• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : قراءة (نقدية) لقصيدة الشاعر (راسم المرواني) .
                          • الكاتب : منجيـة بن صـالح .

قراءة (نقدية) لقصيدة الشاعر (راسم المرواني)

 لُمنيْ ..أحبُّ اللّومَ فيه ، وأنتشيْ عِشقاً ، وأطرُبُ إذْ أُلامُ
لُمنيْ ، لأنَّكَ لستَ تعرفُ مَنْ يكونُ ، ومَنْ أكونُ ، وما الهيامُ

أصحوتَ يوماً مثل طفلٍ ، لستَ تدريْ فيمَ أفزَعَكَ المنامُ ؟
أسكرتَ يوماً بالعيونِ وبالشفاهِ ، ولم يخامِرْكَ المُدامُ ؟

أوقفتَ يوماً كالأسيرِ ، أمامَ هَيبَتِهِ ، فغادَرَكَ الكلامُ
أشعرتَ يوماً بالحرائقِ تحتويكَ ، وليسَ يؤذيكَ الضِرامُ ؟

هلْ ذُقتَ طعمَ البَوحِ في ليلِ الهوى والخلقُ ناموا ؟
أترى تذوقتَ التخلّيَ والتحلّيَ كي يطيرَ بكَ السَنامُ

إني أحاولُ أن أذوبَ بحرّهِ عَطَشَاً ، فيُسعِفُنيْ الصِيامُ
في عشقهِ طعمُ الوجودِ ، وفي محبتهِ التكاملُ والسلامُ

أنا عاشقٌ حَدَّ الثَمالةِ ، عافَني صحويْ ، وأَسكَرَنيْ الغَرامُ
أنا بعضُ ما صَنَعَتْ يداهُ ، وبعضُ مَنْ رَحَلوا وقَاموا

أنا فيهِ مثلُ سفينةٍ ، لم يبقَ منها غيرُ ما يَذَرُ الحُطامُ
ليْ فيهِ ألفُ تساؤلٍ ، تخبو ، فيُشعِلها احتدامُ

ما زلتُ أجهلهُ ، ولكني قريب منه ، يؤنسنيْ الوئامُ
وأذوبُ فيه كأنني بَردٌ ، وكفّاهُ المواقدُ ، والخيامُ

أدريْ بأني إنْ تركتُ ودادَه أو هزَّ أشرعتيْ الخِصامُ
سأتيهُ مثل الآخرين على المسالكِ حيثُ ينفرطُ النظامُ

أهواهُ ، لا أخشاهُ ، هلْ يخشى الـمُحِبَّ المـُستَهامُ
كالطفلِ ، أعشقُ حُضنَهُ ، وألوعُ لو أزفَ الفِطامُ

أعصيهِ من جهلٍ ، فيغفرُ ليْ ، ويُدنينيْ ، وتعذِلُنيْ الأنامُ
فأعود من حيث ابتدأتُ ، كأنني هَدَفٌ ، ورحمتهُ السهامُ
.........

للكلمات بحرٌ من الحبِّ الجارفِ الذي يحتضنُ الوجودَ ويُعبِّرُ عنه ليكونَ به وفيه و يصبحُ الإنسانُ سفينةً تخضعُ لمدِّهِ وجزرهِ,, لثورتهِ وسكونهِ,, لفرحهِ وحزنهِ, لسعادة غامرةٍ تحتوينا وتسبي مشاعرَنا وتمتلكُها حدَّ الخشوعِ ...يخضبُ الجفنَ الدمعُ ويروى عطشَ وجناتٍ تشققت أرضُها من العطشِ للحبِّ والجمال .

للكلمات روحٌ تحلقُ بك في صفاءِ السماء لتمنحَك من هيبتها ولونها الذي يخترقك و يتربعُ على عرشِ جمالك .تحتويك ألوانٌ قزاحية لترتسمَ في الفضاء بألوان روحك وكأنك وجودٌ تَخلَّقُ بعد سحابةٍ ماطرة أنعشت الأرضَ والهواء ,,مدت الكونَ بالحياة و أنارت وجودَك بمعرفةٍ أنت في حاجةٍ إليها لجهلك بنفسك وأنك كونٌ صغيرٌ احتويت الكبيرَ واحتواك لتكونَ أنت ولا شيء غيرُك ,,وجودٌ ولا شيء معك سوى كلمةٍ عطرت روحَك احتضنك جمالُها وغفا فيك تسكنُ إليها وتسكنك, تستمدُ روحَها من روحك لتحلقَ على جناحِ الكلمةِ وتنشرَ عطرَ معناها وحقيقة ذلك العطرِ بين الخلق.

تحاربُ الخيالَ برقةِ وجودها وشفافيتها التي تخترقُ الجسدَ وروحَه ,, تنعشُهُ لتوقظهُ من غفوته.

للكلمة حياةٌ على أرضِ الوجود والإنسان والقصيد تحملُ في طياتها مشاعرَ جارفةً نابعةً من عينِ قلبٍ فاض حباً ففاضت فراتاً تدفق بين ثنايا أرضٍ كشلالٍ انحدر من العلياء يسقى خضرةَ الأرضِ والسماء ليصبحَ الشوقُ بحرَ وجودٍ وشمسَ معرفةٍ تتجلى أمام ظلمةِ جهلٍ و كبرٍ و رياء .

هي الكلمةُ الحاملةُ في طياتها عشقَ سني عمرِ الإنسان ومشاعرَ كل زمانٍ ومكانٍ عبر تاريخ وجغرافيا الأرضِ والإنسانية ترسمُ تفاصيلَ تضاريسِ مشاعرِنا فيكونُ لها مدُ البحر وجزرهِ,,أفولُ الكواكب وشروقُها,جدبُ الأرض وخصوبتها, فهي حكمٌ بين شفاه طاغيةٍ وعلمٌ عند متعلمٍ وسيفٌ في يدِ مقاتلٍ ورصاصةٌ في جسدٍ فارقته الحياة منذُ زمن بعيد,,وهي ظلمةٌ على لسانِ جاهلٍ وحبٌ دافقٌ يفيضُ رقةً من قلبٍ محبٍ واشراقة سعادة غامرة في عينِ عاشقٍ , دمعة تخضبُ جفونَ ولهانٍ وبسمة على محيا زاهدٍ, وهي أيضا رزقُ فقيرٍ معدم.

هي الكلمة تماهي وجودَ الإنسانِ لتكونَ روحهُ لأنها منه خلقت وفيه تخلقت تُخلقها المشاعرُ لتكونَ كلَ ما ذكرت وأكثر .

في زمنٍ احتلت المشاعرُ السلبيةُ وجدانَ الإنسانِ و تربعت على عرشهِ لتهيمنَ على وجودهِ وتلغي روعةَ الجمالِ والحب فيه تنهضُ الكلمة من غفوتها لتعيدَ صياغةَ نفسها على أرضِ الأبجدية التي بعثرتها حروبنا وتطاحنُ مفرداتنا التي تشظت تحت وطأة صراعاتنا القاتلة للإنسانِ والبيانِ والكلمةِ الحاملة في طياتها الحلمَ والعلمَ والمعرفة و الحياة التي تحتاجُها شعوبُنا المكلومةُ الجريحة خالت أن اللونَ الأحمرَ الذي يخضبُ أرضها حبٌ لكنه في الحقيقة نزفُ جراحٍ خضبَ روحَ الإنسان.. بيانه ....وجدانه و أرضه لتكونَ أعمالهُ سلبيةً سالبة لروحِ الجمالِ وقوة وقدرة الحبِ على تغيير الواقع إلى الأفضل.

هكذا وجدتني أذوبُ عشقا أمامَ الكلمةِ المحبةِ العاشقة لوجودها وجمالها عندما تكون بين شفاه محبٍ شاعرٍ أطاحَ به الولهُ وأضناهُ الوجدُ فحلقَ على جناحِ الشوقِ لتصبح الكلمةُ صلاةً في محرابِ العذراءِ ونوراً في فكرِ إبراهيم المقاوم بالكلمةِ البيان وحركة عند سجودِ الكليم بعد خلع نعليه ,, وروح في الكلمة العيسوية وحب دافق في كلم خاتم الأنبياء عليه أفضل الصلاة و التسليم .

تسبي وجودَنا كلمةٌ لأنها تحاربُ الجهلَ فينا تعتقله لتطيحَ بأسبابهِ فللأبجدية واللغة مدى لا يحدُه حدٌ وليس له حيزٌ زمانيٌ ولا مكاني بل فضاءٌ ليس بفراغٍ لكن يشبههُ ليحيك لنا الصمتُ أجملَ المعاني ويعيدَ صياغة كلماتٍ أصابتها تشوهاتنا .

هكذا وجدتُ نفسي سبية كلمةٍ وأسيرةَ حبٍ على أرضِ قصيدة " لذة الموت عشقا" للشاعر العراقي المحلق في سماء الكلمة العاشقة "راسم المرواني" ليصبحَ الموتُ بين يدي بيانهِ حياةً أبدية تخترقُ التاريخَ والجغرافيا فتكون شمسَ وجودٍ وحياة عهدٍ طمست معالمَهُ تراكماتُ سلبياتنا على أرضِ الذاكرة ويقول الشاعرُ بعد أن جعلَ عنوان القصيد يختزلُ كلَ ما باح به وأوحت به المفرداتُ, ليقولَ لنا أن للموت لذةً عندما تكون بين أحضان الحبيبِ لأنها تثمرُ حياةً أخرى أجمل وأروع :

لُمنيْ ..أحبُّ اللّومَ فيه ، وأنتشيْ عِشقاً ، وأطرُبُ إذْ أُلامُ
لُمنيْ ، لأنَّكَ لستَ تعرفُ مَنْ يكونُ ، ومَنْ أكونُ ، وما الهيامُ

يخاطبُ الشاعرُ نفسهُ وكأنه يخاطبُ الإنسانيةَ جمعاء وكل من لم يدركْ ما يعيشُه من حبٍ جارفٍ أنساه كل من حوله , قطعَ صلته الأفقية بالخلقِ على أرضِ الواقع لتكون له وحدَهُ صلةٌ عمودية مع الخالق, يلتذُ بمشاعرَ تهيمنُ علي وجودِه لتفيضَ منه مفرداتُ الحب والوله التي لا تحتملُ السكونَ بل تحلقُ في سماء البوح والاعتراف الجميل بأروعِ المشاعرِ الخلاقة للكلمةِ وللجمال, المتفجرة نبعاً من ماءٍ زلالٍ لتغمرَ أرض القصيد وكأنها تخضعُ لطوفان سيدنا نوح لتتطهرَ مما علق بها من مشاعرَ سلبيةٍ جعلتها تعيشُ القحط والتشقق.

فالشاعرُ لا يبالي باللوم ولا بالعتاب الذي يمكنُ أن يتعرضَ له وهو تحت وطأةِ مشاعر تَمحي كل مخزونِ الذاكرة من موروثٍ يكبله ويحددُ انطلاقة جموحِه, فهو لا يأبهُ باللوم بل بالعكس هو ينتشي إذ يلامُ بل يطربُ له. هي مفارقةٌ جميلة يفصحُ عنها الشاعر ليرسمَ تكاملَ الأضدادِ فيه وهذا هو سرُّ روعةِ الجمال الذي يلتذُ به, فاللوم هو سببُ سعادتِه يفجرُ فيه مخزونَ مشاعر لتتكاملَ معاني وجودهِ يطرحُها على أرضِ القصيد لينتشي القارئ ويعيش جمالَ لحظةٍ حال الكتابة ,, وهنا تكمنُ حرفية الشاعر الذي يُحَملُ الكلمة صدقَه ووفاءه فتتطابقُ فيها مشاعرُ الحبِ مع المعنى الفصيح والمبنى الجميل ليكونَ للقصيدة بيانٌ وروحٌ تحلقُ في سماء الأدبِ الشاعر كأجمل ما يكونُ التحليقُ نتابعُه لنختزلَ روعةَ الحركةِ في فضاء وعلى أرض القصيد .

لوم النفس أو الآخر للشاعر ينمُ عن جهل صاحبهِ لِكُنهِ المحبوبُ وهويته ولهوية المحب ويقول الشاعر وهو يسائل لائمه :

أصحوتَ يوماً مثل طفلٍ ، لستَ تدريْ فيمَ أفزَعَكَ المنامُ ؟
أسكرتَ يوماً بالعيونِ وبالشفاهِ ، ولم يخامِرْكَ المُدامُ ؟
أوقفتَ يوماً كالأسيرِ ، أمامَ هَيبَتِهِ ، فغادَرَكَ الكلامُ؟
أشعرتَ يوماً بالحرائقِ تحتويكَ ، وليسَ يؤذيكَ الضِرامُ ؟
هلْ ذُقتَ طعمَ البَوحِ في ليلِ الهوى والخلقُ ناموا ؟
أترى تذوقتَ التخلّيَ والتحلّيَ كي يطيرَ بكَ السَنامُ ؟

يستعمل الشاعرُ طريقة غايةً في الذكاء ليفحمَ لائمَه وفي نفس الوقت يُطلعه على الأسبابَ و المعطيات التي جعلت منه هذا المتيمَ الغارقَ في بحرِ الحب والذي لا يعرفُ السباحة فيه إلا من سلكَ طريقه وتعرفَ على مفرداتِ وجودِه لتُصبحَ له روحُ طفلٍ أفزعه منام غفلة الواقعِ المرعبِ والذي لم يحتملْ مشاهدته.

ينتقلُ الشاعرُ بعد الصحوة ليعلنَ سكرَه دون مدامٍ أمام جمالٍ يسبي روحَه ويأسرُها وهي أعلى درجاتِ الإحساس بروعة الخلق ليكونَ صوفيا ساجداً في محرابِ الكلمة العاشقةِ والمحبة التي تجعلُ الشاعرَ يغادرُ الواقعَ إلى سماءِ الجمال والحب الإلهي لنكون أمام مشاعرَ رابعة العدوية وكل من عاشَ حالَ الحبِ المطلق الذي تخلص من إرهاصاتِ الفكر المادي وجذورِه الثابتة على أرض الجاذبية والهوى البشري بكل تقلباته والذي يلغي كل إحساسِ رائع بالحب والجمال .

بعد صحوةِ الفكر والسكر برحيقِ عالمِ الجمال المطلق يقفُ الشاعرُ أسيرا بين يدي من تخلل حبُه كل خلاياه ليكتنفَ وجودَ الشاعر عالم الصمت الذي يأسرُ كلماته كما كيانه الإنساني المتحرك على الطبيعةِ وعلى أرضِ القصيد لتفقدَ الحركة وجودَها أمام روعة جمالٍ تعجزُ الكلمات على التحلق حوله والإفصاح عنه.
للشاعر رسمٌ رائعٌ للصور القرآنية تختزلها كلماتهُ ترسلها معاني لتحتويَ القارئ, لها إيحاءٌ ووقعٌ جميل يحلقُ بك في سماء قصصِ الأنبياء لتكونَ الكلمةُ بيانَ حقيقة وليس رسمَ خيال وكابوس واقع, ويقول الشاعر :

أشعرتَ يوماً بالحرائقِ تحتويكَ ، وليسَ يؤذيكَ الضِرامُ ؟

يكونُ للبيت إيحاءٌ جميلٌ يخترقُ بك الزمان والمكان لتكونَ على أرضِ سيدنا إبراهيم عليه السلام وتعيشَ حدثَ إلقائه في النار وكيف كانت برداً وسلاما بعد أن فقدت خاصية الإحراق لتكونَ نورا يحتوي الإنسانَ وبيانه ويخرجه من أذية الظلمة إلى نور المعرفة.
للكلمة بوحٌ في غسق الدجى وفي ليل الهوى الذي يسكرُ الناس بنومه, فللمحبِ مناجاة أخرى تكونُ فيها الكلمةُ محرابَ صلاة وروح تؤمُ النفس وتروضُ شراسة جهلها .

يختمُ الشاعر سيل أسئلته للاَئميهِ,, و يقول:

أترى تذوقتَ التخلّيَ والتحلّيَ كي يطيرَ بكَ السَنامُ؟

يقولُ لنا الشاعرُ أن مصدرَ هذا الحبِ والوله والذي ليس له مدى ولا حيزٌ هو ثمرة التخلي والتحلي والذي له مذاقٌ آخر وحلاوة لا يعرفُها إلا من عاشها وأجتاز مراحل التخلي عن الخيالِ والذي هو غفلة و سراب واقع ليتحلى بروعةِ وجمال الحقيقة الربانية و التي تستقي أسبابَ وجودِها من حبٍ جارف يجعلك تسبحُ في بحورِ العشق لتغوصَ في أعماقها تلتقطُ دررَ المفردات لتعيشَ معانيها وتتذوقَ لذة الموت عشقا وروعة الحياة حبا .

رسمٌ برعَ الشاعرُ في تجسيده بالكلمة الصادقة والتي لها مدى يبحرُ في عالم الجمال المطلق لينطلقَ المحبُ بعدها على سنامٍ يصبحُ بساط سليمان يحترفُ التحليق و يعبر التاريخَ و الجغرافيا ويلغي وجودهما على صفحةِ أرضِ الإنسان والقصيد .

يعودُ الشاعرُ ليتحدثَ عن نفسِه بعد أن شَفى غليلَ لائميهِ ووضعهم أمام إشكاليات أجوبة لا يدركون وجودَها حتى يعيشوا مفرداتها التي تغريهم باللحاق به ليتذوقوا حلاوة مشاعرٍ لم يتسنَّ لهم معرفتها وكأن الشاعرَ يضعُ خطاهم على أول طريقه المؤدي لعالم الحب والجمال ,,ويقول :

إني أحاولُ أن أذوبَ بحرّهِ عَطَشَاً ، فيُسعِفُنيْ الصِيامُ

قبل أن تذوبَ نفسُه في بحرِ العشق وتتلاشى مفرداتها الماجنة وتعيشَ التخلي والتحلي لا بد أن يذوبَ في بحره عطشا للمعرفة ولماهية وجوده ورسالته مناط تكليفه والتي هي مشاعرُ وحبٌ جارفٌ قبل أن تكونَ أي شيءٍ آخر. وحده المحب والذي أشبع وجوده بمشاعر الجمال والوفاء قادر على التحلي والتخلي وتحطيم جبالِ غروره وكبريائه المتعالي أمام قدرةِ الخالق.

هذا العطشُ لوجودِه الإنساني الفاعل المتفاعل لا يستقرُ فيه حتى يدركَ الصيام ويعيشَ إنجازاتِه القادرةَ على ترويضِ نفسِه وكبح جماحها .

ينتقلُ الشاعرُ للحديثِ عن نفسه بعد أن اتضحت الرؤية له وللآخر ليسترسلَ في وصف لذة الموت عشقا,, ليقول:

في عشقهِ طعمُ الوجودِ ، وفي محبتهِ التكاملُ والسلامُ
أنا عاشقٌ حَدَّ الثَمالةِ ، عافَني صحويْ ، وأَسكَرَنيْ الغَرامُ
أنا بعضُ ما صَنَعَتْ يداهُ ، وبعضُ مَنْ رَحَلوا وقَاموا
أنا فيهِ مثلُ سفينةٍ ، لم يبقَ منها غيرُ ما يَذَرُ الحُطامُ

لهذا العشقِ طعمُ الوجود وكأن له مذاقاً حسياً وآخر روحانياً يستولي على الفكرِ والقلب يعطي من يعيشه بصدقٍ تكاملاً وتوازناً إنسانياً يجعله يعيشُ سكينة السلام والتي هي مبتغى كل البشرية.

لهذا التوازن لغةُ محبٍ وطمأنينة وجودٍ وجمالُ روعة يعيشُ صاحبُها العشق للمحسوس في الخلق على مستوى الطبيعةِ والإنسان والذي مناطُه الحبُ الرباني فهو خلق فيه وبه .

يعيفه صحوُه ليسكرهُ الغرامُ حد الثمالةِ فمن ذاق عرفَ ومن عرف هجرَ دنيا خيالِ الغفلة,, تتحدانا الكلماتُ في معناها ومبناها لتحلقَ بنا في سماءِ جمالٍ يعيشُه الشاعر حتى أننا نشعرُ في بعض الأحيان أن مشاعرَه تتجاوزُ وصفَه لحاله لأن ما يعيشُه أروع وأقوى مما تصفه الكلمات .

تحتلُ الأنا أبياتَ القصيد لتبرزَ وجودَ الشاعرِ المحب الذي يرسمُ بريشةِ القلم أروع المشاعر, لنقولَ كيف يصبحُ للقلم ألوانٌ وروحٌ تحركُ حياة الكلمة على أرض القصيد ؟

و أقول للحبِ قدرةٌ على تَخليق المشاعرِ الجميلة ونفخٍ الروح فيها . خلقنا بحب لنموت به وفيه حتى نَتخلقَ من جديد في عالم أجمل وأنقى وأطهر لنكونَ الأحلى وفي أحسن تقويمٍ رباني لنحمل الأمانة والرسالة .

تقولُ لنا الكلماتُ العاشقة لوجودِها المحب أن الشاعرَ هو بعضُ صنعته وبعضُ من وجودٍ وجزءٌ من تكوين الخالق في الخلق تكتملُ به وفيه صورةُ الوجود الكلي ليكون أرضا تحتوي التاريخَ والجغرافيا ومخزونَ ذاكرةٍ فيها المددُ الذي تدركُه الأجيالُ الاحقة وكأن السابقةَ رحلت وقامت ليعيدَ الخالقُ تخليقها من جديد .هي القدرة الإلهية التي تجعلُ من الإنسان سفينة نوحٍ تصنعُ لتبحرَ بكل مكوناتِ الخلق فيها فيكونُ مرساها و مجراها باسمه تعالى وليس لغيرِه فيها نصيبٌ وكل من تخلى عن هذا المبدأ والأمر حرم لذة العشقِ وأغرقه الهوى في أعماقٍ ليس لها قرار .

يتمثلُ الشاعرُ نفسَه سفينة يجعلها تتحطمُ في بحورِ الحب المتلاطمةِ أمواجُها وهو العاشقُ لوجودِ الخلق لأنه صنعُ الخالق ولا يبقى منه سوى ما تركه الحطامُ ليطفوَ على سطحِ نفسهِ ليكونَ شاهدا على كسرِ سفنِ هواه المبحرة على أرضِ خيال الواقع و يقول بعد ذلك :

ليْ فيهِ ألفُ تساؤلٍ ، تخبو ، فيُشعِلها احتدامُ
ما زلتُ أجهلهُ ، ولكني قريب منه ، يؤنسنيْ الوئامُ

تنتهي مرحلةُ التعرف على النفس وسبرِ مراحلِ تِرحالها وإبحارِها في بحرِ حبِ الوجود الرباني بكل مكوناتِه الطبيعية والوجودية ليقفَ الشاعرُ أمام لوحةِ نفسه التي رسمها على أرضِ القصيد ليقولَ أن حيرتَه لم تنتهِ بعد,, تُشعلُها أسئلةٌ مازالت كامنةً فيه تبحث عن أجوبةٍ وعن معرفة تتشقق أرضُه القاحلة أمام عطشِه إليها وكأن الجهل ما زال يكتنفُ وجودَه الذي أضناه الفقدُ لمشاعرِ حبٍ تكون فراتَ حياته ولذة عمره وجمال وجود كونِه الإنساني وهويته التي لا تستطيعُ أن تنفصمَ عراها عن خالق وجوده و نافخ الروح فيه .

تتخلقُ الحركةُ التي تتناقضُ في ظاهرها لكنها تتكاملُ ليعيشَ الشاعرُ القربَ والبعد في نفس الوقت وهي صورةٌ تحكي روعةَ جمالِها لأنها تُحاكي حقيقةَ الوجود الكامنة فينا و التي لا نتعرفُ عليها حتى نعيشَها كمنطقٍ متكاملٍ يفصحُ لنا عن جمال تتآلفُ عناصرُه لنعيشَه سكينةً تحتضنُ وجودَنا الإنساني المعذب لأنه يرى الخيالَ بعينٍ واحدة يتشبهُ به ليكونَ له إعتقادٌ راسخٌ في أحقيته في الوجود.. ويقول الشاعر :

وأذوبُ فيه كأنني بَردٌ ، وكفّاهُ المواقدُ ، والخيامُ
أدريْ بأني إنْ تركتُ ودادَه أو هزَّ أشرعتيْ الخِصامُ
سأتيهُ مثل الآخرين على المسالكِ حيثُ ينفرطُ النظامُ

يعودُ الشاعرُ ليذوبَ في حبِ من أحب يتشبهُ بحركة الكون والفصول ليكونَ بردَ شتاء يبحثُ عن دفء ودادِه وقربه الذي له وئامٌ يُطفئ حرقة البردِ فيه وهو الذي يدري أكثر من غيره أنه إن هز أشرعته الخصامُ الذي يأخذ من داخله و من أرض محيطه حلبة صراع سوف يأتيه يومُ حساب ينفرطُ فيه نظامُه الذي أقام واقعَ خيالِه الفاقد لشرعيته الإنسانية الفطرية ,,ويقول الشاعر :

أهواهُ ، لا أخشاهُ ، هلْ يخشى الـمُحِبَّ المـُستَهامُ
كالطفلِ ، أعشقُ حُضنَهُ ، وألوعُ لو أزفَ الفِطامُ

يرسمُ الشعرُ مركبَ الشاعر وكينونته على أديمِ بحرِه المتقلبِ تارة والساكن أخرى ليعيشَ الهوى الذي يعطيه ثقةً في من أحبَ وكأنه يريدُ طمأنةَ نفسِه على مصيرها يوم لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ ليقولَ أن المحبَ المستهامَ لا يخشاه وهو الطفلُ الذي لا يقدر على لوعةِ الفطام والانقطاعِ عن التواصلِ بمن شربَ حبّه فتخللَ كل مسامه وخلاياه , يعيشُ الوجدَ والولهَ الذي ليس للشاعرِ عليه قدرةُ التخلي لأنه ذاق التحلي بروحِ الجمال و روعة المشاعر التي ليس لها مدى, ويقولُ الشاعرُ في آخر القصيدِ وكأنه في حرب مع نفسه وهو الذي يجيدُ الكر والفر ليكتسبَ أكبرَ لذة يمكنُ للعشق أن يوفرَها له ,,يقول الشاعر:

أعصيهِ من جهلٍ ، فيغفرُ ليْ ، ويُدنينيْ ، وتعذِلُنيْ الأنامُ
فأعود من حيث ابتدأتُ ، كأنني هَدَفٌ ، ورحمتهُ السهامُ

يختمُ الشاعرُ القصيدةَ باعترافٍ يشقُ على غيرِه الإفصاحُ عنه وهو الذي يجدُ لذة في ذلك ويقول أن المعصيةَ التي يقترفُها والجهلَ الذي يسكنُه هما سببُ سعادته, ومغفرة من أحبَّ هي سببُ دنوه منه وقرب يَصبو إليه, فللذنبِ سعادة تحسدُه عليها الأنامُ ليكون للعود مذاقٌ آخر يقربه ويجعله ينعمُ في رحابِ من هام به حبا ليصبحَ الشاعرُ هدفا يتلقى سهامَ الرحمة التي تصيبهُ دون خطأ تطفئُ نارَ لهفة القربِ وتميته لذة وعشقا لكونه جزءاً من هذا الحبِ وهو صنعةُ خالق هام الشاعرُ في روعة حبه ,تفرد بها دون لائميه وعاذليه .

هذه القصيدةُ هي من القصائدِ النادرة التي تجعلُ للكلمة لذةً ومذاقا لتكونَ لها حركةٌ على أرضِ الحرف النابضِ بكل مشاعرِ الجمال والحب ليصبحَ نسيجُها متناسقا مع روحِ الشاعرِ المرهفة الحس والمعبرة عن أجملِ المشاعر وأرقاها وهي التي تتخلصُ من كل مظاهرِ الواقعِ الحسي والخيال لِتُعبرَ عن حقيقةِ وجودِ الإنسان والذي شَكَّله الحبُ ليعيش به وفيه طَوالَ أيامِ إقامته على أرضه وأرض محيطِه لينتقلَ مع هذه المشاعرِ العاشقة إلى عالمٍ تنتفي فيه الكلمةُ ليبقى معناها ويتلاشي مبناها, فلعالمِ الصمتِ روعةُ الجمال القادر وحدَه على جعلِ الإنسان يتخلى عن مخزونِ الذاكرة ليتخلقَ من جديدٍ في بيئته الأصلية التي خلق فيها وهو الأدمي الحاملُ رسالةَ ما قبل الغوايةِ , احتواه واقعُ الخيال فاحتوته الجاذبيةُ الأرضيةُ ليفقدَ أجملَ وجودٍ تشكلهُ مشاعرُه العاشقة وهو الحبُ الذي غادر عرش قلبه.

أخذنا الشاعرُ "راسم المرواني" على جناحِ الكلمةِ لتكونَ البساطَ السليماني الذي يسحبنا في رحلة وكأنها إسراءٌ وعروجٌ صوفي لنتعرفَ من خلالِ القصيد على حلاوة مذاق العشقِ للكون ونَتبينَ رداءة واقعِ الخيال ننفرُ منه لنبحثَ في معنى الكلمةِ المحلقة في سماءِ ألوان الجمالِ تأخذُنا في رحلة وطوافٍ نتعرفُ من خلالها على هويةِ الإنسان و على جماليةِ النفس والروح في عالمٍ تجيدُ فيه الحركةُ الفاعلة في الوجودِ التعبير عن نفسها والاسترسال في سردِ مفرداتٍ توارت خلفَ حجابِ جهلنا ليقولَ لنا الشاعرُ أن عالمَ الواقعِ هو سرابٌ حاكته النفسُ بعد أن تزاوجت مع خيالِ الواقع احتواها سحرُه و جعلها تتشبثُ به , ليُسكرَها الهوى الذي يلغي أجملَ مشاعرِ الحب فينا .

يسحبنا الشاعرُ إلى أرضِه أرضِ القصيد الذي برعَ في حياكة مفرداتهِ ومعانيه , جعلها تتداخلُ, تتكاملُ, تتوازنُ ,لتفصحَ لنا عن روعة الحقيقة التي طمس معالمها تاريخ الذاكرة في تضاريسها ليعتليَ رباها موروثٌ محرفُ الهوية أخذ من كل الشيء بطرف ليجعلَ من الكيان البشري شبهَ إنسانٍ ينطلقُ ويبحرُ في بحر الشبهية الماسخة للذات الإنسانية فتكون له شبه أعمال..... شبه كلمات.... شبه حياة ....

أبدع الشاعرُ القديرُ راسم المرواني" في وصفِ حالةِ عشقٍ فريدة من نوعها ليست متاحةً لكل من أراد طَرقَ بابها, لها ضريبةٌ ومفرداتٌ تستوجبُ وجودَها وأيضا مشاعر صادقة وفية تحتلُ الكيانَ الإنسانيَ ليستطيعَ بعدها تحسسَ أول خطواتِه على طريق العشق للخَلق الرباني. تموتُ كلُ المشاعرِ السلبية التي طمست حقيقةَ هوية الإنسان في زحامِ أفعالنا الرديئةِ لنتذوقَ لذةَ الموتِ عشقاً ونتعرفَ على حلاوةِ الحبِ والقرب و الدنو الذي ينصهرُ جمالُه في الوجودِ الإنساني ليتلاشى فيه و به.. الحب منظومة تتكامل في الإنسان تجعله يعيشها عندما يوفيها حقها و ذلك عندما يخرج من العلاقة الاجتماعية الأفقية الموروثة ليؤسس لأخرى عَمودية تَجعله يستقي الحب من مَنبعه الرباني و الذي له أصوله الثابتة في فطرة الخلق, بعدها يستطيع الفرد أن يقيم علاقاته الأفقية على قاعدة سليمة و متوازنة. هكذا تتقاطع فينا العلاقات لنلتقيَ حولها و بها وفيها و يكون لنا لقاء لنصبح نقطة في وجود سابح في بحر الحب نعيش به وفيه لنعَبر عن حقيقته الوجودية .

كنتُ معكم في قراءةِ قصيدةٍ من أجملِ قصائدِ الحبِ وأروعها لعاشقٍ أجاد التعامل مع المفارقاتِ في الطبيعة الإنسانية يجعلُها تتآلفُ لتتوازنَ فيه وتُخَلِّقه من جديدٍ هكذا يتذوقُ لذةَ الحبِ ورحيقه لينسجَ أرقَ معانيهِ على أرضِ قصيدةٍ تكونُ كلماتُها نوارسَ حالمة بين زرقةِ بحرٍ وصفاءِ سماء..... فالعشقُ حادٍ والمحبُ مسافرٌ على أرضِ مشاعر صادقةٍ جياشة . تنصهرُ في الكلمة يتخللُ جمالها نسيجَ القصيدةِ لتحلقَ بنا روحاً في سماها لها تواصلٌ ووصالٌ بمنبعِ وأصلِ وجودها المطلق .




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=44852
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 04 / 08
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19