• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : جُـمانتــي .
                          • الكاتب : النوار الشمايلة .

جُـمانتــي

 لم يكُن لشروق الشّمس أيّ معنى لدي، لأنه بين القضبان نُـشرق في ظلام السّجن بإيماننـا, لم أكُن مهتَـما بالشمس بَـقدر اهتَـمامي بالمحَـافظة على تبَــاريح وجه أمـي وجُمَـانتــي, تلك القُضبان التي تحجُب الدّنيا عني, ما لبثت أن صادقتنـي أو صَـادقتهَــا , وعَـانقتهـا مراراً , ستبقــى العَـزيمَــة أصلب وأقــوى منهَـا...
حيــنَ يجثــو أمـامنَــا الظـلام بمعـانيــه الحقيقيّــة، لا نملك من قدرنــا إلا أن نشحذ الحياة بنــوُر الفجر ونضيء عتمَـة الزنزانــة الثكلــى بضيـاء الـذكريــات السعيدة، نحبــوا بينَ أهلنَــا وأحبــابنــا من جديد كـي نزيــل عنّـا أطيــاف الـرعب المخيّـم داخلنــا، ونحَـاول أن نعبث بالـواقع بمداعبــة المَــاضي المبهج،أو ربمَــا أصبح هكذا مقَـارنة مع وحـدة تقضّ علــيّ كـلّ غفوة ويقظة!! رغمـاً عنّــا كانت الإنسَــانية تؤخذُ قســراً من قلوبنَــا، وتحَـاول أن تمنحنــا من كرم عبوديتهَــا شيئــاً نحاول دفعه بكل الوسَـائل، لكن عبثــاً!!
لم أكُـن بزنزانتــي أحظى إلا بأربعة جدران وبطانيّــة عفا عليهَـا الدهــر، كان هـذا جزاء كلّ أصحَـاب الـرّسَــالة والحق، وكان هذا عـزائي لأصبــر.
أرخيت جَسدي المتهالك إلى جدار السّجن الذي سَقط غالب الدهَــان الذي كان يكسُـوه وحل مكانهُ العفن والرطوبــة، وركنتُ رأســي إلــى زاوية الزنزانــة بعد محَـاولات كثيــرة لرفع جسدي المُحطم، أفكــر بالجَـريمَــة التـي أوصلتني إلــى هنَــا، رغـم أني لا أظن أن هنــاك من دخَـل هذه الزنزانــة وجَـاهد طويلاً لكي يحافظ على الزّمــان والمكَـان داخل ذاكــرتـهِ التي ربمَــا نسيهَــا حينَ داهمــه الجنُــون!
أذكــرُ يومهَــا أنـي كنتُ قد تجَـاوتُ شارع جمَـال باشا في يافـا الجَميــلة عائداً إلــى بيتي برَبطة خبـز وعلبة لبَن وأنا أفكــر كيفَ أحصُـل على النقود ليَـوم غـد، لم أكمـل حديث النـفس وثرثرات الهَـم إلا وهبّــة هواء قويّــة وحاميــة تدفعنــي إلــى الخلف مغمــاً علي، استيقظت وأظنني لم أغب عن الوعي إلا دقيقة أو اثنتين، كانت مشهد الـمَمدين على الشارع والرصيف تحيطهم دمَــاؤهم مخيفـاً، قـذيفةٌ اغتَــالت الأطفال والنَـساء قبــلَ الـرّجـال، لم يكُـن العَـدوّ يومــاً يكترثُ لضحاياهُ، انتشى جَسدي الـذي أراد البقـاء قيــد الأرض وخانتــهُ أعضَـاؤه المـدميّــة وبَـاغتتهُ إلــى النهُـوض رغمَــاً عنه، ركضتُ باتجَـاه طفلــة وحملتهَــا لأحدى سيـارات الإسعَـاف الـتي ملأت المكَـان بســرعة دونَ أن أنـظر إلـيها، كانت الدمَـاء قد ملأت وجههَــا وبعض أجـزاء جسَدها، مـا إن وضعتهَــا على الحمّـالة حتّــى خرجت من فمهَــا بحّــة اخترقت جسَـدي، لازلتُ أذكــر تلكَ الـرّعشة وتزيدُ دقـاتُ قلبي كلمَـا تذكرتهَــا صَـرختْ جُـمانة لكُـلّ براءتهَـا تستنجـدنـي كملاك صغيــر:
بابا!!
-جمَــانة..ابنتــي..كلميني صغيـرتي أرجُـوكِ..جمَـانة........
ارتخـى جسَدي ولم أعــرف مَـا أقُـول أو أفعَـل ســوى أنـي ركبتُ بالاسعَـاف معهَـا وأنا أردد بعض الأدعيّــة علهَــا تكون بخيــر، كان المعبــر يعـجّ بالـراجين أن يُسمح لهــم بالخروج، وكَـان العـدو يجثـو علــى قلبــي كَصخــرة قبــلَ أن يكُـون أمــامي، وطفلتــي تَقبــعُ أمـامـي في غيَــاهب دمـائهَـا لا تقوى على الحـراك، دخلتُ بضـائقة جنُـون وقـوّة لم أعهدهَــا، وانقضيّتُ على أحـد الجنُـود بحجــر كانت على الأرض وأدميتُ رأسـَـه، ثم هَـويت علـى الأرض مرة أخــرى من كثـرة الضربات بالبساطير والعصي التــي هَـوت على رأســي واستيقظت فـي هذا المكَـان بعيداً عن الـدنيــا، بعيداً عَـن زوجتــي وأهلــى، بعيداً عن جمَـانتــي وبـعيداً عنّــي!!
كَـان كل مَـا أملكهُ هنَـا هـو صَـوتُ أمـي وبقايا ذاكــرة أرهقهَـا طـول التفكيــر بالراحلين عنّــي، أجل هـم رحلوا ولــم أفعَـل أنا، كَـان ما فعلته لزامــا عليّ، كانت صغيــرتي بين المَـوت والحيَـاة.....كنت أخشى أن لا أفعل فأندم!
جمَـانة،،تركتها على المعبــر تنَـاضل...استقظتُ من كلّ شيء إلا هـيَ حاولتُ النهُـوض ونجحتُ بعد عدة سقطات وأمسكت بالقضبان أستصرخهم أن يخبروني كيف هيَ وماذا حلّ بهَـا، كان صوتـي خافتــاً رغم علــوه مع الصّـدى، لكن دون فائدة، شعرت أني وحيد هنَــا أو كنت كذلك بالفعل لا أدري، وقعتُ على الأرض ويداي لا تزالان تمسكان بالبوابــة بعينين دامعيتن، تذكرتُ بفلم قصيــر أن النهَـاية كانت مفتوحة! لا أدري ما حلّ بهَــا وكيف هيَ الآن أو أينَ هـيَ فـوق الأرض أم طائرٌ في السمَـاء، أخفيتُ ملامـح وجهـي بكلتا يدي وأنا أتذكر أولــى خطواتهَـا وفستانهَـا الأحمَـر وأول كلمَــة نطقتهَـا، ولم تفـارقنــي ابتسَـامتهَـا، تذكرتُ حيـاتهَـا بتفاصيلهَــا، كانت حيَـاتي بشكل مصغـر، وكنتُ أتبـاهى بالشبــه الكبيــر بيننَــا بالشكـل والحـركات، كانت ولا تزال صغيــرتي وستبقى كذلك..
جاهدتُ على نفسي فقَـرأت سُورة يس وبعضُ الذي أحفظه من الآيات التي تحثّ على الصّــبر، وتاه النــوم فلاقانــي في طريقه فَـغفيت بين أناتي وخطوط الدمع لا زالت تَرتسم على وجهــي متاهات لا متناهيّــة الحُـرقة والألم.
استيقظتُ في الصّـباح لأجـد طعاماً وجَـد بجانب باب الزنزانـــة وكأنه وضع خلسَــة أو هو كذلك، نهضتُ إليــه مـن فـرط جوعــي وأنهيتُـه رغم قلتــه كأني ملكٌ على مـائدة لا آخــر لهَــا، تجُـود بكل ما تطيبُ بــهِ النفــس.
ألقيت الأرق بعيداً عنـّي، هنا بعد مرور الأيام والأسَـابيع دهوراً يُصبح لديك خياران لا ثالث لهمَــا؛ إمــا أن تكتـُـم حقك وترضَــخ ليـأسك فتُـجنُّ بصَمت وتمُـوت بصمت، وإمـا أن تعـزم على أن تحتفظ بما تَـقدرُ من إنسَانيتـك بكلّ ما أتيــحَ لك من وسَـائل تخترعهَـا لحَـاجتك إليـهَا ولا يمكن أن تخطر ببالك لو كنت خارج جُـدران الـزّنزانة، ألِفتُ الجدران فكـانت دفتــر مُـذكراتــي وتقـويمي ومضجعــي والمَبكــى حينَ ألتمـسُ صَـراخـاتي من صَمتــها، كانت صَـديقتـي الوحيدة التــي أعـزي تـؤوي إليـها كلّ مشاعـري، وكـان عليّ أن أتمَـاشي مع صداقتهَــا مجبــراً،
اعتدتُ علــى الاستيقَـاظ وقتَ الفجـر أو قبلــهُ بقليل، فأن أصـلي ثم أخط خطـاً على الجـدار لأعلنُ من منبــري كسجين عَن بدء يوم جَـديد لــي هُنــا، استقظتُ هذا الصّـباح فوجدتنــي أقتـرب على يوم ميلادي الثــاني هنــا، عامين من الوحـدة، خطت فيهما الحيــاة كل مشاقهــا على وجهي وجسَدي، وعـاثت ولعبت بعقـلــي كثيـراً ورغـمَ عَـزمــي على أن جمَـانة بانتظاري وكل أهلــي الذين لا يدرون أأنــا ميّـت أم حــي، لجننتُ من أول يوم دخلتُ فيــه هنَــا، بقي أسبُوع على يوم ميلادي، تُـرى هَـل سيقدم لــي أحـدٌ هدية، أتمنــي أن يُقدم لــي أحـدٌ جمَـانتي الصّغيــرة لأحضنهَــا وأقبلهَــا ولو للحظة، فقط أحتاج أن أراهــا، شعرتُ بإحسَـاس الحُـر للحظــة، شعرتُ أنــي عمّـا قريب سَـأعود لهَـا لأداعبهَـا، تُـراها كبرت كثيراً، كيف شكلهَـا الآن، هَـل نسيَت من قبَـع هنَــا عامين لأجلهَــا أم أن أمهَــا وجدّتهَــا لم تفرِّطــا في ذكري أمامهَــا، أم..................أم أنهَــا سبقتنَــا إلــى جنَـان ربهَـا؟
صليتُ ركعتين حَـاجـة بعد أن قضيتُ نهَــاري جلـه أفكــر بهَـا بطريقة هستيريّــة لم أعهدني فعلتهَــا قبلاً، جـاءَ اليَــوم الموعُـود، يوم ميلادي قد قررتُ أن أصنَــع لنفسي شيــئاً هذه المرّة، أن أدلل نفسي، ولكن أي دلال سَــأحظى بهِ هنَــا، لكنـي شعرتُ أنــي سأحظـى بمَــا تمتم بــهِ قلبــي، جاء الطعَـام اليـوم ملحوقــاً بملابسي التــي كنتُ أرتديهَــا قبل دخولــي هنَــا، ضجت الهواجس بنفسي، خوفــاً وفـرحــاً وأملاً، لا أدري أيهَــا اجتحاني قبل الآخــر، لكنـها تغمرني جميعـاً ولا أعـرف أيهَـا الصّـادق وأيها الكاذب.
لم تأتنــي رغبــة بالطعَـام بل قمتُ واغتسلتُ وارتديتُ هدية يَـوم ميلادي، ورغــم أنهَـا باليــةٌ إلا أنــي عندمــا غمرتْ جسَـديي داخلهَــا شعرتُ بالنّـشوة للحــرية أكثــر وشعرتُ أنه جمَـانة قد اقتربت كثيــراً مني، لا أدري مَـا الخطب ولا أدري إن كان هوَ الخُـروج سَيداهمنــي اليَـوم أم مَـاذا لكنــي على الأقــل سأحظى بفُـرصَــة المُحاولــة والتخيّــل، مرّت قرابـَـة السّـاعتين وأنا أعـدهَـا الثوانــي انتظـاراً لأن تصبـح أمنيَـاتي واقعــاً، حتّـى هممتُ بالاتضجاع على ظهـري تراجعـاً منّـي عن فكرتــي وأمنيـَـاتي فخـطرَ ببــالـي سريعــاً قـولــه تعالــى:" حتّـى إذا استيــأس الــرسلُ وظنــوا أنهُـم قَـد كُـذبُـوا جـاءَهـم نصـرنــا"......وإذا ببـَـاب الـزّنزانة الذي أغلق لأكثـر من عَـامين إلا عن الطعام والشراب الشحيح يُـفتحُ أمامــي وكـأنه فتــحَ للمَـرة الأولــى، جاءني السّجان كعـادته مُغطى الرأس بقطة قُـماس سوداء تظهــر منهَــا العينين بجَمـرهمــا المُلتهب من ثقوب الغطـاء، وقَـد زاد غضَبــه هذه المَـرة حتّــى شعرتُ أن جـاءَ للقضـاء علي في زنزانتــي، قـال بصَـوته الهَـائج: سَــامـر،،،إفــراج.كان الأصــل أن تتعفــن هنَــا لكن جمـاعتـك اشتروك مجّـدداً!!
عَـرفتُ لاحقـاً أنهَــا صفقَــة تبَــادل الأسـرى، احتضنتنــي ومجمُــوعة من القَـابعين هنَــا باســم الحَـق ولأجـل الحَـق!
كانتــا صَـدمتين لا واحــدة، متـى آخرُ مرة سمعتُ فيهَـا اسمي؟! تلفتُ حولــي، ربمَـا كان هنـاك آخـرون معي في الزنزانــة ولم ألحظهــم! لكنــي لـم أجد إلايَ، منفـرداً طـابت لــهث الزنزانــة مستقــراً ومقـاماً طاهـراً وطابت لـهُ جدرانُهـا عزمنــا وصبراً!
والثـانيــة....ما معنــى إفــراج!! هل سَـأخرج من هنَــا مكبلاً كعادتــي، أم أنـي بالفعل حـرٌ طليق؟! أينَ أنا الآن وأين سأذهب وأتجــه؟! غادرتُ الزنزانــة دونَ أن أنـظر خلفــي ورأيتُ أن الشمس لا زالت تطلع على أهــل الأرض إلا من بقي في قوقعــة الظلم خلفــي، تأكدتُ أنــي لا أحلـم، تحسستُ جسـدي، رفعت كتفـي، بحـركَـات كالطفـل مبتسمــاً وفـرحـاً وحاولت أن أنظــر في عين الشمس وللأرض حولي، أعدتُ ترتيب شَعـري بيدي، ثم غَـادرتُ إلــى جمَـانتي
 
 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=46905
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 06 / 09
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28