخباري في التّشهيرِ بالرجل. قال إنّه يمتلكُ ملفات فساد، ستفسدُ على الرجل، لا محالة، احتفاءه بفوزه. ثمّ نظرَ في عينيّ، وسأل: هل أنت معي؟ أجبتُه على الفور: أنا معك يا السي محمد. لكنْ لمَ أعمدة كاملة خاصة بصاحبك؟ ثمّ لمَ لمْ تفكّر في نشر ملفّك هذا قبلَ الانتخابات؟ قفعَ رأسه لحينٍ كما لو كان يفكّر. وما أبطأ أن رفعَ رأسه، وأرتبَ. ثمّ مدّ إليّ اليدَ بالمصاحفة وزايلَ.
في البار، يوم الخميس، لم يُظهر السي محمد أثراً. شربتُ شرابي لوحدي، وغادرتُ. في الشقّة فقط، هاتفتُه. وفي كلّ مرّةٍ، كان مجيبُ صندوق الصوتِ هو الذي يردُّ. لا أنكرُ أنّ الأمرَ إلتاثَ عليّ، وغشيني القلقُ، حتّى أنّ امرأتي فطنت لما همّني منْ سوء مزاجٍ، فراحت تستخبرُ دون طائلٍ. لم أحك لها شيئاً. لا أحكي لأمّ أولادي ما يحصلُ لي في العمل أو مع الأصدقاء. هذا دستورٌ ألزمتُ به نفسي مع المرأة، تماماً مثلما ألزمتُ نفسي بألاّ أضعَ إدارتي للصحيفة وللموقع الإلكتروني موضعَ التباسٍ لدى القراء والمتعاملين.
لم يدخل عليّ السي محمد المكتبَ في اليوم الموالي، وإنّما أنا دخلتُ عليه مكتبهُ. جئتُه بسيارتي الكانغو صباحاً. وبعدَ حينٍ، خرجتُ مرفوقاً به إلى أقرب مقهى. ميتربول بعيدةٌ. وبها، أعني فوقها، في الطابق الثالث من العمارة التي تحضنها، يوجدُ مكتبي. في الواقع، هي شقة حوّلتها إلى مكتب للصحيفتين. واحدة ورقية، وأخرى إلكترونية. أنا المديرُ، ويعضدني محررٌ وكاتبةٌ. مقهى ميتربول تركتُها في وسط المدينة. والمقهى التي مضينا شطرها تقعُ بحذاء مبنى المحكمة الابتدائية. أغلبُ الرواد منْ محامين وموظفين. ارتكنّا زاويةً في لاتيراس، وطلبنا قهوتيْن سادتيْن. عندما يمّمتُ مكتبَ السي محمد قلتُ في خاطري لا بدّ أنْ أسوّيَ سوءَ التفاهم الحاصل هذا. وها أنا بارحتُ الرجلَ بهذه المقهى ولم نسوِ موضوعاً. أرجأنا الحديثَ إلى المساء حول كأسٍ.
معمورة في المساء هو غير معمورة في النهار. يكونُ الأوتيل شبهَ ساكن نهاراً ويكونُ قفيرَ نحلٍ مساءً. رائحةُ الدخان وأصواتُ الرواد الضاجّة لا تساعد على التحادث الهادئ. أُرغمنا على أخذ طاولة بالبسطة البرانية في هذا الخريف البارد. كؤوسٌ صهباء مترعةٌ ربّما ترخّصُ للسانِ السي محمد بالإفضاء بمكنونه. بيدَ أنّه لمْ يفضِ بمكنونٍ. ظلّ اللسان، لسانُه، طوال القعدة يلمّحُ دون أن يفصحَ. وكان عليّ، منْ ناحيتي، أنْ ألتقط إلماعاته منْ غير أنْ أطالبَ بكشفٍ. قلتُ مع نفسي لأتركَ الموضوع يأتي عفو الخاطرِ.
الرجلُ ترشّحَ إلى الانتخابات، وحصلَ على مقعدٍ بالبرلمان. أنا مقتنعٌ بأنّ غالبية المداشر صوتّت لفائدته. صوّتت عبر صناديق زجاج شفّاف، لم تسرق، هذه المرّة، لكي تحشى بأوراقٍ مغايرةٍ. السي محمد يشهدُ بهذا أيضاً. وأنا والسي محمد متفقان على أنّ الرجلَ فازَ. لم يفزْ اليوم. فازَ قبل هذا التاريخ!
صفحَ السي محمد عنْ موضوع صاحبه. لم يشأْ أنْ يعرضَ له خلال تلكَ القعدة، ولا خلال القعدات التي تلتها. لم يفعلْ لأنّ الملفّ نُشر في صحيفة يومية، تصدر بالعاصمة. أنا، منْ جانبي، لم أُظهر ردّ فعلٍ. اطلعتُ على الملفّ صدفةً. قرأتُه، وسكتتُ. لم أسكت بالكامل، لأنّني في صباح يوم، عقبَ أسبوع فقط منْ نشر الملفّ، حضّرتُ آلة التسجيل، وبلوك نوت، وكاميرا فيديو صغيرة الحجم من ماركة سامسونغ، ثمّ امتطيتُ سيارة الكانغو صوبَ الجبل.
    دجنبر 2011

 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=48074
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 07 / 05
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19