• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : حرب وسجن ورحيل-64 .
                          • الكاتب : جعفر المهاجر .

حرب وسجن ورحيل-64

أشرقت شمس  نهايات شهر تموز على ذلك البيت القديم الذي كان يقبع في أحد الأزقة الضيقة  في مدينة حلب وكانت الروائح الكريهة ورائحة الدهن المحترق تنبعث من كل ركن في ذلك البيت الذي كان يحتوي على  العديد من الغرف البالية الجدران بعضها مؤجرة على شكل مخازن   لخزن البضاعة وأخرى لشخصين أو ثلاثه حشروا أنفسهم فيها لقضاء فترة الليل وفي النهار تبتلعهم المدينة ليمارسوا فيها أعمالهم لكي يحصلوا على لقمة العيش وغرفة أخرى يحضر ويقلي فيها  بعض العمال  مادة  (الهمبركر )ثم ينقلونه وهم يبدأون عملهم من الصباح وحتى منتصف الليل دون هواده ويتحركون جيئة وذهابا وكأنهم في سباق مراثوني من وألى المحل  الذي يقع في الشارع العام و يشهد ازدحاما وأقبالا شديدين  من  الفقراء الذين تعج بهم هذه المدينة الأخطبوط المترامية الأطراف والشديدة الأزدحام . كان البيت أشبه     بأصطبل للحيوانات وقدرت المدة   التي مرت على بنائه بحوالي أكثر من مئة عام.  نحن الآن أربعة أشخاص لانملك من حطام الدنيا شيئا ونحن بحاجة ألى نقود لكي نعيش وقد وكلت أبنتي في الحصول على راتبنا التقاعدي الضئيل الذي كان لايساوي شيئا بعد أن وصلت العملة العراقية ألى الحضيض  وكنت آمل بالحصول عليه وجلبه ألينا رغم ضآلته عسى أن تتحسن العملة  عن طريق بعض الأشخاص لكن هذا لم يتحقق حيث صودر بعد خروجنا من العراق بأيام        وقد  أخبرنا  أبني بأن صاحب الدار سيرفع أيجار الغرفة لو علم بقدومنا و لابد من التكتم الشديد الذي  أصبح من الضروريات حيث أن المال يعتبر هنا فوق كل الأعتبارات. كان أبني يبدو شاحبا قلقا متعبا شارد الذهن   وكان أمرا طبيعيا بالنسبة  لشاب مثله تخرج مهندسا في وطنه  و لم يجد فيه فرصة للعمل ووجد نفسه  أخيرايعمل كعامل في أشغال شاقة خارج  هذا الوطن الذي كان يعمل الملايين من غير الجنسية العراقية فيه ويتمتعون  بخيراته الوفيرة لابل يحولون العملة الصعبة ألى أوطانهم حين كانت العملة العراقية قوية لكنهم بدأوا يتركونه حين ضعفت عملته .   وما أن حلت الساعة السادسة صباحا حتى حزم أبني أمره سريعا ليذهب ألى المعمل الذي يعمل فيه ويرجع ألى قبوه في السادسة مساء وكان يقول لي أنني هنا أنتقل  بين  سجنين  سجن السكن وسجن العمل ولو بقيت على هذه الحالة لفترة أخرى سأنهار تماما نتيجة هذا الوضع الذي لايحتمل.وقد شعرت بأن مجيئنا هنا قد أضافت هموما أضافية ألى همومه     ومسؤولياته وقررت أن أجد  حلا ورجوت من الله العلي القدير أن يساعدني في هذا الأمر . لقد كان يعمل 12 ساعة في اليوم في ذلك المعمل الأهلي الذي لاتتوفر فيه أدنى درجات الحماية للعامل وقد فقد بعض العمال أطرافهم ولم يحصلوا ألا على تعويضات بسيطة لاقيمة لهاوكل منهم يعمل كأجير بأجر زهيد لايسد رمقه وقد أخبرنا بأن صاحب المعمل يعامله  مثلما يتعامل مع الآله ومشاعره وأحاسيسه   محصورة بجني الأرباح فقط  وعليه أن يعمل طول هذه الساعات باستثناء ساعة للغداء يتناولها في المعمل مع أقرانه في العمل وعليه طيلة الساعات الأحدى عشر المتبقية أن لايرفع رأسه ويقطع علاقته  بما يحيط حوله  ويركز كل جهده على الماكينة التي تغزل السجاده بانتظام وفق التصميم المخصص ويظل مراقبا من رئيس العمل ألى آخر لحظة من  الوقت المخصص لعمله .  وهذا هو شأن كل أرباب العمل هنا حيث لارقابة ولا حساب عليهم من الدولة سوى جني الضرائب  والتفنن في زيادتها بين آونة وأخرى  منهم ولا يوجد شيئ أسمه (حقوق  العامل ) أبدا في قاموس ألدوله التي تجيد الحديث عن حقوق الشعب في وسائل أعلامها فقط. حيث يستغل أرباب العمل العامل  ذلك الإهمال من قبل الدولة استغلالا تاما لكي يخففوا عن الضرائب التي تجنيها الدولة منهم وأخبرنا بأنه أذا تأخر ساعة ربما سيطرد  من العمل وحينذاك ستغلق في وجهه كل السبل لأن الحصول على عمل في هذه المدينة أشبه بالمعجزة حيث أن نصف شبابها يعانون من البطالة ويعملون كبائعي خضرة أو ملابس أو شاي على الرصيف أو حاجيات بسيطة  أخرى على الأرصفة وتطاردهم البلدية من مكان ألى مكان وتصادر كل مايملكونه ويعود هؤلاء للبيع مرات ومراتحيث لاطريق لهم غير ذلك . فحثثته على الذهاب ألى المعمل بسرعه حتى لايحدث له أمر بحضورنا. فانطلق راكضا ألى عمله وتركنا بعد أن أعطاني فكرة  بسيطة عن  المدينة ومعالمها وناسها وقال لي من جملة ماقال   هنا في هذه المدينة التي تحتوي مئات المساجد التي يبنيها الناس مسجدا واحدا كبيرا للشيعة أسمه مسجد الأمام الحسين ع ويسمونه في أحيان أخرى            بمسجد (النقطه ) لسقوط قطرة من دم الحسين على صخرة توجد في ذلك المسجد  الذي يقع في منطقة (المشهد )ويؤمه العشرات من المصلين ويزداد عددهم في يوم الجمعه ويتوافد عليه الآلاف من الشيعة من  عديد الدول كلبنان  والسعودية وباكستان وأندنوسيا  وغيرها  والأكثرية الساحقة التي تحضر هم من أيران   يأتون على شكل( كروبات ) بعشرات السيارات نساء ورجالا يقيمون لآيم عدة ويباتون ويطبخون الطعام في المكان الكبير المخصص للطبخ ويجلبون معهم              بعض البضائع لبيعها منها البطانيات والسجاجيد والترامس   وغيرها وربما ستجد لك أصدقاء هناك لتخفف عن وحدتك وقد وضع في جيبي مبلغا من المال.
أنطلقت ألى المسجد في هذه المدينة المترامية الأطراف ووجدت في طريقي العديد من المشاهد التي تزخر بالكثير من العجائب والمتناقضات في أحوال سكانها حيث  يلتقي القديم بالجديد في كل شيئ  في عمران  وفي الأزياء فهنا  يجد الحجاب التام  ويرى أيضا النساء السافرات وكذلك الصناعات اليدوية ألى جانب الصناعات الألكترونية        ويستطيع المرء أن يرى الفقر المدقع   متجسدا بالملابس الرثة وكثرة المتسولين والمتسولات  والغنى الفاحش التي تمثلها طبقة التجار والعوائل الأرستقراطية وكانت طبقة الموظفين  يمكن اعتبارها الطبقة الفقيرة دون المتوسطة ولاحظت الكثير من العناوين التي تمل جملة (مدرس خصوصي ) على أبواب البيوت ومررت بشوارع نظيفة بعض الشيئ وأخرى تنعدم فيها النظافة تماما كل هذاشعرت به وأنا أخطف هذه المناظر بكامرة العينين وأجتازها في طريقي سأذكره فيما بعد.  كنت أجر خطاي والألم والقلق يداهماني في كل لحظةوكأنني أسير هائما على وجهي بلا هدف خاصة وأن الرجوع  للوطن الذي تسود فيه الوحوش الضارية أصبح مستحيلا تماما رغم شعوري بأن الحياة لاتخلو من فسحة الأمل مهما كانت الصعوبات ومهما اشتد الظلام. أنتابني شعور شديد بالوحدة أثناء سيري في هذه        المدينة الكبيرة التي تكثر فيها السيارات بشكل ملحوظ حيث لايجد الشاب عملا والكثير منهم يلجأ لشراء سيارة أجرة بمساعدة عائلته ومعارفه ونظام المرور صفرحيث تطلق      مزاميرها بشكل يشق الأسماع بضرورة أو بدون ضرورة ومعظم شوارعها تخلو من أشارات العبوروأهمال شرطة المرور الذين يمدون أيديهم ألى أولئك السواق لقلة رواتبهم وقد عرفت ذلك فيما بعد.سألت أحدهم     عن  موقع  المسجد فأجابني (هل تقصد مسجد الشوعه ؟!!!)أجبته نعم وحبست ابتسامتي فأخذ يشرح لي ويذكر لي رقم الباص الذي يوصلني لكنني كنت أفضل المشي لأرى كل شيئ في طريقي وسرت وسط الضجيج والزحام ومحلات الباعة  المتنوعة التي لاتعد ولا تحصى حتى لبن العصفور يمكن أن يجده الإنسان هناوكان  منظر (المعاليق ) و(أكوام الكلاوي ) و(رؤوس الخراف) ولحوم الضأن والبقر   والدجاج  الحي والمذبوح وأنواع الفواكه والخضروات الكثيرة التي تعج بها حلب مثار شهية  كل إنسان وخاصة ساحة (باب جنين )التي تقع  في وسط المدينه وسوق(العتمه ) القريب منها  وهو سوق ضيق شبه مظلم  يعج بمختلف أنواع اللحوم  ولكن كان هناك فقراء كثيرون لايستطيعون شراءها ألا بين فترة وأخرى وآخرون قد أتخموا بها ولله في خلقه شؤون كما عرفت ذلك لاحقا. والحلبيون بارعون في تنويع الأكلات ومنها الكبب والمحاشي والمشويات و(الرز بالفريكه) و (الكبة النيه)وغيرها من المأكولات الشهية الكثيرة وقد سألني أحدهم في أحد الأيام بعد تعرفي عليه قائلا   (خيو مامعنى الحصار الذي يعيشه العراقيون ؟ ) فقلت له أنه عقوبات لانهاية لها فرضتها أمريكا وحلفاؤها على الطبقات الفقيرة من  الشعب  العراقي حيث توقفت المصانع والمستشفيات والمدارس وانهارت العملة ومات مئات الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ من نقص الدواء والغذاء وطفحت مياه المجاري في كل مكان وانتشرت مختلف الأمراض وخاصة بين الأطفال والشيوخ. فقال لي( كم مرة تأكلون اللحم في الأسبوع ؟) فأجبته بالنسبة لي كموظف في الدوله أتناول كمية صغيرة من اللحم أنا وعائلتي مرتين في الشهرلأن راتبي لايكفيني لأكثر من أسبوع على أعلى تقدير . فصاح (الله أكبر أنا أذا لم أتناول نصف كيلو غرام من اللحم يوميا أفقد حاسة البصر والسمع والقدرة على العمل وينهار جسمي تماما .!!! ) فضحكنا وودعته. شققت طريقي لأعثر على ضالتي (مسجد الحسين ) بين السيارات الكثيرة وأبواقها   المنطلقة دون رقيب أو حسيب  تلك الأبواق التي كانت     تخرق الأسماع وتترك في الآذان طنينا مستمرا ومررت على ساحة أسمها (ساحة سعد الله الجابري ) وساحة أخرى أسمها ساحة (باب الفرج ) ووقع نظري على بعض الجداريات التي تحمل صوروتماثيل الرئيس الراحل حافظ الأسدوأحيانا على جانبية صورتي أبنيه (باسل وبشار ) وتحتها   خط عريض يقول ( قائدنا ألى الأبد السيد الرئيس حافظ الأسد . )وصلت أخيرا بعد تعب شديد ألى المكان وبعد حوالي ساعة كاملة من        المشي على الأقدام  كان يمكن اختصارها بنصف ساعة لو أسرعت في خطوي وكانت تراودني أحاسيس ومشاعر شتى في تلك اللحظات وفي الحقيقة حينما يجد الشخص نفسه وحيدا في مدينة كبيرة تداهمه هموم يكون لها وقع كبير على نفسيته .
وصلت ألى المسجد بعد أن لمحت لافتة تدل عليه من بعد عشرات الأمتاروكانت على الطريق عدة أشجار من الزيتون غرست بصورة نظامية منسقة ثم دخلت من الباب الرئيس وأذا بي أمام ساحة تحتوي على عشرات الغرف وشاهدت في وسط ساحة المسجد قبرا أسمنتيا وقد وقف بعض الأشخاص  أمامه وهم في حالة خشوع يقرأون سورة  الفاتحه ووقفت معهم أقرأ سورة  الفاتحة على صاحب القبر. وقرأت كلمات محفورة على القبر تقول : (الفاتحة على روح الشيخ إبراهيم الضريرمؤسس مسجد المشهد  أنتقل ألى جوار ربه بتأريخ كذا. )وفي مكان آخر كتبت أبيات ثلاثة  تقول:
سلّم على الشيخ إبراهيم ياشممُ
أني أرى وجهه الوضاء يبتسمُ
وتلك  جبهته  لله  ساجدة 
والقلب  مبتهلٌ  بالله يعتصم ُ 
شيخ  وقورٌ جليل القدر مؤتمنٌ  
وعاملٌ  عاملٌ  علاّّمةٌ  علمُ ٌ
وسألت أحد  الواقفين بعد أن سلمت عليه( هل باستطاعتك ياأخي أن تمدني ببعض المعلومات عن الشيخ أبراهيم؟ )فأجابني أنت من أي بلد أولا ؟ فأجبته من العراق  وحين سمع بكلمة (العراق ) فاجئني و أنفجر  بالبكاء وأخذني بالأحضان وقلت له لماذا بكيت وأبكيتني معك ؟ أجاب كيف لاأسمع بالعراق ولا أبكي !!!؟فقلت له هل تحب الشعب أم الحاكم فوجه كلمات لاذعة ألى رئيس النظام وقال هل تريدني أن أمدح قاتلا قتل العلامة محمد باقر الصدر وأخته العلوية الطاهرة بنت الهدى ؟ هذا عدو الشعب وكان هذا الشخص يدعى (أبو ياسر ) الذي أصبح من أعز أصدقائي فيما بعد وهو أمين مكتبة  المسجد  التي تحتوي   على آلاف الكتب القيمة والتي كان يستعيرها عدد من المصلين  باستمرار. وبكينا سوية لبرهة من الزمن ومسحنا دموعنا وسألني عن الفترة التي جئت بها ألى هنا فقلت له منذ أيام ووضع  يده على كتفي وأخذ يطمئنني قائلا: أنت اليوم بين أهلك وأخوانك فكانت كلماته كالماء القراح الذي أثلج قلبي ومنحني القوة وأخذ يتحدث عن سيرة الشيخ أبراهيم الضرير الطيبة ويعدد لي مآثره الكثيرة وأخلاقه العالية  وكيف أحب الجميع وبادلوه بحب أقوى منه وكيف كان يجمع التبرعات من جميع أنحاء العالم الإسلامي ألى أن بنى المسجد وبناء على وصيته دفن هنا .
قادني الرجل ألى داخل المسجد وكلمات الترحيب لاتفارق  شفتيه وبعد أن وضعنا  أحذيتنا في المكان المخصص لها دخلنا محراب المسجد الكبير وهو عبارة عن قاعة مستطيلة كبيرة  لها عدة أبواب فخمة وأرضها مفروشة بسجاد رائع وفي وسط القاعة منبر كبير وثريات ومراوح كثيرة معلقة كان المشهد مبهرا ورائعا وعلى جانب   القاعة قفص برنزي وتقبع وسط القفص صخرة كبيرة مستطيلة وضعت على منصة يقال أنها الصخرة التي وضع عليها رأس الأمام الحسين ووقعت قطرة من دمه الشريف عليها  لذا سمي بمسجد (النقطه )كان بعض الزوارمن نساء ورجال يقرأون  أدعية الأمام الحسين ع  ويبكون وآخرون منهمكون بالصلاة وكان صاحبي يرقبني وينتظرني  وكأنه يريد أن يخبرني  بأمور  كثيرة ومن حسن الحظ أن يصادف ذلك اليوم هو     يوم جمعة حيث بدأ  المصلون يتقاطرون بسياراتهم ومشيا  على الأقدام  تجاوزوا المئتين حين قرب موعد الصلاة .    أرتفع صوت جهوري من أحدهم   بالصلاة على محمد وآل محمد  وكان ذلك الصوت أيذانا  بوصول خطيب المسجد وأمامه الشيخ( أبراهيم نصر الله).  فتوجه نحونا وهو يسلم على الجميع ووقفت لأسلم عليه  وصافحته وبعد أن عرف أنني حضرت حديثا من العراق رحب بي وقال سأنتظرك في غرفتي بعد الصلاه وشعرت براحة نفسية كبيرة لاتقدر بثمن.على هذه اللقاءات الطيبة التي أزاحت عن كاهلي بعض هموم الغربة .
السويد
24/3/2011م 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=4347
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 03 / 24
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 16