• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : العبادة من دون الولاية عصيان وعدوان .
                          • الكاتب : مكتب سماحة آية الله الشيخ محمد السند (دام ظله) .

العبادة من دون الولاية عصيان وعدوان

ومضمون هذه الروايات يتضمّن ما تقدّم من أنّ الولاية شرط في الصحّة فضلاً عن القبول، وشرط في أُصول العقائد فضلاً عن الفروع. ويزيد ويمتاز بمعنى ثالث، وهو أنّ تلك الأعمال التي صورتها إيمان وطاعة هي في حقيقتها كفر ومعصية.
 
وهذا المعنى يثقل على السامع تصوّره فضلاً عن تصديقه في الوهلة الأُولى، وتمجّه النفوس وتنفر منه الأذهان وتتلّكأ عنده الألسن، لكن الحقيقة إذا اتضحت معالمها لا مفرّ من الأخذ بها واتّباعها، وإذا حصحص الصبح انقشعت غياهب الظلمة.
 
الأوّل: قد مرّ أنّ حقيقة وروح ومخ وقوام العبادة هو بالطوعانية والضراعة والخضوع والتذلّل للباري، والتسليم والسلم والانقياد له، وهو جوهر العبادة والعبودية وقلب ومركز وقطب معناها، فمع خلوّها عنه لا تعدوا أن تكون قشور خاوية اللب وبدن جائف ميتة بلا روح، فهو قوام القربة والتقرّب، فالعبادة والعبودية هي الطاعة والطوعانية، والطاعة هو الانقياد لإرادة الله والخضوع لها. وأمّا تحكيم إرادة النفس على إرادة الربّ فهو تجرّي واستكبار على العظيم ـ عزّ وجلّ ـ وعصيان له.
 
وإرادة الله لا يهتدي إليها البشر من نفسه، ومن ثمّ احتاج إلى بعثة الرسل، وبمجملات الشريعة ومتشابهاتها لا يحيط البشر بتفاصيل إرادة الربّ من قبل أنفسهم، ومن ثمّ اضطرّوا إلى الحجّة والإمام الراسخ في العلم الذي تكون إرادته ومشيئته هي مظهر مشيئة وإرادة الله. فمن ثمّ امتنع الاطّلاع على إرادات الربّ من دون حجّته وخليفته في أرضه، ومن ثمّ اضطرّ البشر إلى ولاية خليفة الله والمطهّر من عترة نبيّه لكي يطّلع على مواطن إرادات الله ورضاه.
 
وإلاّ امتنع عليهم عبادة الله، وكانوا فيما يمارسونه من طقوس وصور عبادية هي معاصي وتجرّي على الله ; بتحكيمهم إراداتهم وميولهم وأهوائهم على إرادة الله، وكانوا يطيعونه من حيث تريد أنفسهم ولا يطيعونه من حيث يريد، ولأجل ذلك احتاجوا في تحقّق عبادتهم لله تعالى إلى دلالة وهداية الإمام والحجّة المنصوب من قبله.
 
ومن ذلك يتبيّن أنّ السجود الطويل من قبل إبليس حيث لم يكن منطوياً على الخضوع لله ; لعدم خضوع إبليس لمن أمره الله تعالى بالخضوع له وهو خضوعه لآدم وتوليّه له، فلم يكن إبليس في صورة طاعته مقيم على الطاعة ولا خاضع لإرادة الربّ، بل كان في سجوده مقيم على الجموح والطغيان والتعدّي على الربّ وتحكيم إرادته على إرادة الله وكان سجوده الصوري حقيقته معصية وطغيان واستكبار وعدوان على ساحة القدس الإلهي.
 
وبذلك يتبين أنّ صورة العبادات من دون طاعة الله بولاية وليه هي عدوان وعصيان، وترك للمواطن الحقيقية لعبادة الله، وانتهاج لمناهج عبادية تتطاول فيها إرادة العبد على إرادة المعبود. وبهذا البيان العقلي يتبين المعنى الثالث للقاعدة وهي شرطية الولاية في العبادات والأعمال أن بدونها تكون تلك الأفعال هتوك واجتراءات على المولى العزيز يؤزر فاعلها ويأثم بها بدل أن يُثاب، لا أن يُحرم من مجرّد الثواب.
 
هذا تقرير لهذا الوجه في الأعمال، وأمّا تقريره على صعيد الإيمان والاعتقادات فبيانه أنّ الإيمان عمل كلّه وطاعة كلّه، فليس الطاعة والعمل مخصوصين بأعمال الجوارح بل يعمّان أعمال الجوانح، كما يعمّان أعمال القلوب من الإيمان بالأصول الاعتقادية، ولذلك ورد أنّ أوّل الفرائض التي افترضها الله على العباد هو التوحيد والمعرفة بمعنى الإيمان والإذعان والإخبات والتسليم، وكذلك الإقرار القلبي ببعثة الرسل والمعاد والكتب وكذلك بأوصياء الرسل وهم الأئمّة المستخلفين بعدهم كما مرّ في مفاد آية المودّة الدالّة على أنّ تولّي العترة المطهّرة هو من أصول الديانة، وكذلك هو مفاد آيتي المائدة النازلتين في بيعة الغدير، وغيرها من طوائف الآيات والأحاديث النبويّة الدالّة على ذلك.
 
فإذا تقرّر أنّ الإيمان بأُصول الدين فريضة وطاعة وعمل بل هو من أكبر الفرائض وأعظم الطاعات والأعمال ـ يتبين أنّ الإيمان أيضاً لابدّ فيه من الإخبات والخضوع والانقياد والتسليم ونحو ذلك، بخلاف ما إذا امتزج بجموح واستكبار وعناد وجرأة على ساحة الباري، فإنّه لن يعود طاعة وعملاً عبادياً، بل سيكون معصية وطغياناً وفرعنة وصنمية للنفس، وعبادة للطاغوت لا عبادة لله.
 
فالإباء والاستكبار عن الإخبات والتسليم والإيمان بوليّ الله وخليفته يدلّ على انقلاب حقيقة الإيمان إلى طغيان وكفر، أي يدلّ على صورية الإيمان بالتوحيد والمعاد ; إذ مقتضى الإقرار بالتوحيد هو الإقرار بكلّ الصفات الكمالية للباري، وأنّه الغنيّ المطلق، وأنّ المخلوقات هي عين الفقر المحض والافتقار إليه تعالى، وأنّ له الملك وهو مالك جميع الأشياء، فله ملك ذوات المخلوقات ووجوداتها وأفعالها، وله مالكية الخضوع والطاعة.
 
فالتمرّد عليه في أُمّهات الطاعات استكبار وإنكار لهذه المالكية، فيرجع إلى الخلل في الإيمان بالتوحيد، وبالتالي يتّضح أنّ عصيان الله في التولّي لوليه هو كفر بمالكية الله واستحقاقه للطاعة، نظير الخلل الواقع في الإيمان بالمعاد أو بالرسالة، فإنّه يؤول إلى الخلل في التوحيد أيضاً فيكون هناك غاية وراء الله، فتكون والعياذ بالله ـ ذاته محدودة.
 
وكذلك الحال في إنكار الرسالة، فإنّه يرجع إلى إنكار كون صلاحية الحكم والتشريع للباري، وبالتالي يؤول إلى عدم الإقرار بعلم الباري النافذ ولا بحكمته ولا بإحاطته بخفيات وعواقب الأُمور.
 
فالإقرار والإيمان بالتوحيد بمنزلة الإقرار المبهم المجمل الذي لا يتمّ تفصيله وكماله إلاّ بالإقرار بالتوحيد في مقامات أُخرى، فالإيمان بالمعاد هو مقام آخر من مقامات التوحيد وهو التوحيد في الغاية ـ كما أنّ أصل التوحيد هو توحيد في مقام المبدأ والأوّلية، ولا يكمل التوحيد بالاعتقاد بأنّه أوّل من دون الاعتقاد بأنّه آخر، كذلك الحال في الاعتقاد بالرسالة وببعثة الرسل والكتب المنزّلة، هو اعتقاد بالتوحيد في مقام التشريع {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}.
 
ونفس الشيء يقال في الولاية والإمامة، هو اعتقاد بالتوحيد في مقام الطاعة والولاية، فهذه مقامات وأركان للتوحيد لا يتمّ صرح الاعتقاد بالتوحيد إلاّ بها. وفي تفسير القمّي عنه (عليه السلام) حينما سئل عن التوحيد قال: “هو لا إله إلاّ الله، محمّد رسول، عليّ وليّ الله، إلى ها هنا التوحيد”(2).
 
وفي البصائر والتوحيد: عن الصادق (عليه السلام) في بيان فطرة التوحيد، قال (عليه السلام): “فطرهم على التوحيد، ومحمّد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) “(3).
 
وبذلك يتبيّن أنّ الاعتقاد ببعض الأُصول والتخلّف عن البعض الآخر، هو كالاعتقاد ببعض الصفات الإلهية وإنكار البعض الآخر، ويؤدّي إلى القول بمحدودية الذات وتركيبها وتجزّئها، ومن ثمّ ورد قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ}(4).
 
الثاني: قد تقدّم في الأدلّة القرآنية والروائية السابقة أنّ الأعمال تحبط، وهي حابطة بدون الإيمان، وهذا غير مختصّ بالفروع بل شامل للأُصول أيضاً، والحبط الأخروي للعمل والاعتقاد وإن لم يكن في الاصطلاح الفقهي ملازماً لعدم صحّة العمل والاعتقاد، كذلك في المصطلح الكلامي الدارج، وأنّه فساد بلحاظ الثواب الأخروي والقبول، لا بلحاظ ماهية العمل.
 
إلاّ أنّ الحبط وفق نظرية تجسّم الأعمال أنّ الجزاء هو عين العمل وحقيقته الباقية، ويكون موجب الحبط كاشفاً عن دخالة ذلك الشيء في الوجود البقائي للعمل والاعتقاد. وبعبارة أُخرى عندما لا يكون للعمل أجر وثواب فذلك يعني أنّه ليس للعمل حقيقة باقية في الأبد الأخروي، فليس هناك إلاّ صورة العمل لا حقيقته، ويستلزم ذلك كون الموجب للحبط دخيلاً في حقيقة العمل وبقائه، وكذلك دخيلاً في حقيقة الاعتقاد وبقائه.
 
ويتبيّن صورية الاعتقاد والأعمال بدون الإيمان، وليس المقصود من صورية الاعتقاد مجرّد الإقرار اللساني، بل إنّ عقد القلب هو على الصورة لا على الحقيقة، فما رواه الفريقان من حبط الأعمال والاعتقادات من دون حبّ علي (عليه السلام) وولايته كما مرّت الإشارة إلى المصادر ـ وكذلك ما رواه الفريقان أنّه قسيم الجنّة والنار، وأنّ حبّه إيمان وبغضه نفاق، دالّ على حبط الاعتقاد فضلاً عن العمل بدون ولايته.
 
روى الصدوق في الأمالي بإسناده عن ابن عبّاس قال: “قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): المخالف على عليّ بن أبي طالب بعدي كافر، والمشرك به مشرك، والمحبّ له مؤمن، والمبغض له منافق، والمقتفي لأثره لاحق، والمحارب له مارق، والراد عليه زاهق، عليّ نور الله في بلاده، وحجّته على عباده، وعلي سيف الله على أعدائه ووارث علم أنبيائه، عليّ كلمة الله العليا، وكلمة أعدائه السفلى، عليّ سيّد الأوصياء ووصيّ سيّد الأنبياء، عليّ أمير المؤمنين وقائد الغرّ المحجّلين وإمام المسلمين، لا يقبل الله الإيمان إلاّ بولايته وطاعته”(5).
 
_________________________________
 
1- البحار 27 / 187 ـ 190.
 
2- تفسير الصافي 4 / 132
 
3- المصدر السابق.
 
4- سورة يوسف 12: 106.
 
5- الأمالي: 61.



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=38091
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2013 / 10 / 17
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19