• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : حرب وسجن ورحيل-63 .
                          • الكاتب : جعفر المهاجر .

حرب وسجن ورحيل-63

ظل المعلم في البلاد عليلا
وعلى الحدود تجرّع التنكيلا
هكذا كان حالي وحال مئات الآلاف من أمثالي الذين عملوا في مهنة التعليم قبلي على مر المئات من السنين في العراق مع الأعتذار للشاعر الراحل أحمد شوقي ولكن الحقيقة المرة تقول أن المعلم سحق سحقا في هذا الوطن وصودرت كرامته وتجاهلت السلطات الحاكمة دوره وأهميته في تربية الأجيال وتنشئتها تنشئة صالحة لكي تخدم وطنها في جميع مجالات الحياة وتوصله ألى شواطئ العلم والأزدهار فمنذ أن كحلت شمس بلاد  الرافدين عيني أول معلم في هذا الوطن الجريح التي تتصارع فيه التماسيح والحيتان والديناصورات وتتخم بطونها المنتفخة بالمال الحرام وتتلذذ بمآسي الفقراء والمحرومين ونتيجة لهذا الصراع المستمر دب                            الضعف والتأخر والخراب في كل أوصال الوطن والمعلم الذي هو جزء من المجتمع المضطهد أول من تأثر بذلك وهو الشخص الذي عانى كغيره من شرائح الشعب الأخرى من الأهمال والتهميش والتجاهل ولم  يسمع من حكامه الذين  تعاقبوا على حكم هذا الوطن     غير الوعود الكاذبة والشعارات الخاوية والوطن الجريح     تعصف به الأهواء وتتضاعف أزماته سنة بعد سنه وبقي المعلم مستلبا متعبأ فقيرا بائسا كباقي أفراد مجتمعه يركض وراء لقمة العيش  ويحصل عليها بصعوبه بالغة حيث يتقاضى راتبه الضئيل ولا يعرف كيف يتصرف به وأين يضعه وهو في حيرة من أمره  لايهتم  به أحد  من الحكام المتخمين ولم يفكروا يوما بتشجيعه حتى معنويا لكي يؤدي رسالته في الحياة. وأذا حصل على قطعة أرض صغيرة في وطنه  فأنه من المحظوظين القلائل وكأنه ربح جائزة الحياة الكبرى  أما أذا رغب في التخلص من الجحيم الذي يعيشه في وطنه الذي عاش فيه كالغريب فحال وقوفه على الحدود يتعرض لأهانات لاحد لها وحين يعرف جلاوزة الحكام على الحدود بأن الشخص الذي يقف أمامهم هو  (معلم ) يستخفون  به ويهان ويحتقر من قبلهم  لابل يتعرض ألى التنكيل والكلمات النابية والتشكيك بالمبلغ الذي جمعه من أجل الخلاص من الوطن الذي حوله الحكام ألى جحيم وصادروا كل خيراته ونعمه التي وهبها الله لأبنائه. لسبب بسيط ذلك لأن الحكام وأعوانهم هم أعداء ألداّء للمعلم لأنه في نظرهم الإنسان  ( ألخطر )الذي يبعث الوعي وشرارة النور في أعماق النفوس الظامئة  للعلم والمعرفة ليغذيها بالتمرد والثورة على واقعها الفاسد المنهك الذي أراده الحكام لكي يتحكموا برقاب الناس ألى أطول يوم ممكن . ويعرف كل أنسان غيور واع ومؤمن بالقيم الإنسانية أن مهنة التعليم هي تلك       المهنة  الإنسانية النبيلة الطاهرة التي تختلف عن غيرها من المهن لأنها تتعامل مع كائنات بشرية لها أحاسيسها وطموحاتها ورغبتها في الوصول ألى أهدافها بالجد والسعي والمثابرة   ثم تترك بصماتها الواضحة على خارطة الوطن . ولابد لكل من وصل ألى  المحطة التي يحلم بالوصول أليها يتذكر معلمه  والعطاء الذي قدمه له في بداية حياته وكيف شجعه ووضعه على الطريق الصحيح . ولكن رأس النظام المقبور  أستهان وسخر منه في أحد  الأيام حين اعتبره  شخصا لايعرف كيف ينظف أسنانه وملابسه ويظهر بالمظهر  اللائق أمام طلابه !!!ويتذكر    العراقيون ذلك جيدا حين زار رأس النظام البعثي المتهرئ صدام حسين أحدى المدارس  ووجه أهاناته البالغة  للمعلمين الذين كان يكرههم كرها شديدا وحين قال له أحد وعاظه في  أحدى الأجتماعات (أن المعلم بحاجة ألى رعاية الدوله وأن راتبه لايسد رمقه ) أجابه الدكتاتور المقبور (عليه أن يعمل بعد الدوام !!!) فاضطر المعلمون للعمل بمختلف الأعمال لكي يسدوا رمقهم ورمق عوائلهم المسكينة المحرومة من أبسط متطلبات الحياة .   لأن الشخص الذي يفرض نفسه على الشعب بالقوة والبطش والغدرولا يمتلك مؤهلات علمية وثقافية يحقد على المعلم    الذي يعتبر  نواة بناء المجتمع ووصوله ألى أعلى مراتب العلم والثقافة والرقي في الدول المتقدمة  ولا عجب أن يظهر شخص آخريحتل مركزا كبيرا  في  هذه الحكومة حكومة المحاصصات والصراعات على المغانم والأمتيازات بعد  مرور ثمان سنوات على سقوط  ذلك الصنم لكي يحذو حذوه   ليصف المعلمين بوصف أقل مايقال عنه أنه غير أخلاقي . رغم أن كل مهنة من المهن لاتخلو من الطارئين عليها ولكن خلط الأوراق وأطلاق صفة التعميم بهذه الصوره هي المأساة بعينها . وكل  دولة  لاتضع أساس متين لاحترام المعلم وتلبية حاجاته وتوفير العيش الكريم له ورعايته رعاية مستمرة تظل تتخبط في دوامة الجهل والتخلف والضياع و رغم أنني كنت قد مارست هذه المهنة من زمن طويل لكنني أحن أليها وأعتز  بها وأعتبر  كل من يستهين بها ويحتقر المعلم  وكأنه يوجه سهمه ألى صدري رغم كل مالاقيته من مشاق نتيجة أخلاصي التام لتلك المهنة المقدسة التي بقيت أمارسها لأثنين وثلاثين عاما بكاملها. ولكن العتب ليس على تلك المهنة الأنسانية  بل على الطارئين عليها والحكام الذين استخفوا بها و بنبضها الحي الطاهر الجليل  الذي هو المعلم .    
ورحم الله  الشاعر الذي  خاطب مهنة التعليم بعبارة (أيا ك أعني واسمعي ياجارة ) تلافيا لبطش الحكام:
طلقتني وظيفة التعليم 
لالعجز ولا لفعل ذميم
نبذتني نبذ النواة كأني
لم أكن مخلصا لها من قديم 
 ورمت بي ألى المجاهل أغفو
على جراحي وحرقتي وهمومي      
وكأني ماكنت أخدم جيلا 
يتمنى الحياة فوق النجوم
وكأني ماكنت أبذل جهدا
وكأني ماكنت أوفى حميم
وكأني  ماكنت أصنع شيئا
به تغزو العقول دنيا العلوم
نسيت أنني قضيت شبابي
في دفاع مشرف وهجوم 
لقد  غزتني الهواجس والأفكار وأنا أجوب في شوارع عمان هائما على وجهي متنقلا بين أحيائها لعلي أجد بصيص من الأمل  بعد أن كاد مافي جيبي من نقود بسيطة ينفذ تماما ومعي أبني وزوجتي وكان حالي في تلك اللحظات الصعبة  ليس كالوصف  الذي وصف أحدهم المعلم قائلا:     
كشمعة أنت في الآفاق لاهبة
عبر  المسالك تجلو حالك الظلم
ولكن حالي كان غير ذلك بعد أن خرجت من وطني بخفي حنين لاأملك من حطام الدنيا شيئا وأنا أتعثر في خطواتي  وأصبح حالي كحال الريشة التي تتقاذفها الريح وهذا البيت يعبر عن ذلك الحال أبلغ تعبير:   
كريشة   في ثنايا  العصف  هائمة
والريح  تصفعها في أحلك الظلم
لم يكن أمامي ألا طريق واحد وهو الأستنجاد بأبني الذي يعمل عاملا في أحد المعامل بأجر زهيد لايكاد يسد رمقه وهو المضطر للخروج من وطنه بعد أن حرم من أية فرصة للعمل في وطنه وهو الحاصل على (بكاليوريوس في الهندسة الكهربائيه ) فمهد الي الطريق للعبور ألى سوريا والمكوث فيها  ألى أن يقيض الله أمرا كان مفعولا رغم الصعوبات الشديدة التي كان يعانيهاحيث أن   الرجوع للعراق أصبح  من سابع المستحيلات لأن   معناه الموت المحقق  وما دام العراقي هو خارج ذلك السجن الصدامي فأن هناك خيطا رفيعا من الأمل للعيش مهما كانت الصعوبات. لقد .بذل أبني جهدا  في مساعدتنا للوصول ألى سوريا عن طريق أربد بعد أن اقترض مبلغا من أحد الأشخاص الذين يشتغل معهم وكان الطريق جميلا تغطيه الأشجار  بعكس الطريق بين بغداد وعمان وحال دخولنا ألى دمشق أبلغنا بالحضور ألى منطقة تحمل رقما معينا لم أتذكره  بعد ثلاثة أيام وعرفنا فيما بعد أنها دائرة مخابرات خاصة بالعراقيين الذين  يرومون الأقامة في سوريا وذهبنا ألى ذلك المكان بعد ثلاثة أيام  من مكوثنا في منطقة  السيدة زينب ع حسب التعليمات التي تلقيناها من المركز الحدودي وكانت تلك المنطقة عبارة عن شوارع ضيقة معزولة يتصل بعضها بالبعض الآخر وهناك أمام تلك الغرفة وفي شمس محرقة في بدايات شهر تموز   وجدت طابورا من العراقيين الداخلين ألى سوريا ينتظرون واقفين فسألت أحدهم ماذا ينبغي علينا أن نفعل  هنا وهل ننتظر ريثما يأتينا شخص ويسأل عنا ؟ فأجابني أنا مثلك لاأعرف فقد بعثوني ألى هذا المكان بعد ثلاثة أيام من وصولي ألى دمشق .  وانتظرنا مع المنتظرين وبعد ساعة أطل أحد الأشخاص برأسه وطلب جوازاتنا فقدمناها أليه وانتظرنا ساعة أخرى وكان الشخص ينادي من داخل الغرفة بالأسماء ونادى بأسمائنا فدخلنا وكانت الغرفة كبيرة وكأنها قاعة  تفضي ألى غرف أخرى متصلة بها بأبواب ووجهنا ذلك الشخص وقال أذهبوا من هذا الباب ألى الغرفة التي تحمل الرقم الفلاني وذهبنا فرأينا شخصا  كأنه ينتظرنا فقال أنت فلان ؟ قلت له نعم وأمرنا بالجلوس في الغرفه وكانت جوازاتنا أمامه يقلبها يمنة ويسره وكأنه نفس الشخص العراقي الذي كان يقلب جوازاتنا في دائرة المخابرات في الكوت والصورة هي الفرق الوحيد بين الأثنين حيث كانت هناك صورة كبيرة ملونة لصدام حسين في صدر الغرفه وهنا صورة ملونة كبيرة لحافظ الأسد .وأخذ يسألنا باللهجة السورية الدارجه : (أنتو من وين جايين ؟) أجبته من العراق ثم سأل ( ألويش جايين شتساووا؟ ) فأجبته جئنا للأقامة في سوريا العزيزة علينا . فأجاب أجابة أستنكارية بكلمة (ها ها) والسيكارة في فمه تتحرك  (بعثكم صدام للتخريب ؟) ولم أكن أتوقع هذا الكلام منه  فقلت له أي تخريب ياأخي؟ نحن هاربون من جحيم صدام لكي نقيم في هذا البلد الطيب. فسكت قليلا ولم يهتم بجوابي وكأنه لايعنيه وعقب قائلا: أنته كنت  أشتشتغل في العراق ؟ فأجبته : كنت معلما وتقاعدت قبل فتره وكذلك زوجتي وأبني طالب في الثانويه . فأجاب  بعبارة  (كويس  حانشوف)ثم وزجه نظره ألي   وسلمني  ثلاث أستمارات فيها العديد من الحقول الخاصة بي ومنها الأسم الثلاثي والمولد ومكان العمل في العراق والعنوان الجديد في سوريا  ورقم الهاتف والأشخاص الذين أعرفهم في سوريا ومعلومات كثيرة أخرى لاأتذكرها فملأ كل منا الأستماره  بعدها أعطاني ورقة بيضاء وطالبني بأن أكتب فيها  تقريرا عن الأوضاع السائدة في العراق فابتسمت فانبرى صارخا (ليش تضحك ولك ) وكان يصغرني بثلاثين سنة تقريبا فأجبته  أنا  لم أضحك فصرخ مرة أخرى (أخرس ولك !!!)ولم أجبه. ثم أمرنا  بالخروج وقال ربما  سنستدعيكم ا مرة أخرى حتى نعرف (قصتكم ومين بعثكم!!!) دون أي كلمة أعتذار نتيجة تهجمه وسوء خلقه وخرجنا من ذلك المكان  نحن الثلاثة نجر خطانا جراوواحدنا ينظر في وجه الآخرمن هذا الأسلوب الوحشي في التعامل وكأننا مازلنا في العراق وقد انتابني شعور عميق بأن   (البعث  الأسدي) لايختلف في جوهره عن (البعث  الصدامي ) رغم أنهما مختلفان في التوجه والأفكار والطروحات ولكنهما  مشتركان تماما في القمع ومصادرة الحقوق وزج  الأحرار في السجون .
أنطلقنا ألى مدينة حلب حيث يعمل أبني  وكان بدوره يستأجر غرفة متهالكة في أحدى الحارات الشعبية وو صلنا هناك  فحشرنا أنفسنا فيها  ونحن في أشد حالات التعب والأرهاق وقضينا ليلة وسط ضجيج السيارات الذي استمر حتى الصباح  ونحن ننتظر الفرج في هذه المدينة الكبيره بعد أن تحدثنا طويلا  عما جرى لنا ولا ندري ماذا سيخبئ لنا المستقبل في مدينة حلب  الكبيرة الصاخبه.    
 9/3/2011 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=3945
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 03 / 10
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28