بسم الله الرحمن الرحيم
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً{45}
الآية الكريمة تضرب مثلا اخر ( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ ) , وهذا المثل عن الحياة الدنيا , في بهجتها وجمالها ( كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ) , المطر , ( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ ) , بسبب نزول الماء نمت نباتات الارض , واصبحت كثيفة متشابكة , ( فَأَصْبَحَ هَشِيماً ) , مكسرا , ( تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ) , تنثره وتفرقه , حتى صار كأنه لم يكن , ( وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً ) , يؤكد النص المبارك ان الله تعالى قادر مقتدر على كل شيء .
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً{46}
بينت الآية الكريمة امرين :
1- ( الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) : يبين النص المبارك ان الاموال بكافة انواعها وكذلك الاولاد هما مما يتزين به المرء في الدنيا , ويلاحظ فيه اشارة اضمرت تدل على وقوع الفناء عليهما , يؤكدها النص المبارك اللاحق .
2- ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ) : يبين النص المبارك ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) , كافة اعمال الخير من قول او فعل , هي :
أ) ( خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً ) : افضل من المال والاولاد في عائديتها بالخير والنفع لصاحبها .
ب) ( وَخَيْرٌ أَمَلاً ) : وايضا ان اعمال الخير افضل املا من المال والاولاد , فبها ينال المرء ما آمله ورجاه عند الله تعالى .
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً{47}
تنعطف الآية الكريمة مذكرة ( وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ ) , نسيرها في الهواء ثم نجعلها هباء منبثا , ( وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً ) , ظاهرة للعيان ليس فيها جبل ولا تل ولا اي يشيء اخر , ( وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) , يشير النص المبارك الى ان الحشر يشمل الجميع , وبدون استثناء .
وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِداً{48}
تستمر الآية الكريمة بموضوع سابقتها الكريمة ويأتي بعد الحشر العرض ( وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً ) , حال العرض يكونون مصطفين , كل امة او جماعة في صف , لا يحجب احد احدا , ( لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) , يبين النص المبارك حين العرض سيأتي النداء :
1- أي قيل لهم لقد بعثناكم كما أنشأناكم أول مرة . "تفسير الصافي ج3 للفيض الكاشاني" .
2- أي فرادى حفاة عراة عزلا ويقال لمنكري البعث ." تفسير الجلالين للسيوطي" .
( بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِداً ) , يخاطب النص المبارك الكفار ومنكري البعث , لقد زعمتم ان لا بعث ولا نشور , وكذبتم بما انذركم به الرسل والانبياء (ع) , فها انتم اليوم تبعثون وتعرضون في هذا الموقف .
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً{49}
تستمر الآية الكريمة بموضوع سابقاتها مبينة تسلسل الاحداث في ذلك اليوم نشر وعرض ثم ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ ) , صحائف الاعمال , فينال المؤمن كتابه بيمينه , لا تثريب عليه , والكافر ينال كتابه بشماله , ( فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ) , المجرم سيكون خائفا من آثامه ومعاصيه , ( وَيَقُولُونَ ) , في تلك اللحظة يقولون :
1- ( يَا وَيْلَتَنَا ) : بمعنى ( هلكنا , وقع الهلاك علينا ) .
2- ( مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ) : ينقل النص المبارك تعجبهم من دقة الكتاب في تدوين كل ذنوبهم الصغيرة منها والكبيرة .
( وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً ) , كل شيء فعلوه وجدوه مدونا ماثلا امام اعينهم , ( وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) , تختتم الآية الكريمة بأنه جل وعلا لا يظلم احدا , فيعاقب احدا بذنب اخر او ان يدون عليه ذنوبا لم يقترفها , او ان يزيد في عذابه بما لا يستحقه , وكذلك لا ينقص من ثواب المؤمنين شيئا .
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً{50}
تنعطف الآية الكريمة مشيرة ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) , امر الهي بالسجود لادم (ع) "تطرقنا الى هذا الموضوع مسبقا " , ( فَسَجَدُوا ) , امتثل الملائكة "ع" للأمر الالهي وسجدوا لادم "ع" , ( إِلَّا إِبْلِيسَ ) , باستثناء ابليس اللعين لم يسجد , ( كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) , الجن احد الثقلين وهم مخلوقات عاقلة , يجب عليها ما يجب على بني ادم من فرائض وطاعات , ( فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) , خرج من طاعته الله تعالى بتركه للسجود , ( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي ) , تضمن النص المبارك استفهام توبيخ وانكار ( بعد كل الذي بدا منه يا بني ادم تتخذون منه ومن ذريته انصارا لكم من دونه عز وجل ) , ( وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ) , يبين النص المبارك ايضا ان اللعين ابليس وذريته هم اعداء لبني ادم , ابتدأت عدواتهم من ذلك الموقف ( السجود لادم ) , ( لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) , عندما اختاروا طاعة ابليس اللعين وذريته بديلا عن طاعته عز وجل .
الجدير بالإشارة هنا , ان مضمون الآية الكريمة تكرر عدة مرات في القرآن الكريم , لذلك الكثير من الاسباب , لعل ابرزها , ان تلك الحادثة هي السبب الاول والاخير في كل المشاكل التي عانى ويعاني منها العالم , والا لكانت الاوضاع والاحوال مختلفة لو اطاع وسجد اللعين .
مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً{51}
تبين الآية الكريمة مؤكدة ( مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) , يبين النص المبارك ان الله تعالى لم يطلع ابليس اللعين وذريته على خلقه جل وعلا للسموات والارض , لم يشهدوا ولم يحضروا ابدا , وما كان الله عز وجل بحاجة لان يشهدهم او يطلعهم على ذلك , ( وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ ) , يضيف النص المبارك ان الله تعالى لم يطلعهم ولم يشهدهم ايضا على خلقه جل وعلا لبعضهم البعض , ( وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) , يشير النص المبارك الى انه عز وجل ما اتخذ من الشياطين اعوانا له بالخلق , فلماذا تطيعونهم وتتخذونهم اولياء من دونه جل وعلا .
مما يروى في خصوص الآية الكريمة ما جاء في تفسير العياشي وتناقله عدد من المفسرين الحديث المنسوب للإمام محمد الباقر (ع) : عن الباقر عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه واله قال اللهم أعز الأسلام بعمر بن الخطاب وبأبي جهل وهشام فأنزل الله هذه الآية يعنيهما .
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً{52}
تنعطف الآية الكريمة لتسلط الضوء على ( وَيَوْمَ يَقُولُ ) , الله عز وجل , ( نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ), نادوا كل الاوثان التي زعمتم انهم شركاء لله تعالى , وايضا زعمتم انهم سيشفعون لكم , ( فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا ) , يبين النص المبارك امرين :
1- ( فَدَعَوْهُمْ ) : تحقق النداء من المشركين لأوثانهم .
2- ( فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا ) : لم يستجيبوا لهم .
( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً ) , للنص المبارك عدة معاني منها :
1- سترا . "تفسير القمي , تفسير البرهان ج3 السيد هاشم الحسيني البحراني" .
2- جعل الله تعالى بين المشركين والهتهم مهلكا يشتركون فيه وهو واد من اودية جهنم . "تفسير الصافي ج3 للفيض الكاشاني , تفسير الجلالين للسيوطي" .
3- وقيل البين بمعنى الوصل أي جعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا يوم القيامة . "تفسير الصافي ج3 للفيض الكاشاني" .
4- ( مَّوْبِقاً ) محل هلاك وتقطع للرابطة ورفعها من بينهم . " مصحف الخيرة / علي عاشور العاملي".
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً{53}
تنعطف الآية الكريمة مبينة مؤكدة ( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا ) , ايقنوا , ( أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا ) , واقعون فيها , ( وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً ) , عند ذاك لم يجد الكفار مكانا يميلون اليه او مكانا يعصمهم منها .
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً{54}
تبين الآية الكريمة ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا ) , بينا , ( فِي هَذَا الْقُرْآنِ ), القرآن الكريم , ( لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ) , كل مثل للعظة والاعتبار , ( وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ) , يبين النص المبارك ان الانسان اكثر المخلوقات جدلا وخصومة .
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً{55}
تبين الآية الكريمة ( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ ) , كفار مكة , ( أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى ) , النبي الكريم محمد (ص واله) والقرآن الكريم , ( وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ ) , طلب المغفرة منه جل وعلا , ( إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ) , يشير النص المبارك الى سنته عز وجل في اهلاك السابقين , ( أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً ) , يختلف المفسرون في شأن العذاب الذي يشير اليه النص المبارك , فننقل رأيين :
1- مقابلة وعيانا وهو القتل يوم بدر . " تفسير الجلالين للسيوطي" .
2- طالما وان النص المبارك السابق ذكر عذابا دنيويا , فمن المحتمل ان يكون النص المبارك الحالي قد عنى عذابا اخرويا يذهب الى مثل هذا الرأي عدة مفسرين ومنهم الفيض الكاشاني في تفسيره الصافي ج3 . |