• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : المرأة آلهة وداعرة .
                          • الكاتب : صالح الطائي .

المرأة آلهة وداعرة

قد يكون الإنسان العراقي القديم أول من نجح في توظيف الرمز الأسطوري في حكاية بحثه عن المعرفة، ولكنه أعطاه انطباعا تكوينيا غاية في الدقة فجعله ممزوجا بالجمال، ولاسيما جمال المرأة الأخاذ؛ الذي لا يعطي انطباعا بالطيبة عادة بقدر كونه صورة تتلخص فيها كل نوازع النفس البشرية؛ من طيبة وخبث وحب وكراهية وخداع وصراع. ومن خلال ذلك نفذ إلى عمق ما هو عليه الإنسان عبر التاريخ، فكانت رمزيته المبتدعة مفتاح المعرفة، معرفة نوازع النفس البشرية المجبولة على التناقض. 
وفي كل ذلك خلدت صورة المرأة الأم التي ترمز إلى العطاء غير المحدود، والمرأة الإنسان التي تجمع في شخصيتها كل تناقضات الكون، ثم حولت هذه الفكرة إلى معتقد ديني صارت المرأة بموجبه آلهة تعبد. ولكنه ربما لقسوته أبى أن  يعترف بقدسيتها المطلقة فجعل ربوبيتها ناقصة، وصار يهينها ويذلها في نفس الوقت. 
ومن غرائب التاريخ أن المرأة كانت آلهة تعبد ليس في العراق وحده وإنما في جميع الحضارات القديمة، وكانت تناط بها مهام من سنخ طبيعتها المتناقضة غير التقليدية، فعشتار أو إنانا التي ترمز إلى المرأة العراقية القديمة هي إلهة الجنس، والحب، والجمال، والحرب،ونجد قبالتها وبنفس صفاتها عشاروت عند الفينيقيين، وأفروديت عند اليونانيين، وفينوس عند الرومان.
ويتبين من خلال بعض الآثار والنقوش الآثارية التي تم العثور عليها؛ أن هذه الآلهة جميعهن كن يمتزن بصفات مشتركة تجمع بين القوة والقسوة، والجمال والخصب والنماء، والشر والقبح أيضا، فعشتار وفق النقوش السومرية كانت  شابة ذات جمال أخاذ وقوام ممشوق جميل، ممتلئة الجسم، نافرة النهدين، حمراء الخدود، مشرقة العيون، فضلا عن سيماء السمو، ومن تحت أثر أقدامها كان ينبع النماء والخير، فهي غالبا كانت تجوب الحقول، فتتفجر الينابيع تحت قدميها ماءً رقراقا عذبا، وتُزهر الأرض بالسنابل والنماء، فهي الآلهة الأم منجبة الحياة.
لكن هذه الصورة المشرقة ما تلبث أن يخالطها الرعب والموت والدمار، فلعشتار الجميلة أخت أخرى هي الإلهة (إرشكيجال أو إيرشيكال) وهي إلهة العالم السفلي، وربة عالم الأموات. 
عشتار نفسها مع كل صفات الجمال؛ الأخاذ نجدها ذات روح شريرة، حيث كانت تغوي بجمالها الرجال الآلهة والبشر سوية وتبتزهم وتسرق قوتهم، حيث كانت تدور بحثاً عن ضحاياها فتغويهم وتعدهم بالزواج، ومتى أخذت ما يملكون، تركتهم يبكونها.
وهي حتى في أشد حالات حزنها كانت تأبى التخلي عن الشر، فهي بعد أن تزوجت الإله تموز الذي سرعان ما قتل في الحرب، حزنت وقررت النزول إلى عالم الموتى لتجتمع به هناك. فتسبب نزولها بجدب الأرض وموت الزرع وانقطاع النسل وساءت الأحوال العامة مما استوجب تدخل الآلهة لإعادة الحياة إلى زوجها وإعادته معها إلى الأرض لتعود الحياة إليها.
إينانا هذه المرأة الآلهة كانت سبب نشوء وديمومة وازدهار حضارة أوروك في الألف الرابع قبل الميلاد، ولكن هذه الحضارة التي كانت سباقة في كل شيء عمدت إلى توجيه طعنة غدر إليها من خلال فتح أول بيت دعارة رسمي مشهور في العالم، وفي مدينة (نيبور)، عاصمة السومريين تحديدا، في حدود العام 2500 قبل الميلاد ، تحت اسم (مساكدين)، فأسكنوا أقرانها من النساء في المواخير، وحولوا القسم الآخر منهن إلى عاهرات رسميات في دور العبادة يرقصن للرب ويخدمن الرهبان، في دلالة رمزية إلى وجود وأبدية الصراع بين الجنسين الرجل والمرأة، ومن ثم تخليد السطوة الذكورية على مر التاريخ.
إن الرجل إذا ما كان قد نجح في إذلال المرأة من خلال تحويلها إلى ملهاة تفرغ شهواته، كان قد تحول هو الآخر إلى ملهاة بيدها تشبع من خلاله رغباتها وتنتقم منه، فضلا عن أن الدرجة المنحطة التي وضع المرأة فيها كانت من السعة لدرجة أنها احتوته أيضا بعد أن نزل إليها بمحض إرادته ليقابل المرأة فيها، فاستويا في المنزلة، منزلة العلياء والسمو، ومنزلة الانحطاط والتدني. 
ويبقى الإنسان إنسانا وكائنا عاقلا ما دام يتحرك في حدود إنسانيته، ومتى ما خرج عن حدودها تطغى عليه صفات الآدمية الحيوانية التي تحركها العواطف الخيرة والشريرة، وثمة آدمية وحيوانية في كلا الجنسين، وفي كل منا.



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=43420
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 03 / 03
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28