• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : لئلا تصطبغَ جميعُ لآلئنا بالدم .
                          • الكاتب : جلال القصاب .

لئلا تصطبغَ جميعُ لآلئنا بالدم

 الإصلاح مطلبٌ أخلاقيّ ومنطقيّ، قبل أن يغدو استجابةً لضغط شعبيّ، أو إملاءٍ خارجيّ، هو واجبٌ حضاريّ، وعنصرٌ لديمومة الدول وتطوّرها لا بديل عنه، و(اللهُ لا يصلحُ عملَ المُفسدين)، مهما ضلّلوا أنّهم مصلحون ظاهريًّا، المصالحةُ الوطنيّةُ الحقّة خيرٌ محض، والحوارُ أسلوبٌ حضاريّ بديل عن همجيّة العنف، وأيّ تعديلاتُ دستورية مشروعة مسيرةُ تطوّر وخيارٌ شعبيّ واعٍ لا غبار عليه.. طالما يتوخّى صلاح الوطن وأهله.
وكحال كلّ متاهة، ثمّة طريقٌ واحدٌ للخروج منها هو طريق الرشد بالإصغاء لصوت العقل، وثمّة طرق ملتوية مراوغة وقد تكون مغرية لكنها تدفع لمزيد تورّطٍ وتوهان، فقنوات الاستماع تُشكّل منافذ عبورنا الأزمات، والعناد يظلّ دائمًا الصخرة التي تُدحرج صاحبها إلى هاويته جارفاً معه عدوّاً وصديقاً، و"صديقك مَن صدَقك لا مَن صدّقك"، فلا محيص من كلمة صدق، وقد قيل أنّ الفتن إذا أقبلت أعمتْ عين البصير، فكيف بالأعمى بقوّته أو بكثرته، والوهم مفسدةٌ لأنه تغريرٌ بالعقل، وهْمَ القوّة لدى السلطة أكبرُ أعدائها، ووهم الكثرة لدى الشعب أخطر أعدائه، وغباءً المراهنةُ على أيّهما لبناء أمر متماسك.
هذه الأوهام تعمّق الأزمات وتهدم جسور التلاقي وتحطّم الثقة، وتنزلق بالوطن إلى حيث تُزهق أرواح أهلِه بلا جُرمٍ إلاّ غلبةُ وهْمِ الغلبةِ على دماغنا.
إنّ تفشّي سوءِ الثقة يسوق طرفيْنا الرسميّ والشعبي ليُحدِّق كلٌّ منهما بأخيه كعدوّ واجب التقزيم، وبالتالي تتعالى الشعاراتُ بشطبه، ويعتقد أنّ التنازل للآخر خسارةٌ لوجوده، فيستنكفان التعايش كأعضاء جسدٍ واحد، بل كتوأميْن بغيضيْن ملتصقيْن اضطراراً، ولا حياة لأحدهما إلا بقتل لصيقه!
الحكمةُ تهتف بعدم الإصغاء للتهييجات المتّكئة على وهم قوّة أو كثرة، والتي شعارها "نحن أولو قوّة... والأمر إليك"، فهي نعقُ شيطان، وجمر نيران، تدعو الطرفين للاحتكام للنّار، فتتّقد الأضغان، وتحترق الأوطان.
لزامٌ أن يفهم الحاكم أنّ إرضاء خاصّته بسخط العامّة كان دائمًا مفسدةً للأوطان وتضييعاً لرأسمال "الإنسان".
قد تُدغدغ قوّة البطش وهْمَ الحسم، وتغذّي بالقمع شعورًا آنيًّا بالنصر، أو تُخدِّر لحظيّاً إحساساً بالفزع، فتطيل للسلطة أمداً حينًا وربّما تعجّل بزوالها حيناً! لكنّ الأكيد أنّها لن تُقيم وطناً محبوراً بالرضا والاستقرار، ولا أمناً مستداماً، بل كيانًا مشوّهاً ملتمّاً بالقهر، قابلاً للانفجار مع أسنح فرصة وكارثة أيًّا كان نوعها وسببها.
ففي هذه اللحظات المصيريّة وبإغراء كثرة وقوّة، قد تُرتكب حماقات وجنايات غائرة بحقّ الوطن ومستقبل أجياله، لتتقيَّح كناعي خراب سلمنا الأهليّ، وإيذان دخول الوطن أنفاقه المظلمة، وقد وقعت هذه الحماقة بالفعل، وأريقت الدماء المحرّمة وأُزهقت أرواح أهلنا المسالمين.
إنّ على السلطة أن تعي أنّ انتفاضة جسمِها الوطنيّ أو سخونته متى دهمه فسادُ مرضٍ، هو علامةُ صحّة لا تمرّد وفساد، الفسادُ أن يرقص المواطنون ويُطبّلون قارّين على كِظّة ظالم وسغَب مظلوم.
ولندرك أنّ في كل تحرّك شعبي ثمّة مفرخة للمتسلّقين والمزايدين، فينبغي أن تخرج المطالب والصيَغ العلاجية بإصلاح جذريّ ممكن وتثبيتا لقيَم العدالة والحريات، لا محاصصةً لأسماء وطوائف، يتبدّى هذا بترك الانسياق لشعارات إسقاط أشخاص وتمكين غيرهم، فالعالم بات اليوم أكثر وعيًا وإحساسًا بالقيم متى انتُهكت، وتنامتْ حساسيته ضدّ أيّ ألاعيب سياسية أو دينية تخديرية فاسدة المآل وللالتفاف.
إنّ اعتراف السلطة بذنبها السابق واللاحق فضيلةٌ وطنيّة وحنكةٌ سياسيّة، ما دام ثمّة فسحةٌ للتراجع والإصلاح، ولم تخرب "البصرة" بعد.
وليس فضيلةً إهدارُ فرص الإصلاح، ومكايدة اللعب على التناقضات، وتوهين جسم المعارضة بالترهيب وبالإغراء لإخماد صوتها الإصلاحيّ، واستمالة بعضهم لاستخدامه كدهانٍ للاصطباع بشرعية هشّة لا ثبات لها، وإفشال المساعي الإصلاحية الوطنية أو تمييعها بشكليّات وأسماء فارغة.
كما أنّ تأليب الشعب على بعضه، بتشطيره عنوةً لمؤيّدين ومعارضة، وباستمالة طائفة واستضعاف أخرى، وممارسة التحشيد التضليليّ عوضاً عمّا يُمكن أن يُنجز من إصلاح، هو رعونةٌ لا سياسة، لا يغزل متانةً بنسيج الشعب ولا تماسكاً وطنيّاً.
على الحكم الرشيد أنْ يفطن لأسباب ثورة سخط العامة بمعزلٍ عن السياقات الإقليمية وانتقال عدواها، إذْ لو انتفت تلك السياقات فخليقٌ بكلّ حاكمٍ شريف صيانة أمانته وعدالته، وإنّ جوهر "أسلمْ تسلمْ" ما كانت يوماً فرضاً لدينٍ، بقدر كونها حزمةَ مواصفاتٍ معياريّة لأداء الحكم الرشيد، الذي هو أساس سلامة المُلك..
 

 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=4500
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 03 / 30
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28