• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : بوح نخيل البرزخ .. .
                          • الكاتب : عقيل الحمداني .

بوح نخيل البرزخ ..

هي هذه المرأة خمسينية السنوات ..فراتية القسمات ..ملأ الإيمان قلبها الحاني بفطرة الله التي فطر الناس عليها فلم يجد الشك منفذا لخافقها المعتق (بالدللّول) من النبض الى النبض.. يكتحل الليل من (شيلتها) فتنفرج أساريره ويأخذ بين طياتها غفوةً نهمة ، مخبّئاً نجومه بين جدائلها فيُسكِرُها ضوعٌ مُقدسٌ هو بعضٌ من دُخانِ تنورها الطيني الباذل لخبز العباس ليالِ الجُمع على مائدة العاشقين ، ونثارٌ من غبار أقدامهم .
 في باحة دارنا في (القاضيَّة) تقف نخلتنا الزهديّة كمئذنة يتيمة !! تردد نشيد الفاختاء مع الأطفال صباحاَ وتغسل وجوههم الغضة بما تُساقِط عليهم من قَطر سعفها الندي .. النخلة نفسها أشربتها من صفاتها الكثير فخمسة عقودٍ من التمر والماء جمعتهما معاً كفيلة بأن تحيلهما توأمين !! طولها الشامخ بوقار الزمن ، صبرها ، تحملها ،كلامها المغمس بحلاوة الرطب ، دائماً ما تظلل على الآخرين تحميهم من هجير النوائب والأيام ، حتى لَهْونا وعَبثنا بذيول عباءتها يذكرنا بأرجوحة حبالٍ ليفية شددناها عل خصر جذع النخلة لنمارس التحليق ..
ولأن نخيل العراق يأبى إلا أن يُشتل عند ضفاف فراتيه لتتشعب جذوره بين مسامات الطين والماء فيأخذ سر شموخه الباسق ويُخرج رطباً جنياً طاهراً معمداً بماء الحياة ..
فقد ضمن الله لنخلتنا مشتلاً تغبطها عليه معاشر النخيل ، "شبراً وأربعة أصابع" على ضفاف باب قبلة الخلود مثّلت ترعتها السرمدية نحو معين الشهادة ونبعها الزاخر لترشف شِربة حُبٍ لا تظمأ بعدها أبداً..
" ....زلزل المكان صوتٌ مهيب يجتر أنين الحسرة والأسف : أيُقتلُ ظمآناً حُسينٌ بكربلا .. وفي كُلّ عُضوٍ من أناملهِ بحرُ ..فجأةً رأيتها بإطلالةٍ ملائكية تغشاها غمامةٌ من نور إشتبكت مع ذؤابات ملابسها البيضاء ليسفر وجهها عن إبتسامةٍ مطمئنة ترجمت معانِ الدعة والنعيم .هرعتُ إليها بسيلٍ من علامات الإستفهام : أمي .. حبيبتي ..قرة عيني ..أين أنتِ الآن؟ كيف حالكِ؟ ماذا بحاجتكِ ؟ هل أخدمك بشيء؟ وهل ..؟ وهل .. ؟ وهل .. ؟ .
فقطعتْ حبل أسئلتي بصوتها الدافيء "وليدي آني بخير والحمد لله" ، وكيف لا نكون كذلك ونحن نعيش يومياً حالةً من سمو الروح الى مشارف الوصال مع الله وأهل بيته ، حركةٌ دؤوب تملأ أجنحة المكان ،قيامٌ ..قعودٌ ..ركوعٌ .. سجودٌ ..صوتٌ مهيبٌ كدوي النحل يخرقُ حجب السمع ليعزف على نياط القلب ترنيمته القدسية .
وكيف يمر الوقت هنا يا أماه ؟ 
-هنا يتوحد الزمان بالمكان فلا يتجزأ ليقصر ويطول ، ونحن فيهما مشدودون بمشيمة من نور وماء الى كعبة الأنهار ومصدر الأنوار ..نلاحقُ بنواظرنا زواره فنستغفر الله لهم عسى ان ينالنا جزءٌ من شرف مراتبهم ، ونُلهي أنفسنا أحياناً بجمع ما يسقط من زغب أجنحة النازلين والعارجين ففي ليلة الجمعة أو ما يحلو لنا تسميتها هنا "بيوم الحشر الأصغر" تتلاطم أمواج الولاء وتفتح السماء علينا بعشقٍ منهمر يحمله ذوو أجنحةٍ مثنى وثلاث ورباع لتصبح قيامةً أخرى عند ضريح الشهيد .. عند ضريح الشهيد .. عند ضريح الشهيد " رددها أبي ثلاثاً قبل أن يغادر رؤياه متمتماً بالصلوات وهو يسردُ علينا بوحَ جدتنا هذا في جلسةٍ سكبنا فيها دموع الرجاء ..والرثاء لنغسل غبار الجفاء عن فسائل الولاء الكامنة في بستان القلب .



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=46545
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 05 / 29
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28