• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : عودة أخرى لموضوع استقلالية الجامعة والحرية الاكاديمية .
                          • الكاتب : ا . د . محمد الربيعي .

عودة أخرى لموضوع استقلالية الجامعة والحرية الاكاديمية

استقلالية الجامعة والحرية الأكاديمية هي من الأساسات الهامة للغاية لبناء الجامعة في العصر الحديث. واستقلالية الجامعة مفهوم محدود يعني به حرية الجامعات وعدم خضوعها الى السيطرة الخارجية في المسائل المتعلقة بالفعاليات الأكاديمية وفي صياغة وتنفيذ السياسات والبرامج الجامعية. ويفترض أن تدار الجامعة المستقلة من قبل ادارة معينة او منتخبة من قبلها بالكامل وينبغي ألا يكون هناك املاء من خارج الجامعة إلى ما ينبغي أن تكون معاييرها الاكاديمية والعلمية ما عدا تلك الشروط التي تضعها سلطات التمويل لترشيد ومراقبة صرف الاموال الممنوحة من قبلها. 
 
استقلال الجامعة يحمل طابع متعدد الأبعاد. هناك قائمة واسعة الابعاد، ولكن معظم الكتاب يتفق إلى حد كبير على ثلاثة، هي الاستقلالية المؤسساتية، والاستقلال المالي، والاستقلال الأكاديمي. يشير الحكم الذاتي المؤسساتي إلى قدرة وسلطة مؤسسات التعليم العالي في تحديد أهدافها الخاصة، وتعيين مجلس إدارتها، واختيار وتوظيف الموظفين والاكاديمين. ويشير الاستقلال المالي إلى قدرة مؤسسات التعليم العالي على الحصول على التمويل، وتحديد الرسوم الدراسية، وامتلاك وإدارة المباني. بعض الكتاب ميز بين الحرية الأكاديمية والاستقلال الأكاديمي. فالحرية الاكاديمية تخص عمل الأكاديميين وهو مفهوم يختلف عن الحكم الذاتي الموضوعي الذي يدل على قوة المؤسسة لتحديد أهدافها وبرامجها. وهناك طابع اخر للاستقلالية وهي الاستقلالية الإجرائية (أي الحكم الذاتي الإداري/ التنظيمي) الذي يؤكد على قوة وقدرة المؤسسة في تحديد وسائل تحقيق اهدافها وبرامجها والقدرة على تقديم برامج دراسية وتحديد هيكليتها ومحتوياتها وطول الدراسة (ايسترمان ونيقولا، 2007، دراسة لمنظمة الجامعة الاوربية في بروكسل).
 
في الدول الليبرالية تعتبراستقلالية الجامعة والحرية الاكاديمية ضرورية لتطوير الجامعة والابداع ونقل وتطبيق المعرفة. هدفهما حماية الجامعة من تدخل المسؤولين الحكوميين في ادارة المؤسسة، خاصة بشأن القضايا المتعلقة باختيار الطلاب، وتعيين وعزل أعضاء هيئة التدريس ورئيس الجامعة ونوابه وعمداء الكليات، وتحديد محتوى التعليم الجامعي ومراقبة معايير التدريس والبحث، وتحديد حجم ومعدل النمو، وتحديد التوازن بين التدريس والبحث والدراسات العليا، واختيار المشاريع البحثية وحرية النشر، وتخصيص الاموال للصرف على مختلف مشاريع الإنفاق. للحرية الأكاديمية بعد آخر فهي تكفل حرية التعبير وحرية العمل، وحرية نشر المعلومات وحرية إجراء البحوث ونشر المعرفة والحقيقة من دون قيود. بهذه المعايير يمكننا اعتبار ان الجامعة العراقية بالرغم من امتلاكها لبعض اللامركزية في القرارات لازال امامها طريق طويل للحصول على استقلاليتها وللحريات الاكاديمية ان تتبلور بداخلها.
 
وكثيرا ما قلنا أن للجامعات في العراق لكي  تتطور وتلعب دور فعال في بناء الاقتصاد العراقي والاضطلاع بمسؤولياتها على نحو فعال، يجب ان تتمتع بدرجة عالية من الحكم الذاتي بالإضافة إلى توفير الحرية الأكاديمية لاعضاء هيئة التدريس. ويمكننا ان نستشهد على ذلك بأمثلة من بلدان عديدة حيث اظهر تقرير للبنك الدولي كيف يمكن للاستقلال المالي والإنفاق ان يكونا بمثابة حوافز لتحسين الجودة والكفاءة في مختلف نظم التعليم العالي ووفقا لتصنيف البنك الدولي فان أفضل الجامعات هي الجامعات المستقلة بدرجة كبيرة. الدراسة التي صدرت للبنك الدولي في عام 2011، بعنوان الطريق إلى التميز الأكاديمي: تكوين الجامعات البحثية ذات الطراز العالمي، وجدت أن الجامعات الجديدة يمكن أن تنمو إلى أفضل المؤسسات البحثية ذات الجودة العالية في غضون عقدين أو ثلاثة عقود عندما تتوفر المواهب الأكاديمية والموارد المالية والاستقلالية والحرية الأكاديمية منذ بداية التأسيس. شملت الدراسة التي اجراها كل من جميل سالمي وفليب ايلتباخ عددا من الجامعات الناجحة في افريقيا واسيا وامريكا اللاتينية واوربا الشرقية وكشفت الدراسة كيف ان هذه الجامعات الناجحة (وهي جامعة هونغ كونغ للعلوم والتكنولوجيا، جامعة شنغهاي جياوتونغ في الصين، جامعة بوهانغ للعلوم والتكنولوجيا في كوريا الجنوبية، وجامعة سنغافورة الوطنية، والمعهد الهندي للتكنولوجيا، وجامعة ابادان في نيجيريا، ومعهد مونتيري للتكنولوجيا في المكسيك، ومدرسة روسيا العليا للاقتصاد) أصبحت كبيرة وناجحة في فترة قصيرة من الزمن. لقد تميزت هذه الجامعات محليا وعالميا لامتلاكها لثلاث خصائص مشتركة - نسبة عالية من الأكاديميين والطلاب الموهوبين، وميزانيات كبيرة ورؤية استراتيجية وقيادة حكيمة.
 
تتفق المجتمعات الدولية المتطورة على كون الجامعة كمجتمع للعلماء حرة في السعي وراء المعرفة دون تدخل لا مبرر له من أية جهة، وعلى  كون كل جامعة لديها قوانينها الخاصة وتعليماتها التي تنص على تحديد وظائف الأجهزة المختلفة في مؤسستها مثل المجلس الإداري والمجلس الاكاديمي  ولجان الكليات والاقسام وهلم جرا. 
 
هل يمكن للجامعة العراقية أن تكون مستقلة تماما؟ ان فكرة الحكم الذاتي او الاستقلالية موجودة منذ عام 2003 عندما بدأتُ شخصيا بطرحها في اروقة الحكم والتعليم العالي الا انها بقيت 'محدودة' وغير مفهوهة، وعلى الرغم من أن فكرة الاستقلالية في الجامعات مقبولة من قبل الهيئات الاكاديمية للجامعات وقد يدعو لها ويتمناها كل رؤوساء الجامعات الا انها لم تطرح بصورة مشروع ممكن التحقيق عن طريق التشريع، ويبدو أن الموضوع لا يتعدى رغبات تطرح في كواليس الجامعات والوزارة والبرلمان الا انها سرعان ما تصطدم بجدران النظام الاداري المركزي البيروقراطي والروتيني العراقي وبصعوبة اجراء الاصلاحات والتعديلات الدستورية مثلها مثل أكثر القضايا الملحة المعاصرة مثل محاربة الارهاب والفساد بكل أشكاله، وتحسين الاقتصاد والنهوض بالخدمات الصحية والاجتماعية للبلاد. كما ان الشعور العام باحتمالات نشر الفوضى بانتشار اللامركزية الادارية، وعدم الايمان بان الاختلاف والمنافسة يمكنها ان تدفع الجامعات نحو التطور والرقي بصورة افضل من معاملتها من قبل جهة مركزية واحدة وبصورة متساوية كأسنان المشط يساهم في ترسيخ الطريقة المركزية في توجيه وادارة الجامعات ومعالجة مشاكلها. هناك مسؤولين داخل الجهاز الاداري للدولة يرغبون في تشغيل الجامعات بحكم تعريفها كدائرة حكومية مثلها مثل "امانة العاصمة" وضمن شروط عمل الاكاديمي كموظف دولة، الا انه في الجانب الآخرعندما ندعو للاستقلالية لا نعني اعتبار الجامعة كشركة تجارية.
 
تتفق الستراتيجية الوطنية للتربية والتعليم في العراق مع ما طرح اعلاه في ان المشاكل الادارية التي يعاني منها الهيكل التنظيمي للدولة، والمتمثل باتباع التنظيم العمودي والمركزي، والمتسبب بانعدام مرونة القوانين، وعدم مواكبتها للتغيرات السريعة في القطاعات التعليمية الدولية يشكل عائقا اساسيا امام عمل الجامعات واستقلاليتها. وتؤكد الستراتيجية على وجود تداخل وتضارب وعدم وضوح كبير في الصلاحيات الخاصة بكل مستوى من المستويات الادارية. ولحل هذا المشكل توصي الستراتيجية بتشريع قانون جديد يضمن القضاء على التداخل، وزيادة مستوى اللامركزية، ودعم استقلالية الجامعات والمديريات العامة للتربية.
 
انا على ثقة بان هذا الأسلوب الاداري في التعامل مع الجامعات لن يدوم طويلا طالما ان هدف الوزارة والجامعات والدولة هو تحسين وتطوير التعليم العالي ليصل الى مصاف الدول المتطورة. كما اني ايضا على ثقة بأن استقلالية الجامعة لهو طريق طويل يتخلله عقبات كثيرة تحول دون تحقيقه، ويتضمن برنامج طويل المدى تمنح فيه الجامعات صلاحيات واسعة في التعيين وفتح او اغلاق الاقسام ومنح الشهادات ووضع المناهج والامتحانات وطرق الصرف المالي.
 
أعيد اقتراحي الذي نشرته في مقالة سابقة حول الموضوع والمتضمن اسلوب عملي كبداية الطريق وعلى أساسه يتم الفصل بين مركزية التخطيط والاشراف من قبل الوزارة، واستقلالية الشؤون الادارية والاكاديمية للجامعات، بحيث يحكم الوزارة وزيرها وجهازها الاداري بالاضافة الى وجود مجلس استشاري يضم ممثلين عن جميع اصحاب المصالح المتعلقة والفئات صاحبة المصلحة من رؤساء الجامعات والاساتذة والطلبة والخريجين والوزارات القطاعية، خصوصا وزارة التربية ووزارة العلوم والتكنولوجيا والقطاع الخاص وعلماء وخبراء تربويين من داخل وخارج العراق. وبحسب هذا الاقتراح تتضمن مسؤوليات الوزارة التخطيط، ووضع الاطار العام للسياسات لتطوير التعليم الجامعي واعداد الدراسات التربوية، ومشاريع القوانين والترخيص والمراقبة والاشراف ومعادلة وتصديق الشهادات والتمويل وارسال البعثات الدراسية الى خارج العراق والاشراف على المكاتب الثقافية في الخارج، بينما تحكم الجامعات نفسها بنفسها وذلك بتشكيل مجلس أمناء لكل جامعة لغرض الاشراف على ادارة اعمالها، وان تدار الشؤون الادارية والاكاديمية والمالية من قبل مجلس أداري/أكاديمي حسب نظام داخلي خاص بالجامعة. 
 
ومن الامور التي تهم الجامعات هي التعليمات الوزارية التي تتعلق بتسير عملها الاداري والاكاديمي والتي قد تربك العمل الجامعي وتؤثر على سلامة العملية الاكاديمية، وتبدو اليوم كما كانت عليه في الماضي مصدر قلق وارباك للتدريسين وللاجهزة الادارية للجامعات على حد سواء. وبما ان الهدف هو تحسين التعليم العالي في العراق عن طريق وضع التشريعات والتعليمات الملائمة والتي تضمن سلامة العملية التربوية بما تخدم مصلحة البلاد، لذا نرى ضرورة اعتماد ما تمليه على الوزارة من وجود جامعات تختلف احجامها وبرامجها ومواقعها ومستويات اساتذتها العلمية واهتماماتهم البحثية والتدريسية وضروف مجتمعاتهم، بالاضافة الى ما يمليه وجود وزارتين للتعليم العالي ووجود سلطات كبيرة لمجالس المحافظات تستطيع لدرجة ما فرض بعض الاحكام على جامعاتها المحلية ان تبدأ عملية صناعة القرار من الجامعات كل على حدة صعودا للوزارة (من اسفل الى فوق) بحيث تعامل الوزارة كل جامعة باعتبارها مؤسسة ذات اعتبار ذاتي، ويتعلق هذا بالتشريعات الخاصة بالقبول والبرامج والمناهج والامتحانات والبحث العلمي. وبهذا ستكون الوزارة مؤسسة ادارية وتنظيمية واشرافية تستجيب مباشرة لمشاريع وطموحات ورغبات الجامعات وسوقها المحلي بدلا من ان تملي عليهم ما ترى صحته، ولربما هذا الطريق هو الاسلم نحو تحقيق استقلالية الجامعة، ويدفع نحو استقرار العمل الاكاديمي عن طريق تقنين وتحجيم التعليمات الهائلة التي تصل الجامعات وتلك الناتجة عن اراء سريعة غير مجربة قد يمليها الوضع السياسي غير المستقر والذي تمزقه النزعات الداخلية. 
 
وما لم يتم إعطاء الحرية الأكاديمية مكانتها اللازمة داخل الجامعة، فاننا لن نستطيع من تحسين جودة المؤسسة التعليمية بدرجة عالية ولا يمكننا من ترقيتها إلى مستوى التميز.  في الجامعات ذات المستوى العالمي، يشارك الأكاديميون كمواطنين أحرار داخل المجتمع وكخبراء في مجالات عملهم لتقديم الخبرة من دون رقابة او محاسبة. في حين انه في البلدان التي تتواجد فيها قيود ادارية ووظيفية ينحسردور الأكاديميين ويسكتهم التنظيم الاداري عن التعبير عن ارائهم وهمومهم وهذا يمكن أن يكون خسارة للمجتمع عندما ينطلق صوت الساسة ومدعي الثقافة والمعرفة عاليا. في إجابة مقتضبة على لماذا أصبحت ستانفورد جامعة من الطراز العالمي في غضون فترة قصيرة نسبيا من وجودها قال رئيس الجامعة: "ستانفورد تكتنز الحرية الأكاديمية وتعتبرها روح الجامعة".



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=36388
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2013 / 09 / 09
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28